الجمهوري يتوج ترامب وينتحر د.منذر سليمان
من ميزات مؤتمري الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديموقراطي، ان نشاطاتهما تخضع لنظام وسيناريو محكم لتفادي المفاجآت والظهور باحلى صورة امام الجمهور.
عقب افتتاح المؤتمر وتدوين مندوبي الولايات، برز نجل ترامب، دونالد جونيور، كرئيس لفريق مندوبي ولاية نيويورك، وما لبث ان اعلن في نهاية تعداد المندوبين عن مندوبي ولايته، مما اتاح للمرشح ترامب الفوز باغلبية كبيرة من اصوات المندوبين. تنفيذ الخطوة وضبط ايقاعها لتحدث اكبر قدر من الصخب أتى في سياق سيناريو معد بعناية مسبقا .
في اليوم الثالث للمؤتمر، الاربعاء الماضي، حدث ما كان غير متوقع واتى من خارج السيناريو باعتلاء المرشح السابق تيد كروز المنصة وسط ترحيب كبير، ما لبث ان تحول الى صراخ وادانة له نظرا لعدم تأييده المرشح ترامب. وادت فعلته ربما الى تعزيز دائرة مؤيدي ترامب، والأهم ان كروز بفعلته قضى على مستقبله السياسي لخروجه عن النص المعد.
المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس، ساره بيلين، احتضنت كروز سياسيا مما ساعده تبوأ مواقع قيادية. وعلى الرغم من عدم حضورها مؤتمر الحزب، عبرت بيلين عن “اساءة” كروز بالقول “خروج كروز عن تعهده لدعم خيار الاغلبية الليلة جاء بمثابة انهائه مستقبله السياسي بنفسه.”
المعلق السياسي في قناة فوكس نيوز، شارلز كراوثهامر، كان اشد وضوحا بالقول “اداء كروز شكل اطول خطاب انتحاري في تاريخ السياسة الاميركية ..”
اجمع المحللون عشية المؤتمر على حالة الانقسام الحادة ومقاطعة عدد من قيادات الحزب للمؤتمر، وتصرفات كروز خير دليل على تجذر الانقسامات في صفوف الحزب، وتداعياتها لمستقبل الحزب بعد الانتخابات الرئاسية.
انقسام الحزب
تزامن انعقاد المؤتمر، في كليفلاند، مع قيادات حزبية رفيعة قاطعت المؤتمر لكنها تواجدت في المدينة عينها للتشاور، ابرزهم حاكم ولاية اوهايو جون كيسك. بعض القيادات الاخرى، التي اصطفت ضد ترامب منذ البداية، ينكبون على تهيئة الظروف لاستعادة قيادة الحزب من ترامب.
ينطلق اولئك القادة من فرضية اضحت مسلما بها بأن ترامب والحزب الجمهوري مقدمون على خسارة الانتخابات الرئاسية، بل خسارة كبيرة، بينما هم يتهيؤون لاستعادة الحزب وحجز مقعد قيادي متقدم.
قسم آخر من قادة الحزب الجمهوري، المتحلين بالواقعية، يعيبون على الفريق السابق ويخطّئون استراتيجيته مستذكرين ما حل بموقع الحزب من تدني ونسيان في عقدي الستينيات والسبعينيات تحت زعامة روكفلر، لم يستطع التغلب عليه الا بقدوم رونالد ريغان.
مناخ الاستقطاب الحاد في البيئة الاميركية ارخى ظلاله على بنية الحزب الجمهوري وانشقاق تيار اكثر تشددا عام 2009، عرف بتيار حزب الشاي. دعمت قيادات الحزب, ربما مرغمة، عناصر التيار الجديد طمعا في الفوز باكبر نسبة ممكنة في مجلسي الكونغرس، فضلا عن البيت الابيض. وما لبث الحزب الجمهوري “التقليدي” ان فاز باغلبية مجلسي الكونغرس، رغم خسارته لمنصب الرئاسة، الأمر الذي حفز قادة الحزب للابتعاد عن تيار حزب الشاي، بعد استنفاذ غرضه في الحشد والاعداد الجيد للانتخابات.
