بقلم ناصر قنديل

نصف الحرب إعلام: الأخبار والتحليل وكلام القادة لماذا يعلن أردوغان الاستعداد لمنح الجنسية للسوريين؟

ناصر قنديل

– في تحليل النصوص السياسية للقادة والمسؤولين غالباً ما يقع مَن يقرأها، بحبائل وأفخاخ ما أراده صاحبها، إذا انطلقنا من كون القادة لا يتكلّمون لإخبار حقائق من موقع تأدية أمانة ومسؤولية ترتبان قولها، ولا لأنهم محللون موضوعيون محايدون يقدّمون معارفهم للناس بلا هدف، والمحللون أنفسهم لا يفعلون ذلك أصلاً، بل هم أشخاص منضوون في خدمة مشاريع وأهداف يحاولون تقديم خدماتهم للالتزامات التي أخذوها على أنفسهم أو أخذها الغير عليهم، من بوابة تفسير وتحليل الأحداث والموقف لترجيح كفة سياق يلبّي احتياجات فريقهم، أو يخدم حربه النفسية، او يردّ على نجاحات حرب نفسية معاكسة، أو يمرّر رسائل للحليف أو للخصم، وإذا كان المحللون هكذا فكيف يكون القادة ويكون خطابهم؟

– الحرب هي في نصفها على الأقلّ إعلام، ورواية الأخبار صارت حرباً، فكيف بالتحليل، وكيف بالأحرى بكلام القادة والمسؤولين، الذي يشكل النص الوحيد الذي يلزم وفقاً لقواعد حاجة الناس للاطلاع، القادر على استعمال وسائل إعلام الخصم لبلوغ جمهوره رغماً عنه، وهذه أعلى مراتب الحرب الإعلامية. هكذا ترى قناة «المنار» أنها مضطرة لنقل تصريح لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ويرى تلفزيون العدو أنه مضطر رغماً عن أنفه لنقل مباشر أحياناً لخطاب قائد المقاومة السيد حسن نصرالله والمليء برسائل الحرب النفسية.

– في الأخبار مثلاً تناقلت قبل عامين تماماً كلّ وسائل الإعلام العالمية الإعلان عن التوصل إلى توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، ولم تكتف أيّ فضائية عالمية بنقل الخبر بجملة واحدة، تمّ أخيراً توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، ولا قدّمت تتمة مفصلة لا تتسع لها نشرات الأخبار لبنود الاتفاق، بل استعملت سلطتها في نقل المعلومة للمتلقي بإضافة اعتراضية تحت عنوان، والجدير ذكره المضافة بعد خبر توقيع الاتفاق، فقالت قناة «سي أن أن»، إن الاتفاق وقّع وأضافت أنّ الجدير ذكره، أنّ الاتفاق تضمّن قبولاً إيرانياً بالامتناع عن التخصيب المرتفع لليورانيوم إلى الدرجة التي يمكن استعمالها في إنتاج سلاح نووي، وهو ما كانت إيران ترفضه سابقاً، بينما قالت قناة العالم إنّ الاتفاق وقع أخيراً والجدير ذكره أنه تضمّن إقراراً غربياً بحق إيران بتخصيب اليورانيوم وامتلاك الدورة النووية العلمية بكلّ مفاصلها، وهو ما كان الغرب عموماً وأميركا خصوصاً يرفضانه في السابق. أما قناة «روسيا اليوم» فقالت إنّ الاتفاق وقع أخيراً، والجدير ذكره أنه تضمّن حق إيران بالتخصيب وهو ما كان يرفضه الغرب، وامتناع إيران عن التخصيب على درجات عالية وهو ما كانت ترفضه إيران. وفي كلّ من الحالات الجدير ذكره، حرب نفسية، تصوير للفريق المنتصر والفريق المهزوم، أو للتعادل بين الفريقين.

– في التحليل عندما يقرأ أيّ باحث أو كاتب أو محلل في مقال أو حضور إعلامي لا يفعل ما يعتقده البعض أنه يستعرض قراءته الخاصة للأحداث، بل هو يوائم بين ما تقوله الأحداث وما يريد إيصاله من موقع اختاره لنفسه في مواجهتها أو اختير له، ويكون مقنعاً ليس بقدر صحة تحليله بل بقدر نجاحه في هذه المواءمة، وفي النهاية إذا افترضنا أنّ التحليل يتناول ما يدور بين حزب الله وأميركا، سيصل المحلل للقول إما أنّ حزب الله في مأزق أو أنه قادر على تخطّي الصعوبات، ويصبّ التحليل في فهم لموازين القوى تخدم إما تعزيز مناخ الثقة لدى جمهور مؤيدي خندق حزب الله، وإصابة خصومهم بالإحباط أو العكس، وهكذا في قراءة موازين القوى واحتمالات الحرب بين المقاومة وحلفها من جهة و«إسرائيل»، أو في قراءة الوضع في سورية، بين الجبهتين المتقابلتين وتوقعات المستقبل أو تحليل الحاضر، وحتى عندما يتناول التحليل على سبيل المثال المسألة الكردية ليقول إنّ اتفاقاً روسياً أميركياً قائماً على تقسيم سورية وقيام كيان كردي ويسوّق الإشارات التي تدعم هذا الاستنتاج. فهو لا يفعل ذلك مجاناً بل ليقول، إنّ الحلف الذي ينتمي إليه والواقف ضدّ سورية وحلفائها قد سقطت رهاناته على إسقاطها، لكن زرع الشكوك بين سورية والحلفاء صار هو الاستراتيجية الإعلامية التي يتبعها، ومثلها عندما يتحدّث عن الهدنة وما يجري في شمال سورية.

– عندما يتكلم القادة والمسؤولون يتسرّع كثيرون للتوقف أمام شق من الكلام أراد المتكلم لفت الأنظار إليه، ويعلق في ذهنهم ويربك تفكيرهم، ويصير هو الحدث، ولإعطاء مثال حي يمكن تشريح خطابين حديثين لكلّ من الرئيس الأميركي والرئيس التركي، ووضع افتراضات معينة للحديثين. فقد قال الرئيس الأميركي باراك اوباما إن لا استقرار لسورية ببقاء الرئيس السوري ولا يمكن لذلك أن يسهم في الحرب على الإرهاب، وقال إنه يتطلع لتفاهم مع موسكو يضمن التعاون في الحرب على «داعش» و«النصرة» ويضمن في المقابل أن تضغط موسكو على حليفها الرئيس السوري لعدم استهداف المعارضة التي تدعمها واشنطن، ويعلق في الذهن أنّ أوباما يواصل العناد في موقفه من الرئيس السوري وأنّ الأوضاع إلى مزيد من التأزم، ولنفهم المقصد لأننا لا نتحدّث عن محلل أو صاحب رأي بل عن قائد الحرب على سورية لإسقاط رئيسها، نقول فليحتفظ أوباما ما شاء بهذا التحليل بكيفية حفظ الاستقرار والنصر على الإرهاب ببقاء الرئيس السوري أو برحيله، طالما هو استقراء من موقع المحلل، المهمّ في كلام القائد والمسؤول عندما يقول ماذا سيفعل، وليس ماذا يعتقد، ولا ماذا يتوقع، ولا ماذا يرى، فلنفترض كلاماً معاكساً للرئيس الأميركي يقول فيه، إنه يتفهّم موقف موسكو الداعم للرئيس السوري، وحجم الدعم العسكري المباشر الذي تقدّمه للجيش السوري، وهو من موقعه لا يريد التدخل في تحديد من يحكم سورية، فهذا شأن يخصّ السوريين، لكنه كحليف للمعارضة مضطر أن يفعل الشيء ذاته الذي تفعله موسكو فيقدّم للمعارضة السلاح الذي تريد، والدعم الناري المناسب آملاً أن ينجح الرئيس السوري والمعارضة بالتوصل إلى حلّ سياسي، وبالنسبة للحرب على الإرهاب فهو يتفق مع موسكو باعتبار «النصرة» و«داعش» تنظيمين إرهابيين، لكن أولوية الخطر على الغرب وعواصمه تفترض لتحقيق النتائح جعل داعش أولوية هذه الحرب، وهذا ما ستفعله واشنطن، خصوصاً أنّ تشابكاً صعباً وتعقيداً ميدانياً يحولان دون تمييز مواقع «النصرة» عن المعارضة، ويدعو موسكو لفعل الشيء نفسه، حتى يتحقق التفاهم مع المعارضة على شكل ابتعادها عن «النصرة» وفك التشابك معها، أو يتمّ التوصل إلى حلّ سياسي بين المعارضة والرئيس السوري، أو يتحقق النصر على «داعش»، والكلام هنا يبدو هادئاً وغير استفزازي، كالذي قاله، لكن التحليل لعمق الكلام يعني أنّ واشنطن ذاهبة للتصعيد وفقاً لما فيه من تحديد لما سيفعل، لا لما يعتقد ويظنّ ويتوقع، فهو هنا في الصيغة الثانية ذاهب لدعم المعارضة ومعها «النصرة» ضمناً بالنار والسلاح، وهذا هو المهمّ.

– كلام الرئيس التركي رجب أردوغان أول أمس، في أعقاب التفاهم مع موسكو ونفياً لتغيير في موقف أنقرة، فقال عن الرئيس السوري كلاماً تصعيدياً ووصفه بالإرهاب، بلغة عالية السقف ونبرة مرتفعة، يبدو للكثيرين تصعيداً، لكن أردوغان لم يقل شيئاً عما سيفعله حيال ذلك، بل قفز إلى موضوع المعارضة السورية ووقوفه معها، وهنا بقي في الكلام العاطفي. والكلام الوحيد الذي يتضمّن تعريفاً بفعل هو كلامه عن إنشاء قسم في وزارة الداخلية التركية مهمته منح الجنسية التركية للراغبين بالحصول عليها من السوريين، ولنفهم أكثر فلنفترض أنّ أردوغان قال كلاما آخر، مثل، بغضّ النظر عن التقييمات المختلفة للرئيس السوري فإنّ تركيا التي باتت تعطي لأمنها القومي تجاه خطر نشوء كيان كردي على حدودها مع سورية، ستبقى تدعم الفصائل المسلحة التي تقاتل الأكراد، بمعزل عن كيف ينظر العالم إلى هذه الفصائل، فالإرهاب هو الذي يستهدف تركيا ومن يقاتله حليفها. وهذا سيحكم دورنا عبر الحدود مع سورية، حتى تزول أيّ خصوصية مسلحة للأكراد هناك، ومن دون أن يذكر «النصرة» وسواها سيكون قد أعلن المضيّ بالدعم الناري لها ولمن معها والمضيّ في سياسة الحرب بلغة ناعمة تسخر من العقول المتسرّعة، وهذا هو المهمّ. لكن قوله الذي مرّ أول أمس للمرة الأولى منذ بدء الحرب على سورية، عن منح الجنسية للسوريين الراغبين، يعني شيئاً واحداً، أنّ الأمل بإسقاط سورية ورئيسها قد انتهى، وأنّ تركيا التي لا تحب هذا الرئيس لا تملك ما تقدّمه لخصومه سوى الجنسية، إذا كانت عودتهم إلى سورية مستحيلة، وإلا لماذا الآن وليس قبل إذا كان ذلك يخدم صمود السوريين. وما هي الرسالة للمعارضة في الوعد بالتجنيس، سوى أنّ الحرب انتهت أو تكاد؟

– من الطبيعي في الحديث عن الحرب الإعلامية التساؤل عن سرّ حديث التجنيس التركي للنازحين السوريين وصِلته بتبرير الطلب الدولي من لبنان لتجنيسهم، وعلاقة الأمرين بحملة إعلامية منظمة متواصلة عبر القنوات المموّلة من السعودية، تتهم سورية وحزب الله والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن بحملات تغيير ديمغرافي، تبدو تافهة وسخيفة لدى التدقيق فيها. فالحديث عن سعي الدولة السورية لتغيير ديمغرافي في الزبداني استهلك شهوراً من التكثيف الإعلامي مرتكزاً على نظرية دولية تقوم على وصل دمشق بالساحل، بهوية طائفية، وتستدعي التخلي عن باقي الجغرافيا السورية، يكذبه بقوة حجم الاستثمار بالدم الذي يبذله الجيش السوري في كلّ من حلب وأريافها والرقة والحسكة ودير الزور، ومثله الحديث عن حزب الله لتغيير ديمغرافي في البقاع والضاحية وبيروت، أو سعي الحشد الشعبي لتغيبر في الأنبار، أو زحف حوثي من صعدة لتغيير الهوية السكانية لصنعاء، لكن الذي يريد التدقيق عليه أن يربط هذا الحديث السعودي عن اتهامات الخصوم بالتغيير الديمغرافي لتبرير عمل مماثل يشكل هدفاً سعودياً في لبنان، إذا تمّ ربطه بالحديث عن التجنيس الذي كان حتى كلام أردوغان مجرّد فزاعة لا أساس لها بنظر البعض.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى