فكّ بيعة «النصرة»…يعجّل الحلّ العسكري أم يسهّل الحل السياسي؟ د. عصام نعمان
«النصرةُ» في قاموس أميركا السياسي تنظيمٌ إرهابي. لكنها في قاموسها العسكري تنظيمٌ ميداني رديف لحلفائها ضدّ الجيش السوري. حاولت واشنطن طويلاً بناء تنظيمات عسكرية متماسكة لما تسمّيه «المعارضة السورية المعتدلة»، لكن دونما جدوى. الفشل قادها الى مشروع بديل: فك ارتباط «النصرة» بـِ «القاعدة» لإسقاط صفة الإرهاب عنها وتسويغ اعتمادها قوةً عسكرية فاعلة ضدّ الجيش والحكم السوريين.
قيادة «النصرة» فاضلت طويلاً بين محاسن فك الارتباط ومساوئه في ضوء انشغال تركيا بتداعيات الانقلاب الغامض ضدّ رجب طيب أردوغان وانقلابه الواضح على ما تبقّى من جيش أتاتورك وعلى مصالح ونفوذ حليفه السابق اللدود فتح الله غولن من جهة، واستعادة الجيش السوري زمام المبادرة في شمال البلاد من جهة أخرى. المفاضلة بين خياريْ الارتباط وفك الارتباط بـ «القاعدة» أقنعت قائد «النصرة» ابو محمد الجولاني وأركانه بترجيح اعتماد الخيار الأخير.
في أثناء فترة المفاضلة، كان الطرفان يدرسان مسألة الخروج من البيعة. مرشد «القاعدة» الشيخ أيمن الظواهري لا تنقصه الواقعية والمرونة. فتنظيمه العالمي ليس جسماً مركزياً بقدر ما هو تيار لامركزي، ترفع قياداته في مختلف البلدان راية الفكر «الجهادي» السلفي المتطرّف وتحتفظ بسلطة القرار السياسي والميداني المحلي. في ضوء هذا الواقع، أصدر الظواهري فتوى فك بيعة «النصرة».
ماذا بعد؟
تتعدّد التكهّنات والتحليلات والسيناريوات. ذلك أنّ أطرافاً ومصالح وحكومات، محلية وإقليمية ودولية، تتأثر سلباً أو إيجاباً بقرار فك الارتباط وتداعياته السياسية والميدانية التي يمكن إيجازها على النحو الآتي:
ـ الولايات المتحدة لها مخططاتها وسياساتها التي تتناول سورية والعراق وتركيا و»إسرائيل» وإيران، كما تستهدف قوى المقاومة العربية عموماً وحزب الله خصوصاً. فهي حريصة على عدم تمكين حكومة دمشق والجيش السوري من الانفراد بالانتصار على «داعش» و»النصرة» مخافةَ أن يفسد ذلك مخططها الرامي تحويل سورية دولة كونفدرالية او فدرالية، يكون للكرد حكم ذاتي في شمالها الشرقي، وللعرب السنّة نظام مماثل في محافظتي الرقة ودير الزور، أيّ على امتداد حدود سورية الشرقية مع العراق. كذلك تحرص واشنطن على عدم تمكين حكومة بغداد وجيشها و»الحشد الشعبي» الذي كرّسته تنظيماً رسمياً مرتبطاً بها من تحرير الموصل وسائر أنحاء محافظتيْ نينوى والأنبار من «داعش» لأنها تدعم مساعي جعل هذه المناطق إقليماً ذا حكم ذاتي، مثل كردستان العراق، يتميّز عن سائر المحافظات العراقية ذات الطابع الشيعي، ويشكّل إسفيناً جغرافياً وسياسياً يفصل سورية عن العراق وتالياً عن إيران. الى ذلك، تأمل واشنطن بتحويل «النصرة»، بعد خلعها ثوب «القاعدة»، الى قـوة فاعلة لِـ «المعارضة المعتدلة» تأخذ على عاتقها مهمة دحر «داعش» والسيطرة على المناطق التي يحتلها في الجولان السوري ما يحقق غرضين مهمين: الأول، إقامة منطقة عازلة بين سورية و»إسرائيل» يُغني الأخيرة عن التكلفة السياسية والمادية الباهظة لإقامتها. الثاني، توفير ورقة سياسية لـ «المعارضة السورية المعتدلة» في مفاوضات «الحلّ السياسي» في جنيف.
ـ روسيا يهمّها دعم سورية والعراق لتمكينهما من دحر التنظيمات الإرهابية صوناً لوحدتهما والحؤول تالياً دون تحويلهما دولتين كونفدراليتين لإثنيات وطوائف وقبائل تدور في فلك أميركا و»إسرائيل». بذلك تضمن روسيا، كما إيران والصين المندرجة جميعاً في «تجمع شنغهاي»، جسراً قارياً طويلاً عريضاً للتجارة والتبادل، يستعيد «درب الحرير» التاريخي الممتدّ من آسيا الى أوروبا.
ـ تركيا منشغلة بنفسها بعد الانقلاب الفاشل على أردوغان وانقلابه الناجح على خصومه. ما يجري في جمهورية أتاتورك المضطربة مخاضٌ طويل سيؤدّي بالضرورة الى إعادة نظام أردوغان النظر بسياساته المتعثرة التي تسبّبت بنزاعات واضطرابات مع الدول المجاورة. صحيح أنّ التقارب المستجدّ بين تركيا وروسيا سيحدّ من انخراط أنقرة في عمليات توريد المقاتلين والسلاح والعتاد للتنظيمات الإرهابية العاملة في شمال سورية وشرقها، لكنّه لن ينهي خلافها مع سورية إلاّ، ربما، بعد التفاهم معها على صيغة لمعالجة الوجود الكردي النازع الى إقامة إقليم حكم ذاتي يمتدّ من الحسكة شرقاً الى عفرين غرباً على طول الحدود السورية التركية.
ـ إيران ستركّز جهودها في الحاضر والمستقبل المنظور على ثلاثة محاور متكاملة: الأول، إحباط محاولات الولايات المتحدة الرامية لاحتوائها بعد إبرام الاتفاق النووي وللحدّ من نموّ صناعتها الصاروخية البالستية. الثاني، تعظيم مجهودها التنموي في جميع المجالات. الثالث، دعم تحالفها مع سورية وقوى المقاومة العربية، ولا سيما حزب الله اللبناني و»الجهاد الإسلامي» و»كتائب القسام» الفلسطينيتين. لذلك ستجد إيران نفسها منخرطة في صراع متطاول مع الولايات المتحدة و»إسرائيل» الحريصتين على إضعافها وحلفائها. وفي هذا السياق، قد تحاول القوى المعادية لحزب الله تفجير عمليات عدائية له انطلاقاً من مخيم عين الحلوة صيدا الفلسطيني أملاً بدفعه الى الاستدارة بإعادة قواته المحاربة في سورية إلى لبنان لمواجهة الوضع العدائي المستجدّ.
ـ السعودية ستضطر الى تعديل سياستها بعد الانقلاب التركي الفاشل، والتقارب الروسي التركي البازغ، وانتزاع الجيش السوري زمام المبادرة في مدينة حلب ومحيطها. التعديل سيكون محدوداً إزاء سورية ولن يكون محسوساً إزاء اليمن. ستثابر الرياض على التنسيق مع واشنطن والضغط عليها في آن واحد من أجل التشدّد مع حكومة الرئيس بشار الأسد من جهة ودعم الجهود الرامية الى تعزيز التحالف الخليجي الإقليمي في وجه إيران من جهة أخرى.
ـ سورية ستوظف التقارب الروسي – التركي في عملية تحرير جميع المناطق المحتلة من «داعش» والتنظيمات المتحالفة معه ضدّ الجيش السوري، وذلك تأميناً لوحدة البلاد واستقلالها. لكنها لن تخذل موسكو الساعية الى إيجاد أرضية مشتركة مع واشنطن لتقريب مفاوضات الحلّ السياسي. كما أنها لن تتهاون في الدفاع عن حزب الله بصفته حليفها الاستراتيجي الثابت في وجه «إسرائيل» والإرهاب التكفيري.
هكذا يشتدّ الصراع ويتفرّع بين مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين على مستوى المشهد الإقليمي بأبعاده جميعاً. وهو صراع يدور، في التحليل الأخير، بين أطراف ترى في تعجيل الحلّ العسكري طريقاً أقصر الى تسويةٍ سياسية تريدها في مصلحتها بطبيعة الحال، وبين أطرافٍ أخرى تقاوم تعجيل الحسم العسكري تأميناً لتقريب مفاوضات الحلّ السياسي، أو بالأحرى التسوية السياسية، من أجل مصالحها أيضاً.
(البناء)