التّحوّل المقلق في تركيا: الإرهاب والأمن بعد محاولة الانقلاب سونر چاغاپتاي
“فورين آفيرز“
19 تموز/يوليو 2016
قبل الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في 15 تموز/يوليو، كانت البلاد تكافح لاستعادة حالتها الطبيعية بعد الهجوم وإطلاق النار اللذين أسفرا عن مقتل 45 شخصاً في مطار “أتاتورك” في اسطنبول في 28 حزيران/يونيو. وعلى الرغم من أن المحاولة [الأخيرة] للسيطرة [على الحكم] تعقّد حملة القمع التي شنتها تركيا على الإرهاب، إلا أن مشاكلها الأمنية قد بدأت قبل وقت طويل من الاضطرابات الذي شهدها هذا الصيف. فقد كان الجهاديّون الثلاثة الذين خططوا الهجوم قد جاءوا إلى تركيا منذ بعض الوقت، بعد أن اجتازوا أكثر من 750 ميلاً (حوالي 1200 كلم) من سوريا، واستأجروا شقة في اسطنبول، ثم جمعوا القنابل لمدة شهر. وقاموا بذلك من دون إثارة الشبهات لسبب بسيط هو أن تركيا نفسها آخذة في التطرف والجهاديون يندمجون فيها.
ويعود جزء كبير من التحول الديني في تركيا إلى الرئيس رجب طيب أردوغان – أقوى رئيس منتخَب ديمقراطياً في تاريخ البلاد. ففي تركيا أثناء حكم أردوغان، تسرّبت سياسة الدّين إلى جميع مناحي الحياة، وكان التعليم أحد الأمثلة الأكثر مأساوية لهذه النزعة. إذ اختفى تقريباً التعليم العلماني الذي يشكل إحدى السياسات الأساسية لأتاتورك. ففي كانون الأول/ديسمبر 2014، أصدر “مجلس التعليم العالي التركي”، وهو هيئة تديرها الحكومة، توصية سياسية تقضي بإعطاء دروس إلزامية عن الإسلام السنّي في المدارس الحكومية إلى جميع التلاميذ، حتى البالغين من العمر ست سنوات. وفي النهاية، طُبِّقت هذه السياسة وكنتيجة لذلك، لم يعد من الممكن اعتبار نظام التعليم العام في تركيا علمانياً. وأُلزم التلاميذ في سن رياض الأطفال من الديانات الأخرى، أو من عائلات لا تتبع ديناً محدداً، أو عائلات لا تمارس عقائدها الدينية بتلقّي الدروس حول الإسلام وفق الطائفة السنية في مدارس القطاع العام.
ومن الصعب تقبّل جميع سياسات أردوغان، نظراً إلى الدعم العام الذي يتلقاه من عناصر متطرفة ومن قائمين بأعمال القانون يتمتعون بالجرأة. فخلال شهر رمضان، هاجمت هذه الجماعات بعنف مواطنين اختاروا عدم الصيام، واستهدفت مؤسسات تقدّم الكحول. وكلٌّ من هذين التطورين أمر غير معتاد ومقلق في تركيا التي كانت معروفة حتى الآن بتفسيرها الليبرالي للإسلام. وما يزيد الأمور سوءاً هو أن الحكومة لم تعتقل هذه الجماعات أو تحاكمها.
إن ميل أردوغان إلى رؤية العالَم من عدسة مناهضة للفكر الكمالي وللغرب قد أثّر على سياسته الخارجية أيضاً. فقد أدار أنقرة باتجاه الشرق الأوسط، حيث تبنّت دوراً أساسياً في الحرب الأهلية السورية المدمرة التي بدأت عام 2011. وما يصعب تصديقه أيضاً هو أن أنقرة تدعم الآن جماعات إسلامية متطرفة في سوريا مثل «أحرار الشام»، التي ترتبط بعلاقات مع تنظيم «القاعدة»، وذلك في جهودها الرامية إلى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.
ووفقاً لذلك، غضّت أنقرة النظر عن مقاتلين أجانب متطرفين يعبرون إلى سوريا لمحاربة نظام الأسد. ولم ترَ أنقرة أنّ هذه الاستراتيجية تشكل خطراً، لأن التفكير في أنقرة في صفوف نخب «حزب العدالة والتنمية» الحاكم هو أنّه “إذا سقط الأسد، سيستولي أشخاص جيدون على السلطة، وسيتخلصون من الأشخاص السيئين”. وكان الفشل الذريع مصير هذه السياسة. فلم يتمسك الأسد بالسلطة فحسب، بل أن بعض الأشخاص المتطرفين جداً من الذين عبروا علناً إلى سوريا قد تحوّلوا، من دون معارضة أنقرة، إلى ما نعرفه اليوم بـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهي الجماعة نفسها التي تشكل الخطر الأكبر على تركيا وبقية العالَم.
وهذا المزيج الخطير من الأحداث – أي الأسلمة في الوطن، واستخدام الجهاديين لتركيا كمنصة تمهيدية لسوريا، وبروز تنظيم «الدولة الإسلامية» في الجوار- قد شجّع التطرف العنيف بين الأتراك. فعلى سبيل المثال، قام مواطنون أتراك تطرّفوا على يد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، بتنفيذ بعض الهجمات الأخيرة التي شنها التنظيم، بما فيها تفجيريْ أنقرة واسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر و آذار/مارس، اللذين أوديا بحياة 108 أشخاص.
وتنتشر الحملة الدعائية الجهادية على شبكة الإنترنت في تركيا، ويتم تقبّل تنظيم «الدولة الإسلامية» في بعض الدوائر، من بينها أحياء مختلفة في اسطنبول حيث يمكن أن يشتري الناس حاجيات متنوعة في الشوارع تحمل شعار تنظيم «الدولة الإسلامية». وما يفوق هذا الوضع خطورة هو أنه، وفقاً لتقرير “مجموعة صوفان” [الأمريكية للدراسات والأمن الاستراتيجي]، عبَر الحدود إلى سوريا أكثر من 2100 مواطن تركي للمحاربة إلى جانب تنظيم «الدولة الإسلامية». إن تركيا الآن هي رابع أكبر مساهم في عدد المقاتلين في هذا التنظيم، بعد تونس والمملكة العربية السعودية وروسيا.
ولن يؤدي هذا التطور المتمثل بالانقلاب الفاشل الأخير، الذي يثير قدر مماثل من القلق إلّا إلى إضعاف الجيش التركي، مع تداعيات خطيرة على أمن البلاد. فمن جهة، لم تشمل محاولة السيطرة [على الحكم] إلا جزءاً صغيراً من الجيش. وأشار ذلك إلى وجود تصدعات خطيرة في منظمة تمكنت من الحفاظ على تضامنها في خضمّ الانقلابات السابقة، والمكافحة المرّة ضد التمرد، والمحاكمات المثيرة للجدل ضد “عصابة ايرغينيكون” – منظمة يُفترض أنها سرية في الجيش ومتّهمة بتنظيم انقلاب في عام 2004. فمع زعزعة أخرى لتماسك الدولة والمجتمع بوجه الخطر المتنامي الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية»، سيقضي الانقلاب الفاشل على الدعم الحكومي والعام لِما كان سابقاً المؤسسة الأكثر ثقة واتّحاداً في تركيا.
وإذا لم يتّخذ أردوغان إجراءات صارمة ضد التطرف الجهادي، ويحد من الأسلمة في البلاد، ويقطع علاقاته مع المتطرفين في سوريا، فإن تركيا والغرب أيضاً سيعانيان بشدة. ومن الممكن أن ينتشر التطرف إلى الشتات التركي الذي يصل حجمه إلى خمسة ملايين شخص في أوروبا، بينما تغض هذه الأخيرة الطرف عن سياسات أردوغان المحلية المقلقة مقابل تعاونه بشأن أزمة اللاجئين. كما تحتاج الولايات المتحدة إلى أنقرة كحليفة في حربها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». على واشنطن أن تحذر أردوغان، قبل فوات الأوان، حول الكيفية التي أدت فيها مساهمة سياساته الدينية إلى ظهور مشكلة التطرف. وهذا أمر مهم خاصة بعد الانقلاب الفاشل في تركيا حيث نجح أردوغان جزئياً من خلال تحريك قاعدته الدينية المحافظة. ومنذ ذلك الحين، احتشد الإسلاميون وحتى بعض الجهاديين خلفه. وعلى الرغم من أن أردوغان قد يبدو منتصراً اليوم، إلا أن سياساته على المدى الطويل لن تنفع كثيراً لتعزيز قبضته على السلطة إذا استمرّ أمن بلاده بالتراجع.
سونر جاغابتاي هو مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.