مقالات مختارة

تركيا بين انقلابين: حركة مراهقة و«جيش سري» لأردوغان محمد نور الدين

 

هو انقلابٌ عسكري لا يشبه أياً من الانقلابات العسكرية، لا في تركيا ولا في العالم. انقلاب حمل في كل تفاصيله شروطَ فشله. هو عملياً «لا انقلاب».

ما حصل مساء 15 تموز وصولاً الى صبيحة 16 تموز لم يكن سوى محاولة انقلابية «مراهقة» رغم اتساع ساحة التحركات العسكرية للانقلابيين ورغم العدد الكبير من المعتقلين العسكريين، وفي القضاء.

1 – بخلاف الانقلابات العسكرية الأربعة السابقة في تركيا، فإن انقلاب 15 تموز لم تقم به قيادة القوات المسلحة بكل أركانها، من رئيس الأركان الى قادة القوات المسلحة الجوية والبرية والبحرية والدرك. العقلُ المدّبر للانقلاب كان القائد السابق، وليس الحالي، لسلاح الجو الجنرال آقين اوزتورك، ومن عاونه كانوا قادة فرق أو ألوية من رتب متدنية، أغلبهم من رتبة عقيد وما دون. أما اعتقال جنرالات، مثل قائد الجيش الثاني أو رئيس أركان بحر إيجه، فهذا ليس بدليل على مشاركتهم بقيادة المحاولة الانقلابية. إذ إن عدداً كبيراً من الذين اعتقلوا لم يشاركوا في المحاولة، ولكن من المشتبه فيهم، فكانت الفرصة لتصفيتهم.

وبذلك افتقدت المحاولة الانقلابية تغطيةً عليا من قادة الجيش، لذا كان احتجاز رئيس الأركان وآخرين، بل صدور بيانات مبكرة من قائد القوات البحرية على سبيل المثال، تندد بالانقلاب. فظهرت المحاولة الانقلابية انقلاباً على السلطة السياسية من جهة، وعلى السلطة العسكرية من جهة ثانية. وبدلاً من أن تعتقل السياسيين، اعتقلت القيادات العسكرية، وهذا أمرٌ غريب، وهو ما جعل مهمتها مستحيلة.

2 – إن الأدوات المستخدمة في المحاولة الانقلابية كانت متواضعة ومحدودة. فعدد الدبابات أو المدرعات أو الطوافات العسكرية أو حتى المقاتلة كان قليلاً جداً، ولا يوفر نجاح أي محاولة انقلابية.

3 – افتقدت المحاولة الهدف السياسي الجاد منها. فألف باء أي انقلاب هو محاصرة المؤسسات السياسية من رئاسة جمهورية ورئاسة حكومة ووزارة خارجية وداخلية وبرلمان واعتقال المسؤولين أو وضعهم في الإقامة الجبرية. وهذا لم يحصل أبداً، بل إن رئيس الحكومة بن علي يلديريم كان في مقره، ولم يتعرض أحد له، كما لم يتقدم أحد الى القصر الجمهوري، فيما كان أردوغان يمضي عطلة في منتجع مرمريس. فهل يعقل أن تحدث محاولة انقلابية من دون اعتقال أحد أو حتى محاولة اعتقال أحد من المسؤولين؟ فإذا لم يكن الهدف تغيير السلطة السياسية، فعن ماذا كان يبحث الانقلابيون؟ وهذا يطرح علامات استفهام من ان الانقلابيين افتقدوا المشروع الواضح لتحركهم.

يشار هنا، وفقاً لما نشرته وسائل إعلام تركية معارضة نقلاً عن مصادر رفيعة المستوى، إلى أن عدداً كبيراً من قادة الانقلاب والمشاركين فيه كان سيتم اعتقالهم الساعة الرابعة فجر 16 تموز بناءً على قرار قضائي وافق عليه رئيس الأركان. فاستعجل الانقلابيون خطة الانقلاب لينفذوا «الخطة ب» قبل ست ساعات من موعد اعتقالهم!

4 – رغم أن أردوغان دعا الناس للنزول الى الشوارع، فإن الناس لم تنزل إلا بعدما قمعت الحركة الانقلابية من جانب «جيش» البوليس، ومعها جيش الاستخبارات. وهذا الجيش كان معروفاً منذ سنوات أنه جيش «حزب العدالة والتنمية»، ويكاد يقارب بتجهيزاته وعديده الجيش النظامي، وكان بمثابة «الجيش الموازي» للجيش النظامي. وقد أثبت جيش الشرطة هذا أنه عنوان الدفاع عن سلطة الحزب الحاكم. وسوف يتصاعد دوره وحجمه حتماً في المرحلة المقبلة. كذلك فإن عدداً كبيراً من المسلحين الذين اعترضوا الانقلابيين كانوا من العناصر التابعة لحزب «العدالة والتنمية»، حيث يظهر أن الحزب كان مستعداً للدفاع عن سلطته عبر «جيش سري» آخر يجعل من أي محاولة انقلابية فعلية مشروعاً فعلياً لحرب أهلية. وجميع القتلى سقطوا في اشتباكات بين الانقلابيين والجيش الموازي من شرطة وحزبيين. ولعل أردوغان قد أخذ العبرة من نجاح الجيش المصري في إطاحة محمد مرسي، فجهز كل الظروف لمنع تكرار المحاولة في تركيا.

اتهم أردوغان منذ اللحظة الأولى الداعية فتح الله غولن بالوقوف وراء المحاولة. قد يكون ذلك صحيحاً، وقد لا يكون، ولكن بالتأكيد سوف يستغل أردوغان المحاولة، وقد بدأ باستغلالها منذ اللحظة الأولى وقبل حتى أن تنتهي ذيول الانقلاب، بشن حملة تصفية شاملة ليس ضد الانقلابيين والمشتبه في موالاتهم لغولن وحسب، بل لكل من هو ليس مؤكد الولاء لأردوغان، ليس فقط داخل الجيش بل خصوصاً في القضاء، حيث بدأت المجزرة بعزل ثلاثة آلاف قاض واعتقال أكثر من ألف آخرين.

حصر التهمة بغولن هو محاولة من أردوغان لحرف النظر عن دوافع الانقلابيين القيام بمحاولتهم الفاشلة. الصراع بين أردوغان وغولن هو مجرد جزء صغير من المشهد الانقلابي في تركيا. إذ إن الصراع أوسع من ذلك.

المحاولة الانقلابية هي أيضاً مجرد جزء من حالة الاعتراض داخل المؤسسة العسكرية وداخل المجتمع التركي على النهج الذي يتبعه أردوغان، سواء في الداخل أو في الخارج.

ففي الداخل، كانت خطوات الاستئثار بالسلطة ومصادرة قرار السلطات القضائية والأمنية والعسكرية من أجل إقامة دولة أقل علمانية وأكثر تديناً تثير حساسية المؤسسة العسكرية الحاملة لواء الدفاع عن العلمانية. وإذا كانت القيادة الحالية للجيش معروفة بطاعتها لأردوغان، فإن المحاولة الانقلابية أظهرت أن الحساسية العلمانية والاعتراض على محاولات تغيير الطبيعة العلمانية للدولة، لا تزال موجودة لدى جيل بكامله من الضباط المخضرمين والشبان.

كذلك فإن السياسات المذهبية والاتنية في الداخل، كما دعم التيارات الدينية المتشددة، جلبت لتركيا عدم الاستقرار الأمني والتفجيرات في كل مكان. كما أن عدد القتلى في صفوف الجيش التركي في الحرب ضد «حزب العمال الكردستاني» تجاوز الخمسمئة منذ سنة وحتى الآن. وقد شكلت هذه عوامل اعتراض إضافية داخل المؤسسة العسكرية في اتجاه محاولة تغيير الواقع الحالي بالقوة العسكرية، بعدما تبين استحالة تغيير ذلك بالانتخابات النيابية.

أيضاً فإن سياسات أردوغان المغامرة في المنطقة، ولا سيما في سوريا، والتي أفضت حتى الآن الى ظهور حالة كيانية كردية في شمال سوريا تهدد الأمن القومي التركي، كما تورط تركيا في دعم الجماعات المسلحة المتطرفة في سوريا وإدخال تركيا في أزمة عميقة مع روسيا، كلها عوامل اعتراضية على سياسات أردوغان الخارجية كانت تتفاعل داخل المؤسسة العسكرية.

اليوم، وبعد فشل المحاولة الانقلابية، فإن أردوغان يتصرف على أساس أنه انتصر، وهو سيندفع للانتقام من كل معارضيه في الجيش وكل المؤسسات الأخرى، سواء من المنتمين لغولن أو الآخرين. لكن هذا يعني أن أردوغان يكرر أخطاءه.

إذ إن المحاولة الانقلابية ألحقت الضرر الكبير بصورة أردوغان المفتخر بأنه «قصّ أجنحة» المؤسسة العسكرية، وبأن مرحلة الانقلابات انتهت. مجرد حدوث هذه المحاولة تأكيد على ان إصلاحات أردوغان فشلت في تعزيز الديموقراطية والحريات، بل إن المحاولة هي من نتائج نهج قمع الحريات والاستئثار بالسلطة. وبالتالي إن اعتقد أردوغان أنه ينتصر بالمزيد من القمع وتصفية المعارضين يكون قد كرّر الخطأ من جديد، وأسس مجدداً لعوامل اعتراض إضافية تنتج محاولة انقلابية عسكرية ثانية وثالثة، ومحاولات أخرى غير عسكرية لا أحد يمكن أن يتكهن بطبيعتها ومكانها وتوقيتها في مواجهة «الانقلاب المدني» الشامل الذي ينفذه أردوغان منذ سنوات.

فالمحاولة رغم فشلها هزّت صورة الاستقرار السياسي التي رسمها أردوغان في خط بياني منذ العام 2002 وتظهر ان النزعة الانقلابية في تركيا بعد تسعة عشر عاما على آخر انقلاب لم تدفن. ومن هذه الزاوية، فإن المحاولة ضربة كبيرة لتركيا وللُحمتها الداخلية ولأردوغان ونهجه، وتخصم من رصيده ولا تضيف له.

لكن الضربة الأكبر التي نتجت من المحاولة هي الهزة التي تعرضت لها بنية المؤسسة العسكرية. إذ إن عمليات التصفية تفرغ المؤسسة من كوادرها، وصور استسلام العسكريين مجردين من السلاح ورافعين الأيدي يعكس محاولة مهينة لإذلال الجنود. كذلك الأمر بالنسبة لرفس المدنيين بأقدامهم العديد من الجنود.

لم يعد الجيش بعد هذه المحاولة الانقلابية وما رافقها من عمليات إهانة وتصفية، ذلك الجيش المهيب، بل تحوّل إلى مكسر عصا. ومثل هذا الجيش بمعنويات ضعيفة لن يكون قادراً على مواصلة المعركة ضد الأكراد في الداخل، ولا في تغطية التورط العسكري التركي في سوريا ودعم الجماعات المتشددة هناك.

إن المحاولة الانقلابية يفترض أن تترك أثرها على سياسات أنقرة تجاه الأكراد في الداخل، كما يفترض أن تظهر لأردوغان مرة أخرى أن الخطر عليه لا يأتي من دمشق بل من الداخل.

وفي ظلّ توقع انشغال أردوغان بترتيب البيت الداخلي، فمن المفترض أن يتحلل تدريجياً من سياسته المغامرة في سوريا والعراق. أما في العلاقة مع الولايات المتحدة، فإنها لن تتأثر، وبرغم دعوة اردوغان لأميركا تسليم غولن، فإن المحاولة ستجعل أردوغان في وضع أضعف تجاه واشنطن التي ستستفيد من عصا المحاولة الانقلابية التي هُزّت بوجه أردوغان الذي يدرك ذلك، لذا وصف الولايات المتحدة بالحليف الاستراتيجي.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى