خيبة أردوغان: سقوط «العثمانية» وانتصار «البحار الخمسة»
ناصر قنديل
– لم يكن يعلم داوود أوغلو عندما صاغ نظريته عن العداوات صفر مع الجيران أنها ستخرجه ذليلاً من الحكم، بتحميله تبعات استجلاب كلّ العداوات لبلده من جيرانها، ويصير تقديم رأسه على طبق من ذهب للقيصر الروسي فلاديمير بوتين ثمناً لا بدّ منه للسير في تطبيق استراتيجية العداوات صفر التي صاغها، كمن حفر قبره ونزل فيه وأهال التراب على جثمانه بيديه. وكان أوغلو يعلم أنّ نظريته لم تكن، بمعرفة وموافقة مسبقة من صديقه ورفيق دربه رئيسه رجب أردوغان، دعوة للتفاهم مع الدول المجاورة، بل رسالة إعلامية للشعوب تمهيداً لطرح نظرية العثمانية الجديدة، التي تسعى لوضع اليد على البلاد العربية خصوصاً، من البوابة السورية لملاقاة ما يُعَدّ ويجري في مصر وتونس وليبيا واليمن والمغرب من توسّع ونموّ في سيطرة الإخوان المسلمين في مفاصل الحكم.
– يعرف أوغلو أنّ العداوات صفر لا تصلح لرسم الاستراتيجيات السياسية الكبرى، فالصداقات والعداوات ثمرة للسياسات وليست بديلاً عنها، كما يعرف أنّ صدقية العداوات صفر تستدعي إجابة عن أسئلة كبرى، كيف ستتموضع تركيا بحجمها الكبير في التعامل مع صراع تاريخي بحجم الصراع حول مستقبل فلسطين، وليس بيدها وصفة «إسرائيلية» ممكنة لعودة الحقوق الفلسطينية، ولا هي مستعدّة للتموضع في خيار المقاومة، وكيف ستتموضع تركيا التي تربط الشرق بالغرب وتنضوي في حلف الغرب الأول المسمّى بالأطلسي، وهي تسعى لقيادة الشرق من بوابة هويتها وتاريخها الإسلاميين، في ذروة التضارب في الرؤى والمصالح بين الشرق والغرب، غرب يشعر بالقدرة على الاستفراد بحكم العالم ويتحدّث عن نهاية التاريخ وصدام الحضارات، وحروب بخسائر صفر ويغزو أفغانستان والعراق، وشرق يتطلع لحريته وسيادته على موارده، والإمساك بأمنه بيديه، واختيار أنظمة حكمه وشكلها ورموزها بقرار مستقلّ، وكيف وأين ستوفق تركيا بهوياتها المتعدّدة بين مشروعين لملء الفراغ الاستراتيجي الذي بدأ يطلّ برأسه مع فشل الحملة الامبراطورية الأميركية. مشروع ينطلق من المنطقة لنظام إقليمي يتشكّل من الدول الفاعلة في المنطقة ويراعي مصالح الدول الكبرى، ومشروع الحرب الناعمة الذي يستعدّ الأميركيون لإطلاقه بحروب أهلية وفتن طائفية ومذهبية تزعزع فكرة الدولة الوطنية وقوة الجيوش الوطنية وتنشئ دولاً رخوة يمكن الضغط على مفاصلها وخواصرها الضعيفة بالحساسيات الطائفية، لترويضها وإخضاعها؟
– عندما أطلقت تركيا مشروع العثمانية الجديدة كانت تعلم أنها تفعل ذلك بالمواءمة بين أطماع تاريخية للهيمنة على البلاد العربية، ومشروع الحرب الناعمة أو الذكية الذي تبنّته إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لملء الفراغ الاستراتيجي في آسيا الناتج عن الفشل العسكري في الحروب، كما كانت قد تيقّنت من حجم الدعم الأميركي الذي ستلقاه لتسهيل تسليم الإخوان المسلمين الحكم في العديد من البلدان العربية، مقابل الانخراط في حرب إسقاط سورية، وتبلغت من حكام قطر ما سمعوه من الأميركيين بانتقال قيادة الشرق الأوسط إلى تركيا وضرورة وضع المقدّرات المالية والإعلامية بتصرّفهم، وكانت تركيا بقيادة الثنائي أردوغان وأوغلو تعلم ما يقتضيه المشروع من استقبال وتوطين لتنظيم «القاعدة» بالآلاف من مقاتليه وزجّهم في حرب على سورية، وما يتضمّن من مخاطرة بفتنة مذهبية كبرى في المنطقة، وربما بحرب تندلع مع إيران بفعل ذلك، ويكون فيها السند «إسرائيلياً» والتمويل سعودياً. لكنها كانت تعلم قبل كلّ شيء أنها بمشروع العثمانية الجديدة، ترسل جوابها السلبي الرافض لمشروع الرئيس بشار الأسد الذي يحمل اسم منظومة دول البحار الخمسة.
– شكّل مشروع الرئيس بشار الأسد لدول البحار الخمسة عام 2009 وهي البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج وبحر قزوين والبحر الأسود، لتشكيل منظومة أمن إقليمية تقودها الدول الفاعلة والكبرى وتلك الوازنة سكانياً أو اقتصادياً أو الحساسة جغرافياً، وهي روسيا وإيران وتركيا ومصر والسعودية والعراق وسورية والجزائر واليمن، بالتكامل مع أوروبا المتوسطية، لضمان أمن الطاقة والملاحة والسعي لحلّ النزاعات بالتفاوض، وجعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، والتعاون للتنمية والتقدّم الاقتصادي، بالاستثمار على مقدّرات شعوب المنطقة ومواردها الطبيعية. وهذا التكتل ليس حلفاً سياسياً، بل هو مشروع تعاون تمليه الجغرافيا السياسية، والمصالح المشتركة، يقول للغرب مع فشل غزوته العسكرية، إنّ مصالحه المشروعة يمكن أن تحفظ بغير طريق الهيمنة، وأن لا نية لدى شعوب المنطقة وحكوماتها التي تختلف مع سياسات الغرب مواصلة الحرب والانتقام، وأنّ حلفاء الغرب لن يدفعوا ثمن هزيمته، بل سيجدون مكاناً لشراكة مشرّفة في منظومة الشرق الجديد.
– الردّ كان برفض حلفاء واشنطن، فنال حاكم مصر نصيبه من الذين أسلس لمشروعهم القياد، فخلعوه، وقرّر السعوديون السير حتى النهاية بالرهان على حروب الفتنة، فشحذوا سكاكين «القاعدة» وصولاً إلى حربهم في اليمن، بينما أدار أردوغان حربه وعينه على دمشق من حلب، فهناك تولد العثمانية الجديدة أو تنهار، ورمى بثقل تركيا وأحرق السفن وأقفل خطوط الرجعة، حتى بلغ كلّ شيء مداه، وها هو اليوم يدفع الثمن، وتدفعه معه تركيا المضرّجة بدماء الضحايا إثر ضربات الذين استجلبهم أردوغان ليقصم ظهر سورية، والحرب تبدو كفة ميزانها الراجحة لصالح الحلف الذي تشكل من روسيا وإيران مع سورية، فيقرّر مهما أراد تغيير التسميات، ان يقول إنّ التطبيع مع روسيا هو عودة للجغرافيا السياسية وقواعدها، وإنه سيذهب للتطبيع مع مصر وإيران ولاحقاً سورية، وهو في حال تطبيع مع السعودية، لكنه يستبق الخطوات كلها بالتطبيع مع «إسرائيل».
– منذ البداية كانت أزمة أردوغان وأوغلو مع مشروع البحار الخمسة، السؤال عن مكانة «إسرائيل»، وعندما يقرّر أردوغان العودة للبحار الخمسة ويسلّم بسقوط العثمانية ويختار موسكو بوابة للعودة ويستبق خطواته بالتطبيع مع «إسرائيل»، يرسم موضوع الصراع الحقيقي المقبل حول هوية النظام الإقليمي الجديد، ومكانة «إسرائيل» فيه. فقد عاد أردوغان من تيه العثمانية إلى حقيقة البحار الخمسة من دون التسليم لصانع مشروعها، ومن دون التسليم بأن لا مكان لـ«إسرائيل» في منظومة إقليمية للأمن والتعاون الاقتصادي.
(البناء)