أحوال تركيا وإردوغان… بسبب إردوغان نفسه فايز رشيد
لم يأخذ حدث من التحليلات السياسية، والانقسام بين رأيين متناقضين، ما نالته محاولة الانقلاب التركي الأخير. المسألة ذاتها تنطبق على الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. باختصار يمكن وصفه بالآتي: نرجسي مهووس في حب الذات، وامتلاك السلطة، منقلب على سياساته المنتهجة بسرعة تعادل سرعة الضوء.
غدّار بأصحابه، وبمن كان لهم فضلٌ عليه، ضعيفٌ مهما حرص على إبداء مظاهر القوة. حَلِم بإعادة الأمجاد السلطانية والقصور الفارهة (بناؤه للقصر الأبيض، ومحاولة قلب نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي) وغيرها.
صحيحٌ أن كل هذه الصفات مجتمعة، لم تكن لتتضح بصورتها الفظّة الحالية، لولا محاولة الانقلاب الأخيرة في بلد يعجّ تاريخه بالانقلابات العسكرية. لذا كان من الطبيعي أن يتمنى حصول محاولة انقلاب في عهده للقيام بهذه المحاولة!
لم تنجح مخططاته في سوريا والعراق، ولا مع كل دول الجوار. لم تنجح كل محاولاته في مجابهة روسيا، في إسقاط طائرة السوخوي ولا بعدها، في ركوب موجة المكابرة بالتصريحات المنفلتة من عقالها، المتحدية لبلد يملك ترسانة من أسلحة تتفوق على ما تمتلكه أميركا. بلد يُصدّر إليه في العام الواحد 5 ملايين سائح. من الطبيعي، والحالة هذه، ظهور أعراض الشيزوفرينيا، على صاحبها المصاب بدايةً بـ«الفصام المؤقت»، ومن ثم «المزمن». صاحب هذا المرض، بالطبع، يفقد القدرة على التركيز في ما يتخذه من خطوات غير موزونة، منافية للعقل والمنطق وخالية من التوازن. هذه حالة إردوغان بالمعنى الطبي، والنفسي، والسياسي، والاجتماعي…
ولتوضيح كل ذلك، نقول: حتى لو أثبت الانقلاب الحالي فشله بعدما أمسكت الحكومة الحالية بزمام الأمور، فإن هناك شكوكاً حول استقرار الحركة السياسية لإردوغان. فكيف يمكن لزعيم بدأ حكمه قبل 13 عاماً، بقطعه وعوداً لم يستطع تنفيذها، أن يخرج عن هذا المسار بهذه الدرجة من السوء؟ اقتحم حزب «العدالة والتنمية»، بزعامته، طريقه إلى السلطة يوم الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2002. يومها، كسب الحزب 34% من الأصوات، لا لأن ثلث المقترعين دعموا مواقف الحزب المحافظة، والدينية، والاجتماعية بالضرورة، وإنّما لأنهم أرادوا التغيير. فقد شهدت الأعوام السابقة فضائح فساد متكررة وأزمات مصرفية، وتدنّياً متواصلاً في قيمة الليرة مقابل سعر صرف الدولار. للعلم، في عام 1980، وبعدما أسقط الجيش التركي، في حينه، الحكومة، فرض دستوراً جديداً بسعيه إلى إضفاء الاستقرار على السياسة المتوترة في تركيا. ومن أجل منع برلمان منقسم من خلق حالة تصبح معها الحكومات رهناً لأحزاب صغيرة ضحلة (كما هي الحال في بعض الأحيان في الكيان الصهيوني)، قضى دستور العام 1982 الذي فرضه الجيش، بوجوب حصول كل الأحزاب على 10% من الأصوات لدخول البرلمان. أما تلك الأحزاب التي لا تحصل على هذه النسبة من الأصوات، فتجري إعادة توزيع مقاعدها ــ في انتخابات العام 2002 حصلت خمسة أحزاب على ما يتراوح بين 5 و9%.
لم تنجح مخططاته في سوريا والعراق، ولا مع كل دول الجوار
باختصار، تحول ثلث الأصوات إلى قبضة الثلثين على البرلمان. ومكّن «العدالة والتنمية» من تحقيق الكثير مما أراد تحقيقه. فماذا كان أول أعماله؟ تغيير القانون بغية السماح لإردوغان بدخول الحكومة.
مع ذلك، كسب إردوعان الإشادة. فقد أضفى الاستقرار على العملة، وتبنى أجندة مؤيدة للأعمال والنشاطات التجارية، التي لم تسهّل الاستثمار أكثر وحسب، وإنّما ضمنت أيضاً أن توسع الدولة وشركاؤها الخاصين أعمالهم في مجال الاستثمار. وقد عاش العديد من النخبة الكبيرة أوضاعاً مالية متقدّمة، واستثمروا في تركيا الأوروبية، لكنّهم نادراً ما كانوا يقيمون المشاريع داخل تركيا، ربما باستثناء زيارة سريعة لأنقرة.
لم يصبح الأتراك أثرياء وحسب، بل وللمرة الأولى، شعرت طبقات اجتماعية متعدّدة، كانت محط تجاهل لفترة طويلة أو مسحوقة، بأنها تحظى بالاحترام. وعندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، كان إردوغان محظوظاً. ومع تعافي اقتصاد تركيا، هبطت معدلات الولادة وزادت معدلات الحياة، وتحسنت أوضاع العمل عند المواطنين. كان ذلك انتعاشاً اقتصادياً مشابهاً لذلك الذي دفع نمور شرق آسيا إلى التمتع بالازدهار في العقود الأخيرة من القرن العشرين. لكن تلك الطفرة أخفت أيضاً بعض الاتجاهات المنطوية على مشاكل عميقة. وبينما يُعتبر معدل دَين تركيا لإجمالي الناتج القومي المحلي منخفضاً نسبياً عند حوالى 33%، فقد ارتفع الدين الخاص بشكل صاروخي، وفق محللين مصرفيين. إذ يعاني معظم الأتراك من ديون ثقيلة، ولا يرون أي أمل في تسديد الفوائد المترتبة عليها، يعني ذلك أنه حتى وإن بدت الإحصاءات الرسمية مشرقة، فإن الأتراك يشعرون بوجود أجواء قاتمة في الأفق.