حافظ التيار الجديد على وحدته بالرغم من نفور قادة الحزب، وبرزت المرشحة السابقة ساره بيلين وتحالفها مع اشد التوجهات يمينية، لا سيما في المجال الاعلامي، واثبت جدارته بفوز عدد من رموزه الانتخابات التمهيدية، منهم السيناتور تيد كروز.
ترسخ تيار حزب الشاي عميقا في بنية الحزب منذئذ، مستندا الى عدد من الممثلين في الكونغرس يرمز اليهم بالافراط في التشدد والتعصب. بالمقابل ايضا اكتسب التيار خبرة غنية في تعبئة وتنظيم الجمهور الانتخابي والتواصل معه، بخلاف الممثلين التقليديين في الحزب الذين يرمز لهم من داخل المؤسسة الحاكمة. وفي هذا السياق، صعد دونالد ترامب لمركز الصدارة ولابتعاده عن مركز صناعة القرار في واشنطن.
يضاف الى كل ذلك فشل متواصل لقادة الحزب الجمهوري في التصدي لسياسات الرئيس اوباما وافشالها، الأمر الذي عزز مناخ عدم الثقة بالممثلين التقليديين عن الحزب.
يشار الى ان مؤسسة الحزب الجمهوري كانت تعول على المرشح جيب بوش بتصدر المشهد الانتخابي، في بداية الأمر، بيد ان اداءه الكارثي في الانتخابات التمهيدية كان نتيجة لعزوف قواعد الحزب الجمهوري عن وكراهيتها للقادة التقليديين، ومن بينهم السيناتور المتشدد ليندسي غرام. وتردد ان القاعدة الانتخابية كانت تنظر بعين العطف على المرشحين تيد كروز والدكتور بن كارسون كافضل ممثل عن قناعات القاعدة الانتخابية.
وبرز دونالد ترامب من خارج السياق منافسا فرض نفسه، واسهمت براعته الخطابية التي تلامس الغرائز وتمنيات القاعدة الانتخابية في ازاحة المرشحين الآخرين من السباق، بل خاض سباقا لا يتسق مع التوقعات والسيناريوهات التقليدية خاصة في مجال الآلة الانتخابية. واثبت خطأ الاستطلاعات التقليدية ولم يعرها اي اهتمام يذكر.
توج المؤتمر الحزبي دونالد ترامب، رغم محاولات الآخرين الالتفاف عليه، والانتحار السياسي الذي ارتكبه تيد كروز. واضحى ممسكا بمراكز القوة داخل الحزب، اقله منذ الآن وحتى الانتخابات الرئاسية.
مستقبل الحزب، هيكليا وقياديا، لن تتكشف معالمه الا بعد فرز نتائج الانتخابات في شهر تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. سيصبح نجم ترامب اكثر لمعانا ان توفرت ظروف فرضية اساسية، فوزه بالانتخابات الرئاسية ومحافظة الحزب الجمهوري على اغلبيته النيابية في مجلسي الكونغرس. ويدخل التاريخ السياسي من اوسع ابوابه مذكرا ببروز وفوز رونالد ريغان على خصمه ومرشح المؤسسة آنذاك جورج بوش الأب.
خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية ستؤدي الى تعريض مستقبل الحزب للتكهنات والانقسامات حتما، وتحفز قياداته التقليدية اعادة النظر لاستعادة قرار التحكم بالحزب. بعض العارفين بخبايا قيادات الحزب يروجون ان استعادة الحزب ستكون ميسرة “لو” اتخذ تيد كروز منهجا سياسيا ذكيا في المؤتمر، وسيصعد نجمه ويتوج رئيسا للحزب.
علاوة على المراهنة السابقة على كروز، هناك وجوه واعدة وفق قياسات قادة الحزب، منها: حاكم ولاية ويسكونسن سكوت ووكر؛ حاكم ولاية تكساس السابق ريك بيري؛ وحاكم ولاية انديانا مايك بنس. من المسلم به ان تلك الاسماء ستتردد كثيرا في حال خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية، والاعداد لجولة الانتخابات المقبلة عام 2020.
مشاهدات من المؤتمر
التباهي والتفاخر: كل مشهد في الاحتفالات او المؤتمرات السياسية يجري اعداده للظهور والترويج اعلاميا، وتتراجع الابعاد الحقيقية. لعل ابز دليل ما قام به مندوب ولاية فرجينيا والمدعي العام السابق، كين كوسنيللي، الذي سارع لرمي بطاقته الرسمية ارضا امام الكاميرات. السبب خسارة فريق تيد كروز اقرار قضية اجرائية حساسة.
من غرائب المشهد عودة كوسينيللي لقاعة المؤتمر بعد فترة وجيزة دون ابراز هوية عضويته لدخول القاعة التي تخضع لرقابة واجراءات أمنية متشددة تحرم اي فرد لا يحمل البطاقة دخول القاعة.
الغائبون
المؤتمرات الحزبية تعقد بحضور كثيف للاعضاء والمندوبين وفرصة للقادة السياسيين الاختلاط بقواعد الحزب. مؤتمر الحزب في عصر ترامب تميز بتغيب عدد لا بأس به من ابرز القيادات السياسية، يتصدرهم الرؤساء السابقون جورج بوش الاب والابن، ومرشح الحزب السابق ميت رومني، واحد اركان الحزب الرئيسة جون ماكين.
خارج قاعة المؤتمر
استعدت الاجهزة الأمنية الاميركية جيدا لتأمين الانضباط والحماية للمؤتمر، واستقدمت المئات من رجال الشرطة من مناطق ومدن اخرى، تحسبا للمظاهرات التي أُعلن عنها منذ زمن للاحتجاج امام المؤتمرين. اعداد رجال الشرطة والأمن فاقت عدد المتظاهرين بفارق كبير. تميز المؤتمر هذه المرة بسلاسة العلاقة بين الشرطة والمتظاهرين، بل وفرت الشرطة بعض الخدمات الضرورية للمتظاهرين، وتحلت بتسامح غير معهود. المتظاهرون ايضا وفوا بوعودهم بالتظاهر السلمي ونبذ العنف.
المبارزة الخطابية
التزم ترامب على غير عادته بنصائح فريق حملته الانتخابية بأنه يتعين عليه إلقاء خطاب معد سلفا يقرأ على الجمهور، وظهر بمظهر يليق بمنصب الرئاسة. خطابه كان حادا في لهجته ومراميه، وظهر كاحد السياسيين الواعدين بمنصب مقبل. ترامب اكبر الرابحين في المؤتمر بشهادة خصومه.
ابرز الخاسرين كان المرشح السابق تيد كروز، لرفضه تأييد ترشح ترامب، وعزز الاعتقاد السائد بأنه حائز على اكبر قدر من الكراهية في مجلس ااشيوخ.
تجدر الاشارة ايضا الى الترحيب الفاتر الذي تعرض له زعيم الاغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، قبل القاء خطابه المؤيد لترامب. وكافأه المؤتمر بالتصفيق الحاد.
المرشح لمنصب نائب الرئيس مايك بنس جاء اداءه متسقا مع خبرته السياسية الطويلة، وسيحتل مكانة مميزة في المشهد السياسي المقبل بصرف النظر عن نتائج الانتخابات.
انانية ترامب وعشقه للظهور الاعلامي دفع نائبه المرشح بنس للمقاعد الخلفية، بيد ان خطابه المتزن في المؤتمر، نسبيا، رمى لجسر الهوة في صفوف الحزب والتخفيف ما امكن من نزق ترامب مضمون خطاب ترامب، وامتدادا الحزب الجمهوري، كان ديماغوجيا شعبويا بامتياز وينضح بالعنصرية ويهيء لصعود فاشية جديدة، خلفا للمحافظين الجدد.