إعادة النظر في الدور العسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط جيمس جيفري, مايكل آيزنشتات, و جدعون روز
معهد واشنطن
30 حزيران/ يونيو 2016
“في 24 حزيران/يونيو، خاطب جيمس جيفري، مايكل آيزنشتات، وجدعون روز منتدى سياسي في معهد واشنطن بمناسبة صدور التقرير الجديد “المشاركة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط الأوسع”. وجيفري هو زميل متميز في زمالة “فيليب سولوندز” في المعهد وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا. وآيزنشتات هو زميل “كاهن” ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في المعهد. وروز محرر مجلة “فورين آفيرز” وعمل في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي خلال فترة إدارة الرئيس كلينتون. وفيما يلي ملخص المقرر عمر مخلص لملاحظاتهم“.
جيمس جيفري
في كتابه الذي يحمل عنوان “كيف توضع نهاية الحروب” كتب غدعون روز أن العمل العسكري لا يحقق الكثير من الإنجازات من دون وجود ترتيب سياسي مستدام، ولا شك أن هذا القول المأثور يبقى صحيحاً في الشرق الأوسط. وتكمن المشكلة في تحديد ماهية هذا الترتيب السياسي المستدام.
منذ الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة بعمليات عسكرية ذات مستويات مختلفة في المنطقة، لكنها تندرج كلها ضمن إطار الترويج لنظام عالمي ليبرالي يتمحور حول نظام أمني جماعي بقيادة أمريكية. وما كان يشكل جزءاً من هذه الاستراتيجية، إذا طُبقت بطريقة مثالية، هو تفادي التورط في قتال بري، إلا أن الفوضى المستمرة في المنطقة أرغمت أمريكا على التدخل هناك مباشرةً مراراً وتكراراً، بما فيه الحملات الائتلافية الثلاث في العراق أو ضده منذ عام 1990، بالإضافة إلى خمسة عشر عاماً من القتال في أفغانستان.
ما يشكل جزءاً من التحدي هو أنه ما من إصلاح على دفعة واحدة، بموجبه تُعالَج مشكلة أمنية قائمة ثم تختفي، يناسب الشرق الأوسط. إلى ذلك، تميل الولايات المتحدة إلى تحديد ماهية الترتيب السياسي المستدام بطريقة شاملة جداً تكاد تكون غير واقعية، وقد باءت بالفشل خاصةً في هذه المنطقة. ففي خلال الحرب الباردة وبعدها، كانت الابتكارات العسكرية المهمة هناك قائمة على الاستراتيجية الكلية التي تتمثل في احتواء الاتحاد السوفياتي ومهيمنين محتملين آخرين كإيران والعراق وليبيا، باستخدام بنية من العلاقات الأمنية الإقليمية والقواعد وشحنات الأسلحة ومساعدة الحلفاء المحليين كوسيلة للحد من الانتشار الأمريكي. وقد نجحت هذه المقاربة غالباً، مع بعض الاستثناءات مثل أزمة رهائن إيران وبيروت والصومال. غير أن بعض المشاكل برزت عندما أخذت الولايات المتحدة على عاتقها التزامات عسكرية غير محدودة من دون صياغة ترتيب سياسي مستدام مسبقاً. فمن دون ذلك، تبين أن حقن القوات الأمريكية في أوضاع تشبه الحروب الأهلية ليس مجدياً، إذ كانت واشنطن تبدل باستمرار الأهداف السياسية لتتلاءم مع ما كان يحدث عملياً. وأخيراً فشلت الجهود الأمريكية في العراق وأفغانستان لأن المحليين كان لهم أهدافهم وحوافزهم الخاصة، ولأن أعداد القتلى المتنامية قضت شيئاً فشيئاً على الدعم العام المحلي.
لكن لا يمكن القول إن غاية استخدام القوة العسكرية في الشرق الأوسط خاطئة أصلاً. فعلى العكس تماماً: إذ على مر السنوات السبعين الماضية، نفذت الولايات المتحدة إحدى وأربعين عملية صغيرة أو كبيرة في المنطقة، ونجح معظمها عسكرياً كما ساعد على الحفاظ على التحالفات. واختلفت السنوات الخمس عشرة الماضية خاصةً بسبب تبدُّل تصورات النجاح في المنطقة، وخصوصاً في العراق بعد عام 2003، وفي أفغانستان، وضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وإيران. ويعتقد معظم الشعب الأمريكي أن بلده متورط بشكل مفرط في الشرق الوسط، ويشكل هذا نتيجة مباشرة لقرار الحكومة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر بالتوقف عن تحديد “الترتيبات السياسية المستدامة” على أنها “وضع راهن يضبط الفوضى المتأصلة في الشرق الأوسط”. وعلى الرغم من أنه كان من الممكن تفهم هذا القرار في ذلك الوقت، فقد أدى إلى اتباع إدارات متتالية استراتيجيةً محكوماً عليها بالفشل، تتمثل في استخدام التدخل العسكري في العراق وأفغانستان وأماكن أخرى كوسيلة لتغيير هذه المجتمعات والمنطقة ككل.
بعد سلسلة العمليات الأخيرة غير الناجحة التي افتقرت إلى نهاية واضحة للعبة السياسية (مثل ليبيا وسوريا)، يبدو أن الإدارة الحالية تعتقد أن تخفيض النفقات هي المقاربة الفضلى، التي تسهل بجزء منها تغيير الموقع إزاء آسيا. لكن هذا التخفيض زاد الوضع سوءاً. فيبقى الشرق الأوسط مهماً للأمن العالمي وبالتالي للأمن الأمريكي، وما يزال استخدام القوة العسكرية قادراً على المساعدة في إدارة المخاطر المتنوعة في المنطقة – باعتبار أن هذه الجهود تُدار بحذر، وتسعى إلى أهداف لها معنى وليس إلى تغيير مجتمعات بأكملها.
مايكل آيزنشتات
على الرغم من أن “الحروب الأبدية” في الشرق الأوسط أرهقت الشعب الأمريكي، تبقى للولايات المتحدة مصالح حيوية تتطلب منها أن تحافظ على تدخلها العسكري هناك. فاحتياطات النفط والغاز الهائلة في المنطقة مهمة اقتصادياً لشركاء التجارة الأساسيين، ويتم تجاهل دورها كمصدّر لعدم الاستقرار والتطرف العنيف والتنافس على المسؤولية الشخصية.
غير أن الولايات المتحدة لم تتعامل بشكل فعال جداً مع التحديات الأمنية ما بعد حقبة 11/9، ابتداءً من الشبكات الإرهابية العابرة للأوطان إلى التمردات التي لا تنضب وبناء الدولة. فواضعو السياسات بحاجة إلى إعادة تقويم طريقة تفكير أمريكا وتصرفها العسكري في المنطقة حتى يتمكنوا من إحراز التقدم بشكل أفضل في ما يخص مصالح الولايات المتحدة هناك. وهذا يعني تطوير فهم أفضل لثقافة المنطقة وسياستها (أي بيئة العمليات)، وخاصة طرق عمل نظام الدولة “قبل الحقبة الوستفالية” التي تميل فيها دول الشرق الأوسط إلى التدخل في شؤون بعضها البعض، غالباً مع درجة معينة من القوة العسكرية.
كما يجب أن يخفّض واضعو السياسات توقعاتهم في ما يتعلق بما يمكن أن يحققه التدخل العسكري في المنطقة، من خلال التخلي عن “إيديولوجية الحل”. فلا يمكن حل النزاعات المتعددة في الشرق الأوسط حالاً، من خلال إدارتها فحسب. وفي الوقت نفسه، لهذه الديناميكية وجهان، فهي تخلق الفرص لتراجع إنجازات أخصام الولايات المتحدة.
