حول الإصلاحات الاقتصادية السعودية ناثان فيلد
هناك عدد قليل من البلدان التي تلقت ذلك القدر من الاهتمام السلبي في واشنطن كالذي حظيت به المملكة العربية السعودية على مدى العامين الماضيين. ويرجع ذلك جزئياً إلى السياسات المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني والرد السعودي. كما يعود السبب أيضاً إلى محاولة فهم انهيار الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط الذي لم يسبق له مثيل. ومع ذلك، فإن هذا كله قد وضع المملكة في موضع كبش الفداء في النهاية .
ومن البديهي أن يؤدي البعض من سياسات السعودية في المنطقة إلى إثارة شكوك صناع السياسة الأمريكية. فمن غير الواضح مثلاً، كيف يمكن للعمليات العسكرية التي تقوم بها المملكة في اليمن أو لتأجيج التوترات الطائفية في الحرب الأهلية في سوريا أن يساعدان الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، فإن الحقيقة التي كثيراً ما يُغفل عنها هي أن المغامرة الإقليمية السعودية مدفوعة بشكل أساسي من قبل الشعور بانعدام الأمن الذي يؤدي إلى ترسيخ الاعتقاد لدى القيادة السعودية بأنها تحتاج إلى التصرف من جانب واحد لاستعراض القوة. على سبيل المثال، في أعقاب الاتفاق النووي مع إيران يشعر السعوديون بأن الولايات المتحدة لم تعد تماماً الحليف الذي كانت عليه سابقاً. وقبل ذلك، تمت الإطاحة بالحلفاء ومصادر الدعم القدامى مثل الرئيس المصري مبارك. وتواجه الحكومة اليوم، ما يسمى بالجهادية الشعبوية التي يصعب حلها على غرار تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهي أكثر تعقيداً من التحديات التي شكلها تنظيم «القاعدة» سابقاً.
ولذلك، فإن النهج الأكثر عملية بالنسبة للولايات المتحدة هو دعم الجهود المبذولة لضمان الإبقاء على مملكة أكثر صحية وثقة وأمناً – ويبدأ ذلك بإلقاء نظرة جادة على الإصلاحات الاقتصادية المحلية الجارية في البلاد. فمنذ “الربيع العربي”، وخصوصاً خلال العام الماضي وبتوجيه من الملك سلمان، تشهد البلاد إصلاحات اقتصادية جادة، وضرورية لإرساء الأساس لهذا الأمن. وإذا استمرت هذه الإصلاحات وتوسعت، فسوف تبني أساساً أقوى لعلاقة ذات منفعة متبادلة على المدى الطويل بين الولايات المتحدة والسعودية.
لقد شهدت السعودية فعلاً، العديد من الإصلاحات الملحوظة، التي لم تلقَ الكثير من الاهتمام نتيجة للأحداث المأساوية التي اندلعت في مناطق أخرى في المنطقة. فمنذ “الربيع العربي”، بدأت الحكومة خلال عام 2011، في إجراء سلسلة من الإصلاحات في سوق العمل، تهدف إلى حل مشكلة البطالة المستمرة والكبيرة، التي عجلت أساساً، في الإطاحة بالرئيس مبارك والرئيس التونسي السابق بن علي. وقد اضطرت الشركات الدولية العاملة في السعودية، إلى تعديل استراتيجياتها للامتثال للقوانين الجديدة، مؤكدة بذلك على أن الحكومة تتخذ إصلاحاتها الاقتصادية على محمل الجد.
وتعتبر خطة السعودية لعام 2030 (“رؤية 2030”) خير دليل على نية المملكة لإجراء إصلاحات. فنظراً إلى الوقت الذي قضته الحكومة في تنفيذ هذا المشروع، وحجم رأس المال السياسي الذي أنفقته، وأقدمية المسؤولين عن المشروع ورتبتهم وكفاءتهم، يبدو لنا أن نجاحه يحظى بأولوية قصوى لدى الحكومة. وسيكون الزمن وحده هو الكفيل بإثبات ما إذا كانت تلك الخطة ستنجح أم لا. ومع ذلك، فقد أثارت جرأة الخطة السعودية لعام 2030 العديد من الأسئلة حول مدى واقعيتها. كما أثار المتشككون في تلك الإصلاحات نقطتين رئيستين:
أولاً، هناك ميل من قبل الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية ـ إلى الإسهاب في الكلام عن مدى قدرة الأمراء السعوديين الذين يتولون مناصب عليا على “إنجاز تلك المهمة”. ويعكس ذلك النمط السائد بين الكثير من المراقبين الغربيين الذين يركزون بشكل كبير على الشخصيات أو يتكهنون حول الكيفية التي قد يؤثر فيها التنافس داخل العائلة المالكة على سياسة البلاد، وهذا خطأ.
وفي حين يقف على رأس السياسة السعودية الكثير من الشخصيات رفيعة المستوى من العائلة المالكة، فان نجاح تنفيذ القرارات الرئيسية، يعكس بالضرورة موافقة عدد كبير من أصحاب المصلحة الرئيسيين داخل النظام. ولا يُتخذ قراراً رئيسياً من دون موافقة العشرات من جماعات المصالح المختلفة، بدءاً من المؤسسة الدينية، وبنفس القدر من الأهمية من طبقة التجار القوية – وفي هذا الصدد تعتبر الإصلاحات الجارية قراراً رئيسياً.
وفيما يخص (“رؤية 2030”)، فقد يكون صحيحاً أن بعض أفراد العائلة المالكة الأكبر سناً مستاؤون من القوة التي يتمتع بها ولي ولي العهد. وحتى مع ذلك، يعمل أعضاء من العائلة المالكة كسياسيين، لكن مصالحهم السياسية والاقتصادية ما زالت مرهونة بما تحققه الدولة من نجاحات أو ما تتعرض له من إخفاقات؛ وإلى حد ما، لا يختلفون عن السياسيين في الدول الديمقراطية الأخرى. فغالبية أعضاء العائلة المالكة يدركون بأن لديهم فرصة ضئيلة لاعتلاء العرش، أو الحصول على ثروات مثل النخبة الحاكمة. وبالنسبة لهؤلاء الأعضاء، ترتبط مكانتهم وقوتهم في صون سلامة “النظام”. ويدركون تماماً مصير كبار السياسيين ورجال الأعمال المصريين من فترة حكم حسني مبارك الذين لا يزالون قابعين في السجن.
ثانياً، يشكك المنتقدون في مدى طموح خطط الإصلاح في السعودية، وما إذا كانت تلك الخطط طموحة إلى درجة كبيرة. هل يمكن أن تترجم تلك النوايا إلى نتائج على أرض الواقع؟ إن الأدلة الحالية تشير إلى أن هناك إيجابيات، مع كونها جزئية. وفى جميع الأحوال، فمن الواضح أنه من مصلحة الولايات المتحدة أن تتوَّج برامج الإصلاح بالنجاح.
وفي بعض النواحي، ستستفيد المملكة حتى من بعض سياسات الإصلاح الطموحة والناجحة جزئياً.
وأحد الأمثلة على ذلك هو الهدف الذي تصبو إليه المملكة في تطوير صناعة السيارات. فقد افتتحت السعودية قبل عامين أول مصنع لها لإنتاج السيارات، بغية الوصول إلى سقف إنتاج يبلغ ثلاث مائة ألف سيارة سنوياً. ومن أجل توفير العمالة اللازمة لشغل هذه الصناعات، تدعو “رؤية 2030” إلى زيادة في معدلات الالتحاق بالتدريب المهني من 104,000 طالب مسجل في الوقت الحالي إلى 950,000 طالب بحلول عام 2030.
وفي ظل وجود اقتصاد عالمي شديد التنافسية، من المحتمل جداً عدم نجاح المشروع. ومع ذلك، إذا تم تنفيذ تلك الخطة جزئياً فقط، فستستمر في توفير عدد كبير من فرص العمل الجديدة والجيدة. ولكن حتى لو فشلت فشلاً ذريعاً، فإن التجربة الفاشلة لمشروع صناعي معين ورفيع المستوى سوف تستمر في توفير الخبرات والمهارات ذات الصلة بمئات الآلاف من السعوديين، والتي يمكن استغلالها في مجالات أخرى من اقتصاد البلاد.
ومن ناحية أخرى، إن عدم نجاح تنفيذ السياسات الطموحة في مجالات أخرى يمكن أن يؤدي إلى عواقب سلبية واضحة. ومن الأمثلة على ذلك السياسة الفعلية المتمثلة بإرسال 78 في المائة من طلاب المدارس الثانوية إلى الجامعات، وهو أعلى معدل في العالم. وتقوم هذه السياسة على الافتراض التاريخي غير المثبت عن وجود علاقة خطية بين العدد الكبير من حاملي الشهادات وبين النمو الاقتصادي وتوافر فرص العمل.
ومن الصعب أن نرى كيف سيتمكن الاقتصاد السعودي من توفير وظائف كافية على الإطلاق لهذه الفئة الجديدة من المتعلمين حتى في أحسن الأحوال. فبدون إدارة واعية للفرص في مجال التعليم العالي، قد تؤدي الإصلاحات التعليمية في السعودية إلى زيادة عدد الساخطين، والشباب العاطلين عن العمل، الذين سيكونون عرضة لنداء الجماعات المناهضة مثل تنظيم «الدولة الإسلامية». وفى ظل هذا السيناريو، يمكن أن يؤدى العمل بشكل وثيق مع حليف مثل الولايات المتحدة إلى إحداث تغيير ذي مغزى على مستوى الأمن الداخلي والدولي على حد سواء.
ولن تمر “رؤية السعودية 2030″، أو محاولات الإصلاح السابقة التي قامت بها المملكة، دون مواجهة انتقادات على المستوى المحلي. ومع ذلك، تبرز هذه [الانتقادات] لسبب رئيسي كونها مظهراً من مظاهر الاختلافات التكتيكية داخل الحكومة حول كيفية تنفيذ هذه الإصلاحات، وليس حول خضوعها للإصلاح في حد ذاته. وستضطر السعودية تحت أي قيادة، إلى مواجهة اثنين من الأصوات الرئيسية المعارضة للإصلاحات الاقتصادية، وهما المحافظين الاجتماعيين ورجال الأعمال.
وفي حين أن أعضاء الحكومة وكبار أفراد العائلة المالكة هم، من بعض النواحي، أكثر “تحرراً” من عموم المواطنين، فإن التيار الاجتماعي المحافظ من الجمهور السعودي ما يزال مستمراً في التأثير على ما يمكن للحكومة أن تحققه عن طريق الإصلاحات. وهناك الكثير من الحالات التي تكون فيها المرأة، على سبيل المثال، أفضل مرشح لمنصب ما، ولكن نظراً للهيمنة الحالية للفكر الاجتماعي المحافظ في البلاد، من غير المرجح أن يتم تعيين إمرأة لهذا المنصب. وكما وصف ذلك أحد السعوديين فإن “60 في المائة من الرجال السعوديين لن يتزوجوا إمرأة تعمل في بيئة عمل مختلطة”. وفي هذا المجال، لا يمكن للحكومة أن تفعل الكثير على المدى القصير.
وتساهم بعض قطاعات الإعمال في المملكة أيضاً، في إحباط جوانب محددة من الإصلاحات الاقتصادية التي تتطلب منهم ضبط استراتيجيات هذه القطاعات، وخاصة تلك المتعلقة بقوانين العمل. وتعمل الحكومة السعودية أساساً على التدخل بقوة في السوق الحرة في محاولة منها لتشجيع توظيف أكبر عدد ممكن من السعوديين. وعملياً، يعني ذلك أن الشركات السعودية التي اختارت عدم توظيف المواطنين السعوديين ذوي الرواتب العالية قد [تُجبر على دفع] الضرائب أو تحمّل عقوبات أخرى. ومع أن هناك بعض قطاعات الأعمال التي لديها القدرة على التكيف مع متطلبات [الإصلاح] الجديدة أكثر من غيرها، إلا أن المقاومة التي تواجهها من الشركات الأقل قدرة على التكيف، هي مواضيع بحث ثابتة في الإعلام السعودي. على سبيل المثال، في الأسبوع الماضي، اضطر وزير العمل السعودي رفض التماس بعض الشركات التي تعمل في مجال صناعة الهواتف الخلوية التي تعتمد على العمالة الخارجية، والتي طلبت التخفيف من حدة تلك الإجراءات الجديدة.
ومع ذلك، تدرك الشركات السعودية أنها لن تحقق أي مكاسب مالية في حال اندلاع ثورة على غرار الثورة المصرية، وسوف تستمر في التكيف مع مرور الوقت. وفى هذا الصدد يمكن القول بأن جزء كبير من الاتجاه الاجتماعي المحافظ في المملكة، يمكن أيجاد حلول له مع مرور الوقت. وهناك أسباب وجيهة للاعتقاد أنه مع مرور كل عام، سوف يتم تعديل الأعراف الاجتماعية لاستيعاب متطلبات الإصلاحات الجارية، لكي تصبح أكثر انسجاماً مع تلك القائمة في الدول الإسلامية الأخرى.
إن حال المملكة العربية السعودية هو على ما هو عليه. وعلى الرغم من ذلك، فمن مصلحة الولايات المتحدة أن تعمل بشكل وثيق معها، بدلاً من إهمالها. ووفقاً لذلك، فإن تبني المملكة لـ “رؤية السعودية 2030″، سوف يوفر لها العديد من فرص النجاح في سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها، وهو ما يعتبر أولى الخطوات التي يمكن أن تتخذها الحكومة السعودية لضمان قيام علاقة مثمرة مع الولايات المتحدة على المدى الطويل، وتحقيق الإصلاح على المستوى الداخلي، والذي يمكن أن يساعدها على أن تصبح شريكاً منتجاً وفعالاً في منطقة الشرق الأوسط.
معهد واشنطن