ثم هناك غطرسة إردوغان. فبفوزه مع حزبه، في دورات انتخابية عدّة، تخلّى عن أي تظاهر بحكم كل الأتراك، وأعلن: «سوف أنشئ جيلاً متديناً»، مديراً بظهره للعلمانية التي كان كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، قد فرضها على البلد قبل تسعين عاماً. وبدلاً من معالجة زيادة بنسبة 1400% في معدل الجريمة ضد النساء، أصدر تعليماته للنساء بالمكوث في المنزل وتربية ثلاثة أبناء. ولم يحشد فقط ضد عمليات الإجهاض، وإنما أيضاً ضد الولادة القيصرية باعتبارها انتهاكاً لإرادة الله. وببساطة، لم يعد يعير اهتماماً لما يفكر فيه الليبراليون والعلمانيون، كما أنه لم ير أي حاجة إلى تمثيلهم.
وينطبق الشيء نفسه على القضاء والصحافة. فقد كان العديد من الأتراك قد دعموا إردوغان في البداية انطلاقاً من الكراهية للجيش، واعتقاداً منهم بأن التزامه بالإصلاح كان حقيقياً. لكنهم سرعان ما أدركوا أنه لا يريد صحافة حرّة، بل أراد صحافة خانعة، حتى إن انتقاداً بسيطاً أصبح من الممكن أن يؤدّي إلى مشكلة قانونية. ولدى تركيا، حالياً، صحافيون يقبعون في السجون أكثر من أي بلد آخر. إردوغان يستمر في القمع، وقد بدأت انتفاضة المتنزّه كاحتجاج بيئي لإنقاذ واحد من الفضاءات الخضراء المتبقية وسط اسطنبول. لكن تكتيكاته المتشدّدة حولتها إلى قمع منقطع النظير. وبعدما ساهمت الكلمات التصالحية من الرئيس التركي في حينه، عبدالله غول، في تهدئة الأوضاع، بدا إردوغان كأنّه يزيد النار اشتعالاً. كذلك انقلب على أصدقائه أيضاً، مثلاً، أتباع فتح الله غولن، رجل الدين التركي (الذي يعيش حالياً في الولايات المتحدة، ويطالبها إردوغان بتسليمه باعتباره من وجهة نظره المخطط للانقلاب) والذي يبشر بالسلام والتسامح الديني. وكان كل من إردوغان وغولن على حد سواء قد عانيا على يد الجيش، وعملا يداً بيد من أجل الحد من وطأته ونفوذه على السياسة. وفور شعور إردوغان بأنه لم يعد بحاجة إلى غولن وأتباعه، انقلب عليه وعليهم، وصادر أعمالهم وأصولهم التجارية واعتقلهم، ولفّق لهم تهماً ونعتهم بالإرهابيين.
على صعيد آخر، عانت سياسته الكردية من الممارسات نفسها، فقد وجد الأكراد أملاً في وعود إردوغان في حلّ معاناتهم التي مضت عليها عقود، حتى إنه شرع في مفاوضات سرية مع عبدالله أوجلان (الذي اعتقله إردوغان في ما بعد، ولا يزال)، زعيم «حزب العمال» المحظور. لكن كل الوعود جرى تنحيتها جانباً بعد كل انتخابات. مع ذلك، وعندما ردّ الأكراد الأتراك عبر التصويت لمصلحة «حزب الشعوب الديموقراطي»، الكردي، بدلاً من التصويت لمصلحة «حزب العدالة والتنمية»، انقلب عليهم بالانتقام منهم، وبتحويل منطقة جنوب شرق تركيا إلى منطقة حرب تذكّر بأسوأ أيام ثمانينيات القرن الماضي. ولكن، ربما تظل أكبر مشكلة هي سياسة إردوغان الخارجية، فقد وعد بتصفير المشاكل مع الجيران، لكنه أقحم بلاده في مشاكل كل دولة جارة تقريباً. وقد هبطت عوائد السياحة عندما عمد الروس، ثم كل سائح آخر تقريباً، إضافة إلى التفجيرات التي شهدتها اسطنبول إلى قضاء العطلة في مكان آخر. وربما قد تكون الموجة الأخيرة من الإرهاب هي القشة التي تقصم ظهر البعير… فطائفية إردوغان المتزايدة ــ وعداؤه الشخصي للأكراد السوريين ونظام الرئيس بشار الأسد على حد سواء ــ قادته إلى رؤية الجماعات المتطرفة داخل سوريا مثل «جبهة النصرة»، وحتى «داعش» نفسه، كأدوات مفيدة، فدعمها بالعتاد والمال وتسهيل الحركة، وفتح الحدود أمامها للعبور إلى سوريا والعراق. كما أن تسوية الأوضاع (بالمناسبة العلاقات بين تركيا وإسرائيل لم تنقطع، وخاصةً في المجالين الاقتصادي والعسكري) التركية ــ الصهيونية (تخلّي إردوغان عن مطلب فك الحصار عن غزة كشرط للتسوية) أضعف ويضعف الرئيس التركي.
(الأخبار)