بقلم ناصر قنديل

تركيا التي تناسب العرب؟

ناصر قنديل

– أثارت الكلمات التي قالها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حول الانقلاب العسكري في تركيا اشمئزاز أوساط فلسطينية وعربية كثيرة، فلم يكتفِ مشعل بالقول إنه لو فاز الانقلاب لكانت فلسطين الخاسر الأكبر، بل أضاف بتغريدات على «تويتر»: «يتهموننا أننا حريم السلطان»، معلّقاً: «يشرّفنا أن نكون حريم السلطان وجواريه إذا كان السلطان هو أردوغان»، وطبعاً لن نناقش الرغبة لدى مشعل بأن يكون من حريم أو من جواري الرئيس التركي رجب أردوغان، فذلك شأنٌ يعنيه، وثمّة سوابق تمنيات من هذا العيار بتعابير ومواضع أخرى قالها سواه لا تقبل النقاش وبقيت تخصّ أصحابها، أما ما يستحق النقاش هو التساؤل: هل فعلاً كانت ستخسر فلسطين ويخسر معها العرب بصفتها قضيتهم الأولى لو فاز الانقلاب، واستطراداً أيّ تركيا هي التي تناسب العرب؟

– الأكيد أنّ أسوأ احتمالات فوز الانقلاب بالنسبة للعرب، وقضيتهم فلسطين، كانت تحوّل تركيا إلى ما كانت عليه قبل أيام حكم حزب العدالة والتنمية كدولة منضبطة بعضوية حلف الأطلسي ملتزمة بسياساته، ومتمسكة بتحالفها مع «إسرائيل». وفي الحال الراهنة لحكم أردوغان، تتصرف تركيا بقوة عنوانها الإسلامي لتمنح العلاقة بالأطلسي وبـ «إسرائيل» مصادر قوة لا يملكها الجيش، أو أيّ نظام حكم بغير العنوان الإسلامي، فبِاسم هذا العنوان الإسلامي تتمكّن تركيا الأطلسية خلال سنوات من قيادة الحرب على سورية وتثمير هذا العنوان لمنح تشكيلات تنظيم «القاعدة» ملاذاً آمناً وخلفية داعمة ومستودع سلاح وغطاء نارياً، لا يجرؤ أيّ حكم للجيش في تركيا أن يفعله، بل يمكن القول إنّ أحد أسباب الجيش للسير في الانقلاب هو وضع حدّ لهذا العبث الذي بدأ يهدّد الأمن التركي بقوة، وسقف ما يمكن لحكم الجيش منحه لـ «إسرائيل» هو التنسيق العسكري والاستخباري اللذان لا يبخل بهما أردوغان وحكمه، بل يقدّم فوقهما بقوة العنوان الإسلامي توظيف نفوذه على حركات فلسطينية في مقدّمها حركة حماس لمنح المزيد من المكاسب في السياسة والأمن لـ «إسرائيل»، وختامها ما تسرّب عن التفاهم التركي «الإسرائيلي» بتبادل الخدمات عبر التأثير «الإسرائيلي» على الحالة الكردية لحساب تركيا وأمنها مقابل التأثير التركي على حركة حماس لحساب «إسرائيل» وأمنها.

– الأكيد أنّ تركيا الأنسب للعرب ولفلسطين هي تركيا التي تقف خارج الأطلسي وتخرج من تفاهماتها مع «إسرائيل»، وهذه التركيا لا تبدو ممكنة أو واردة واقعياً في الزمن المنظور، رغم ما يوفره مثل هذا الاصطفاف للأتراك من فرص في لعب دور عربي وإسلامي، بقوة مكانتهم المفترضة حينها لحساب القضية الفلسطينية، وقضايا التحرّر العربي، ولكن حتى ذلك الحين تتراوح الخيارات بين انقلاب ما كان لينجح بالإمساك بتركيا مهما توافرت له فرص المزيد من القوة، في ظلّ حكومة منتخَبة تملك شارعاً مسانداً، وميليشيا مسلحة، وامتدادات داخل الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية وقيادة مستعدّة للقتال حتى الرمق الأخير، فسقف ما كان سيحققه الانقلاب هو أن تنقسم تركيا بين مركزَيْ أنقرة واسطنبول، لكلّ من الجيش والإخوان، ونشوب حرب وجود بينهما، ما سيؤدّي لتراجع قبضة الفريقين في الشرق والجنوب والغرب، وتبلور نوع من الخصوصية الأمنية في مناطق الأكراد، وتحوّل الجنوب إلى بؤر تستقرّ فيها تنظيمات مثل داعش والنصرة، وينعكس وجود هاتين الخصوصيتين على كلّ من سورية والعراق مزيداً من المتاعب والفوضى، ومزيداً من الارتياح «الإسرائيلي» المفقود حالياً أمام ازدياد فرص عودة الدولة المركزية في العراق وسورية، للإمساك بملف العلاقة مع الأكراد وضمان الوحدة الوطنية من جهة، والإمساك بملف الحرب على الإرهاب والتقدّم الواضح في ميادينها على حساب ثنائي داعش والنصرة، ما تقول «إسرائيل» علناً إنه يثير قلقها.

– من ضمن الخيارات الممكنة واقعياً يتقدّم الخيار الذي نشهده الآن، انقلاب فاشل شاركت فيه أسلحة وقيادات فاعلة في الجيش التركي، دفع بالإخوان المسلمين الممسكين بالحكم في تركيا إلى حملة تصفية حساب تطال جناحَيْن في الدولة والمجتمع، هما من جهة من أسماها أردوغان بالدولة العميقة التي لا يريد أن يراها، وهي ثنائي الجيش والقضاء كضامن لما يُعرَف بالمصالح العليا للدولة، ومن جهة أخرى المنافس الإسلامي الاجتماعي والثقافي الذي يمثله مناصرو الداعية فتح الله غولن، وأدّت هذه الحملة حتى الآن إلى وضع إشارة منع سفر على ثلاثة ملايين اسم لمواطنين أتراك، وصرف قرابة المئة ألف من وظائفهم، واعتقال قرابة العشرين ألفاً، بصورة أفقدت تركيا جيشها وقضاءها، وبالتالي دفعتها للتحوّل إلى قوة هامشية في الإقليم، وإلى شكل حكم لا يشبه دولة القانون بشيء، ما يضع قادتها تحت ضغوط دولية تُجبرها على تقديم التنازلات والانكفاء من اللعبة الإقليمية. ويبدو هذا الانشغال والاستنزاف في وضعية الحكم التركي حالة مثالية لشلّ فاعلية القوة المحورية التي تسبّبت حتى الآن بأغلب الخراب الحاصل تحت شعار العثمانية الجديدة أو الأخونة باسم «الربيع العربي».

– يأمل كلّ عربي مهتمّ بالجيرة الطيبة مع الأتراك، ومعنيّ بالقضية الفلسطينية أن يتمكن الأتراك من تخطي محنتهم الراهنة والعودة إلى نظام حكم ديمقراطي مسالم نحو الجوار خارج أوهام وأحلام العثمانية أو الاستقواء، مستعدّ لبناء علاقات أخوة وتضامن وتكامل وتعاون، في الاقتصاد والأمن الإقليميين على الأقلّ، وهذا ما كان مضمون الدعوة التي وجّهها الرئيس السوري قبل سنوات للرئيس التركي تحت شعار منظومة تعاون دول البحار الخمسة، التي تطلّ تركيا على اثنين منها هما البحران الأسود والمتوسط.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى