“التأرجح” الروسي في سوريا.. أسباب داخلية أم أميركية؟ د. ليلى نقولا
يحتار العديد من الباحثين في فهم السياسة الروسية في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل ما يظهر أنه إصرار روسي على انخراط وتعاون مع الأميركيين في سورية، فيُعلنون عن رغبتهم الدائمة بالتعاون، بينما يتهرب الأميركيون ويعلنون عدم التنسيق الميداني، وقد ازدادت هذه الحيرة حين أوقف الروس الاندفاعة العسكرية التي بدأت مع دخولهم العسكري المباشر إلى سوريا، وما نتج عنها من انتصارات ميدانية متسارعة، كادت – بحسب بعض المراقبين – أن تحقق انتصاراً للجيش السوري وحلفائه، لن يكون بعده الحديث عن قلب موازين القوى العسكرية متاحاً .
لا أحد يستطيع الجزم بالأسباب التي تدفع الروس على الإصرار على التعاون مع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وإن كان الأمر متعلقاً بواقعيتهم وإدراكهم لحجم دورهم المفترَض، أو لعدم قدرتهم وعدم حماستهم للذهاب إلى حرب باردة جديدة، أو لأسباب اقتصادية داخلية أو غيرها، لكن قد يكون الأمر مرتبطاً أيضاً بالفهم الروسي للعقل الاستراتيجي الأميركي والخطوط الأميركية الحمراء التي لو تمّ المساس بها، فسيندفع الأميركيون إلى القتال والانخراط عسكرياً بشكل مباشر، وبدون إحراج.
واقعياً، هناك عدّة أهداف استراتيجية كبرى ترتسم في العقل الاستراتيجي الأميركي، لكن ما يهمنا هنا هو الهدف الاستراتيجي الأول والأهم، وهو “حرية الدخول والحركة في المناطق الحيوية“.
يعتقد كثير من الخبراء الأميركيين أن هذا الهدف المشار إليه أثبت خلال مئة عام أنه من أهم الأهداف التي يمكن للأميركيين بذل الكثير من التضحيات لأجل الحفاظ عليه أو تحقيقه، وبشرح بسيط، لقد كان الأميركيون يهدفون دائماً إلى المحافظة على حرية وصولهم بلا قيود، وعلى نظام سياسي متوازن يضمن لهم نفوذاً في كل أوروبا وشرق آسيا، والشرق الأوسط، لذا هم لن يترددوا في شن حرب عسكرية لحماية هذا الهدف الحيوي والرئيسي بالنسبة لهم.
لكن، لماذا يستعد الأميركيون لبذل الكثير من التضحيات ودفع الأثمان لتحقيق هذا الهدف؟
تتباين تفسيرات الخبراء الأميركيين في هذا الشأن، فالتفسيرات الواقعية تشير إلى أن الهدف دائماً هو منع هيمنة أي دولة أخرى – معادية – من بسط السيطرة والهيمنة على واحدة من هذه المناطق الحيوية الرئيسية، بينما الليبراليون يؤكدون أن هذا الهدف هو لتدعيم القيَم الأميركية الداخلية في الحرية والرخاء، وأنه ضرورة لاستمرارها وتطورها ونشرها في تلك المناطق الحيوية.
وبما أنني أميل إلى المدرسة الواقعية، ولا أؤمن بوجود قيَم عالمية يتم السعي لتحقيقها من خلال القوة، فإن التفسير الأول يكون أقرب إلى المنطق، وذلك لأن الدول الكبرى تسعى دائماً إلى الهيمنة في المناطق الاستراتيجية الحيوية في العالم، وهي بالتالي تسعى أولاً إلى الهيمنة على محيطها الجغرافي الخاص، وتقوم ثانياً بمنع الدول الأخرى من الهيمنة في محيطهم الجغرافي الخاص ومحاولة منافستهم فيه، وهكذا تعمد الدول الكبرى إلى ممارسة سياسات الردع، والاحتواء، ومنع بروز أي قوة دولية أو إقليمية أخرى ومنعها من الهيمنة.
من هنا، كان الهدف الرئيسي الدائم للولايات المتحدة، ليس فقط منع الآخرين من الاقتراب أو محاولة مدّ نفوذهم إلى الحيّز الأميركي، بل أيضاً مدّ نفوذها إلى مناطق الآخرين، ومنافستهم في حيّزهم الجغرافي، لضمان حرية الوصول والحركة في تلك المنطقة الحيوية، ولو كانت بعيدة جغرافياً عن الولايات المتحدة.
بهذا المعنى، قد يكون الروس أدركوا مدى أهمية “حرية الوصول والحركة” في الشرق الأوسط، وفي سوريا والعراق بالتحديد، بالنسبة للأميركيين، ويدركون أن تحدي الأميركيين في هذا المجال سيدفعهم إلى المزيد من الانخراط العسكري لتأمين هذا الهدف، وهو ما سيرتدّ سلباً على كل من الروس ومحور المقاومة، وسيدفع إلى مزيد من الاستنزاف في الحرب السورية، يؤدي إلى خسارة الجميع بتمكين الإرهابيين، لذا عمدوا إلى عدم استفزازهم في هذا المجال.
في المحصلة، لا يمكن لأي مراقب من الخارج إدراك حقيقة ما يفكّر فيه الروس في حركتهم وانخراطهم “المتأرجح” في سوريا، لكن، بكل الأحوال، لقد كان لانخراطهم السياسي في مجلس الأمن، ثم الانخراط العسكري في الميدان، تأثير كبير على حجم الدور الروسي العالمي، وأهمية روسيا كدولة على الصعيدين العالمي والإقليمي في الشرق الأوسط، لذلك، مهما تأرجح الروس بين الفعل وعدم الفعل، والانخراط وعدم الانخراط، يبقى الانتصار في سورية حاجة روسية قد توازي الحاجة السورية – الإيرانية للانتصار.