إيلان بابيه والدولة الواحدة- منير شفيق
نشرت القدس العربي في 28 تموز/ يوليو 2016 ملخصاً لمحاضرة ألقاها المؤرخ اليهودي البروفسور إيلان بابيه في الناصرة، جاء فيها: “إن نظام الفصل العنصري في إسرائيل بات مؤسّساتياً وسافراً، وأشدّ خطورة مما كان في جنوب أفريقيا “.
وأضاف قائلاً: “في جنوب أفريقيا لم يقولوا للبيض هذا ليس وطنكم، بل طالبوا بتغيير النظام وبالحقوق المتساوية لكل السكان“.
وبناءً عليه دعا إيلان بابيه، مستشهداً بما كتبه في كتاب “أوجه الشبه بين جنوب أفريقيا وإسرائيل”، الفلسطينيين “للتخلص من قاموسهم السياسي القديم وقراءة الصراع بحقيقة جوهره“.
كيف على الفلسطينيين أن يُعيدوا قراءة الصراع: “الحلّ الممكن الذي يجب طرحه وتبنيه من قبل القوى التقدّمية واليسارية هو حلّ الدولة الواحدة، مع التأكيد على أن القيادة الصهيونية تسعى إلى تكريس الحالة القائمة على مشروعها الاستراتيجي الذي لم تنجح في تحقيقه بالكامل”. وذلك، “بالرغم مما ارتكبته من جرائم إبادة مخطط لها قبل النكبة وخلالها وبعدها“.
ومن الأسباب التي بنى عليها هذا الحلّ “أن الصراع ما زال يدور بين حركة استيطانية استعمارية وبين حركة تحرّر قومي، وليس صراعاً بين حركتيْ تحرّر قومي”. أما رأيه في الوضع الراهن الذي وصل إليه الفلسطينيون اليوم فيقول: “يستحيل الفصل بين المجموعتين السكانيتين على أرض فلسطين الكاملة بسبب الاستيطان الاحتلالي، فهو ليس احتلالاً عادياً، وإنما احتلال اقتلاعي استيطاني، بذات الوقت خلق حالة أبارتهيد فريدة من نوعها في داخل إسرائيل وفي المناطق المحتلة عام 1967“.
الحلّ الذي يقدمه إيلان بابيه هو حلّ الدولة الواحدة. فمن جهة أن حلّ الدولتين 20 في المئة للفلسطينيين و80 في المئة لليهود “كذبة كبيرة، ولا يمكن أن يطبّق”، أما من جهة أخرى، فيجب “التوقف عن القول احتلال بل نقول استعمار، ونتوقف عن قول تسوية بل نقول تفكيك النظام الاستعماري، عندها تكون فرصة لوقف الصراع“.
هذا ما انتهى إيلان بابيه إليه ،وهو الذي اشتهر بكتاباته التي أرّخت لنكبة 1948، وقد أكد فيها أن عملية تهجير الفلسطينيين تمت بالقوّة والمجازر داحضاً مزاعم الذين ادّعوا أن الفلسطينيين قد غادروا فلسطين بإرادتهم وخيارهم. وكانت تلك الكتابات هامّة ومحقة على المستويين التاريخي والصراعي، ولا سيما في أوساط بعض المثقفين الذين انساقوا وراء المزاعم الصهيونية.
وكان إيلان بابيه محقاً في مغادرة فلسطين والإقامة في بريطانيا، وخصوصاً إذا ما تخلى عن “جواز سفره الإسرائيلي”، لأنه بهذا يكون قد انسجم مع نفسه ما دام يعتبر “الحالة الإسرائيلية” حالة “استعمارية استيطانية اقتلاعية“.
ولكنه حين يعتبر أن الحلّ الوحيد الممكن هو حلّ الدولة الواحدة، كما كان حلّ الأبارتهيد في جنوبي أفريقيا، فيتناقض مع أطروحته الأساسية، وهي اعتبار الحالة الصهيونية في فلسطين استعماراً استيطانياً اقتلاعياً في مقابل حركة تحرّر قومي من جانب الفلسطينيين، كما يتناقض مع مقدّمته حين يقول: “إن الديمقراطية غير ممكنة مع نظام الفصل العنصري في إسرائيل. فهناك في جنوب أفريقيا الأغلبية تستطيع بالصوت إسقاط حكم الأقلية العنصري، في إسرائيل الفصل العنصري أصعب لأن الضحايا أقلية ولا تستطيع تغيير الواقع بالانتخابات”. فإيلان بابيه هنا ينفي الشبه في الحلّ بين فلسطين وجنوبي أفريقيا. ولكنه لم يلحظ هنا، إلى تناقضه، أنه أسقط حق عودة كل الفلسطينيين الذين هُجِّروا عام 1948 و1967 وما بينهما وبعدهما، علماً أنه في مكان آخر يؤيّد عودتهم.
على أن الخطورة الأشدّ في طرح دعاة الدولة الواحدة، وفي مقدّمهم إيلان بابيه، أنهم يوجهون النضال إلى فضح النظام “الاستعماري الاستيطاني الاقتلاعي”، وصولاً إلى أن يهبط حلّ الدولة الواحدة بالمظلة على الاستعماريين الاستيطانيين الاقتلاعيين، فيقبلون به لكي يتحقق “الحلّ الوحيد الممكن”؟
لا يلحظ هؤلاء الدعاة أن مثل ذلك الطرح كاذب ووهمي ومخادع أكثر من طرح حلّ الدولتين الكاذب والوهمي والمخادع، كما يصفونه، هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فهم يحبطون مشروع الانتفاضة الثالثة، وما يجري من مقاومة ضدّ الاحتلال والاستيطان للأراضي المحتلة عام 1967، وبهذا يتركون الاحتلال ليثبت الاستيطان وتهويد القدس والضفة الغربية، كما يكرسون حصار قطاع غزة وتأبيد سجن الأسرى، فيما أصبحت موازين القوى الراهنة عالمياً وإقليمياً وعربياً، بفوضاها وسلبياتها، كما بضعف الهيمنة الغربية ومأزق الحكومة الصهيونية، تسمح بتطوير الانتفاضة إلى انتفاضة شعبية شاملة تملأ الشوارع بالجماهير التي تعلن العصيان الشعبي المدني السلمي، إلى جانب ما يقوم به الشباب والشابات من أشكال مقاومة، وصولاً إلى إجبار حكومة نتنياهو وجيشها المهزوم في أريع حروب على سحب الاحتلال، وتفكيك المشتوطنات وبلا قيد أو شرط.
وبهذا يمكن أن تحرّر الضفة الغربية والقدس ويسقط الاحتلال (1967) والاستيطان وبلا قيد أوشرط، لينشأ وضع جديد، ومعادلة جديدة، تكون فيها القدس والضفة الغربية وقطاع غزة في وضعية المتحرّر من الاحتلال والاستيطان والحصار. ومن هذه النقطة سوف تبدأ رحلّة جديدة في المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني ووجوده الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. أما الحلّ فلن يكون من خلال هبوط حلّ الدولة الواحدة بالمظلة مع الاستعماريين الإستيطانيين الإحلاليين في فلسطين، وإنما هزيمة هذا الوجود بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وبعدئذ لكل حادث حديث. أما إعطاء من مارسوا استعمار فلسطين واستيطانها واقتلاع شعبها، والسُكْنى في بيوته ومصادرة قراه ومدنه وأراضيه وبيوته وممتلكاته، حق المواطنة سلفاً وبالمجان؛ فأمرٌ يخدم حالة استمرار الاستعمار والاستيطان والاقتلاع؛ وإعطائه نوعاً من الشرعية، في الوقت الذي لا شرعية له في كل المقاييس، وفي مقدّمها القانون الدولي والمواثيق الدولية.
فالبروفسور إيلان بابيه حين يطالب الفلسطينيين “بالتخلص من قاموسهم السياسي القديم وقراءة الصراع بحقيقة جوهره” إنما يفعل كما يحرث الجمل: “يحرث ويلبد”. ثم إذا كان صراع بحقيقته “صراعاً ضدّ احتلال استعماري اقتلاعي استيطاني” وكان من جانب الفلسطينيين: “صراع حركة تحرّر قومي”، فكيف يدعوهم بأن لا يقولوا لأولئك الاستعماريين الإستيطانيين الإحلاليين: هذا ليس وطنكم إنه وطننا، ومن ثم لا ينطبق حين لم يقل الأفارقة في جنوب أفريقيا للبيض “هذا ليس وطنكم، بل طالبوا بتغيير النظام وبالحقوق المتساوية لكل السكان“.
هذا من دون أن نتطرق إلى حقيقة كبرى تميّز فلسطين باعتبارها جزءاً من وطن عربي وعالم إسلامي، وجزءاً من الأمة العربية والإسلامية، وليست جزيرة منعزلة. فهي بكل الأحوال ليست جنوبي أفريقيا ولا شَبَه بين الحالتين.
تبقى موضوعة لافتة يطرحها إيلان بابيه، ويردّدها أصحاب شعار “الدولة الواحدة لكل مواطنيها” (لكل سكانها)، وهي وصف الكيان الصهيوني “بالنظام الاستعماري الاستيطاني الإحتلالي”. وعليه يكون الهدف هو “تفكيك” النظام لكي يقوم مقامه “نظام الدولة الواحدة لكل مواطنيها“.
تحويل الصراع من صراع ضدّ مشروع إقامة الكيان الصهيوني- الدولة – الجيش – المجتمع – المؤسسات؛ إلى صراع ضدّ نظام، حتى لو وُصِفَ بأنه نظام إستعماري إستيطاني إحلالي، يحوّل هدف النضال من استراتيجية تحرير إلى استراتيجية “تفكيك نظام”، تماماً كما هو الحال مع نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي.
من هنا يظهر عمق الانحراف في استخدام صفة “نظام” بدل “كيان ودولة وجيش ومجتمع إستيطاني إحلالي”، كما في تحويل استراتيجية التحرير إلى استراتيجية تفكيك نظام. وإذا كان الأمر كذلك، فيصبح مركز الثقل في الاستراتيجية ليس الشعب الفلسطيني، ومن ورائه الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم والرأي العام الإنساني، وإنما اليسار والتقدّميون الذين هم بالضرورة جزء مهم ممن استعمروا واستوطنوا وحلّوا مكان الشعب الفلسطيني، الأمر الذي ينقل الصراع إلى العبث، حيث لا مستقبل ليسار وتقدّميين في تفكيك النظام، هذا إذا كان يمكن للمرء أن يكون “يسارياً وتقدمياً” داخل الكيان الصهيوني، وهو يسكن في بيت فلسطيني هُجِّر منه أهله ومالكوه! ولكن مع ذلك فإن تجربة إيلان بابيه تقول إنه وجد أن بقاءه في الكيان الصهيوني مُحال، فلجأ إلى بريطانيا أو عاد إليها. وهو لم يصل بعد إلى الصدام المباشر لتفكيك النظام، إذ ما زال في مرحلة النقد الأولي.