أدى الفهم غير المناسب لبيئة العمليات إلى تقديم أداءٍ ما دون المستوى المطلوب في عدد من المجالات كما في حملة الولايات المتحدة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، التي فيها أصبحت السياسات الأمريكية تجاه سوريا وإيران نعمة منشِّطة للمجموعة وقوضت جهود الولايات المتحدة العسكرية؛ وفي جهودها لردع الأخصام وتطمين الشركاء، التي أعاقها فشل واشنطن في الحفاظ على مصداقية الالتزامات الأساسية (مثل وضع الخط الأحمر لاستخدام الأسلحة الكيميائية)؛ وفي دعمها القوة الأمنية، عندما تجاهلت غالباً حاجات شركائها الثقافية والعملانية من خلال محاولة إنشاء قوات عسكرية أمريكية مصغرة؛ وفي أنشطتها الإعلامية التي فشلت في التقويض الفعال لنداء مجموعات مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” وتأثير إيران ولهذه المشاكل عدد من التداعيات حول كيفية استخدام أمريكا للوسيلة العسكرية وهي تمضي قدماً.
أولاً، على واضعي السياسات أن يتخلوا عن طريقة تفكيرهم المزدوجة حول “الحرب والسلام” و”النصر والهزيمة” والنزاعات “النظامية وغير النظامية” – وهذا التغيير ضروري لتحقيق النجاح في منطقة حيث تكاد الحدود بين هذه المصطلحات تضمحل غالباً، وحيث يُحتمل أن تؤدي النزاعات إلى نتائج غامضة.
ثانياً، على واضعي السياسات أن يتوقفوا عن الاعتماد على حلول تكتيكية وتكنولوجية (كما يبرز في “المعادل الاستراتيجي الثالث” في وزارة الدفاع) للنزاعات ذات الأسباب السياسية، حيث تكون التكنولوجيا غالباً أقل أهمية من الفطنة السياسية والثقافية والحدس الجيوسياسي السليم.
ثالثاً، تحتاج الولايات المتحدة إلى اعتماد مقاربة “أثر خفيف” قوية كفاية للحفاظ على الزخم إزاء تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”، ولردع إيران، ولضم الشركاء الإقليميين، ولدعم الدبلوماسية، لكن مع الاستثمار المستدام في الأرواح والأموال. ولا يمكن أن تنجح مقاربة كهذه إلا إذا تصرفت أمريكا أكثر على غرار أخصامها، أقلّه على صعيد العمل عبر وكلاء محليين لتحقيق أرباح تزايدية. كما يجب أن تتجنب الخطوات الجيوسياسية الخاطئة التي لا يمكن التعويض عن نتائجها المزعزعة للاستقرار عبر البراعة التكتيكية الأمريكية أو نقل الأسلحة أو تصريحات ترمي إلى تطمين الحلفاء.
رابعاً، على الرغم من الأهمية البالغة للأنشطة الإعلامية في مواجهة الأعداء كتنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” وإيران، فالأفعال أبلغ من الأقوال في الساحة السياسية. وقد أدّت الهوّة بين أقوال أمريكا وأفعالها في التعامل مع هذه الجهات إلى إضعاف موقفها بين الأصدقاء والأعداء.
أخيراً، لا يمكن أن تتجنب الولايات المتحدة اعتماد جدول أعمال تحويلي في الشرق الأوسط. فلا يجب أن تبدّل ثقافتها الاستراتيجية فحسب لتحسين تعاملها مع التحديات الإقليمية، لكن يجب أن تعمل أيضاً مع الشركاء المحليين المتورطين في الحرب لتغيير الثقافة السياسية الصفرية الناتجة التي فيها يستحوذ الرابح على كل شيء والتي أسفرت عن نزاعات عدة هناك.
جدعون روز
يشير التقرير الجديد بعنوان” تدخل الولايات المتحدة العسكري في الشرق الأوسط الأوسع” إلى الجدال الذي سيحدث في الأيام الأولى من استلام الإدارة الجديدة مقاليد السلطة، في أثناء تحديد موقع خيارات واشنطن الاستراتيجية الحالية ضمن إطار نظري وتاريخي أشمل. وقد تميز تفاعل أمريكا مع الشرق الأوسط بأمرين عن المقاربة الكلية التي اعتمدتها في الحقبة التي تلت الحرب الباردة. فأولاً، كانت المنطقة بأكملها تقريباً منطقة يسودها النزاع بالوكالة في خلال تلك الحقبة – فلم تكن تماماً في النظام العالمي بل كانت مكاناً تقاتلت عليه جهات أخرى. وثانياً، أدى دور المنطقة كمورد للنفط إلى تدخل الولايات المتحدة أكثر هناك.
تتهيّأ أمريكا حالياً للدخول في حقبتها الثالثة المهمة من سياسة الشرق الأوسط، وهي حقبة تختلف بشكل ملحوظ عن حقبتيْ الحرب الباردة وما بعدها. ففي الحقبة الثانية، لم تعد اعتبارات الحرب الباردة مسيطرة، لكن النفط كان لا يزال مهماً، فيما نتجت عن بروز التفاؤل والقوة في الولايات المتحدة مقاربة “إيديولوجيا الحل” تجاه عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، ونتج أيضاً اعتقاد عام أن المنطقة ستتطور بشكل إيجابي. وأُضيفت اعتداءات 11/9 فحسب إلى جدول الأعمال التحويلي. لكن لم يكن مصير هذه الجهود الرامية إلى إيجاد حلٍّ جيداً، وارتأت إدارة أوباما الابتعاد عن المشكلة بدلاً من حلها.
لكن الابتعاد كلياً عن الشرق الأوسط غير معقول. ولا الحرب التقليدية الواسعة النطاق معقولة. فتكمن الإجابة في مكان ما في الوسط – أي في العمليات العسكرية التي لا تبلغ مستوى الحرب والتي تسمح لواشنطن وشركائها بإدارة أمن المنطقة. وها هو الجدال الحقيقي حول كيفية تحقيق ذلك (وحول وجوبه) يبدأ، وإنْ كان عددٌ من الأدوار الأمريكية التقليدية في المنطقة لا ينفك يتبدل.
تبرز أيضاً علامات استفهام حول ما يدفع الولايات المتحدة إلى التدخل في المنطقة. فما زال الإرهاب يؤدي دوراً واضحاً، لكن إلى أي حد سيؤثّر في سياسة الشرق الأوسط إذا كانت معظم الاعتداءات الإرهابية المحلية تُنفَّذ على يد أفراد من أبناء الوطن أو على يد متطرفين غير مباشرين بدلاً من عملاء مباشرين؟ كذلك، تتبدل المخاوف المتعلقة بمسائل الطاقة في حقبة التصديع المائي وفيض النفط والتطورات ذات الصلة. وفي الماضي، دفعت أهمية المنطقة البالغة، التي تحتلها في الاستراتيجية الأمريكية الكبرى والاقتصاد العالمي، الولايات المتحدة إلى تحويل بلدان الشرق الأوسط وإرساء الاستقرار فيها، لكن بعد هدر كمية كبيرة من الأرواح والأموال، توصّل الكثيرون إلى تقبل واقع أن تغييراً كهذا لا يمكن تحقيقه في المستقبل المنظور. وأدى هذا بدوره إلى تراجع استعداد أمريكا إلى الاستمرار في التوسع هناك.
إذاً ماذا نفعل في منطقة تعنينا جداً، وما تزال نتائجها تؤثر فينا، ومشاكلها العسيرة متأصلة في مسائل عميقة تبقى صعبة المراس في وجه أدواتنا ودرايتنا الحالية؟ يوجه الشعب الأمريكي رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لا يجب أن تستمر في هذا التعاطي المباشر جداً في شؤون الشرق الأوسط – فهو فرح بالتوقف عن أداء دور كبير ومباشر حتى في إرساء الاستقرار في المنطقة، كيف إذاً في تحويلها. وهذا هو الحديث الذي سيدور في السنوات القادمة. وبعد أن أصبحت الجدالات الحامية، التي اتسمت بها سنوات أوباما، وتأثيرات تدخل العراق في أكناف الماضي بشكل كافٍ، سيكون السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى سيكون التدخل في الشرق الأوسط ضرورياً ولِكم من الوقت؟