مقالات مختارة

غاب الاستفتاء.. فهل ستشرق شمس أوروبا؟ بروكسل – وسيم ابراهيم

 

توافد البريطانيون أمس، بكثافة، على مكاتب الاقتراع للمشاركة في استفتاء تاريخي حول بقائهم في الاتحاد الأوروبي أو مغادرته، في حين حبس الأوروبيون أنفاسهم بانتظار النتيجة التي من المتوقع أن تصدر فجر اليوم.

لكن انقضاء يوم الاستفتاء البريطاني لم يعنِ غياب زوبعة النقاش الأوروبي التي أثارها. طيف سياسي واسع، على امتداد التكتل الأوروبي، اعتبر أنه كان مفترقاً بغض النظر عن النتيجة. الجميع يطالب بأوروبا جديدة. أوروبا لا تكسرها رياح الأزمات، لا تجرفها تيّارات التعصب الوطنية ولا تخون حلم آبائها المؤسسين. أوروبا تخرج من مستنقع التشكيك، الذي اعتاش عليه اليمين المتطرف ليشكل خطراً على المشروع برمته، إلى ولادة جديدة تستعيد دعم شعوبها المتذمّرة.

أوروبا كهذه، وسط تلك الاشتراطات الحادة لمخاضها، كيف ستخرج؟ هل تحابي الاعتراضات الشعبوية، ليدفع بعض الفاتورة محيطها العربي، خصوصاً إذا قست عليه ليتحوّل إلى خزانات لجوء؟ أم تتجرأ أوروبا على نفسها، تصدّق شعاراتها وقيمها «الأوروبية»: تقدّم أملاً لمواطنيها الذين خسروا مئات المليارات، للخروج من أزمة الليبرالية المتوحشة للمصارف وأسواق المال، وتمدّ يدها لشراكة حقيقية، نفعية بلا مغالاة وفوقية، مع جوارها المؤثّر في أمنها واستقرارها.

ستكون أوروبا بين تلك الحدود، وإن كان مستبعداً بوضوح خروجها بخيار جذري. لكن أينما مال ميزان الحل، ستكون التأثيرات مختلفة.

تبقى الإجابات معلّقة بانتظار تجليات المخاض الأوروبي الحاصل الآن مهما كانت النتيجة البريطانية. مقولة رددتها جوقة كبيرة، تقول إن ما قبل الاستفتاء لا يمكن أن يكون كما بعده، ومنهم من يضعون بريطانيا سلفاً خارج نطاق الرؤى المرتجاة.

أحد الأصوات التي علت كان من بلجيكا، التي كانت من الستة المؤسسين للمشروع الأوروبي. رئيس وزرائها شارل ميشيل دعا لعقد قمة استثنائية للزعماء الأوروبيين لمناقشة اجتراح «أوروبا جديدة، أوروبا أخرى»، لافتاً إلى أنه «هناك مؤشرات في كل مكان، ليس فقط في بريطانيا، ونشعر بوجود شكوك متنامية حول المشروع الأوروبي. الاتحاد الأوروبي عاش مرحلة إدارة أزمات لفترة طويلة، من أزمة اليورو إلى أزمة الهجرة، متجاهلاً اتخاذ تدابير لمصلحة المواطنين».

خرجت مؤشرات على أن هناك مبادرات تُطبخ. البداية ظهرت بعد اجتماع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عشية الموقعة البريطانية. علاقة وانسجام الشخصيتين البارزتين كانا مضرب المثل، لدرجة سميّت معهما فترة «الميركوزية». قال ساركوزي باعتداده المعروف «تحدثنا عن إنقاذ أوروبا، يجب أن تكون هناك مبادرة فرنسية ـ ألمانية في الأشهر المقبلة، مع معاهدة جيدة تقول لـ450 مليون أوروبي سمعنا ما قلتموه وفمهنا ما تشعرونه»، قبل أن يضيف بلهجة حازمة: «المستشارة جاهزة» للتحرك على ذلك الأساس.

يتحدث ساركوزي مستثنياً بريطانيا سلفاً، رغم عدم معرفته بنتائج الاستفتاء. حينما يتحدث ساسة الاتحاد يذكرون دوماً سكانه الـ500 مليون نسمة، وساركوزي لم يكن الوحيد الذي طرح منهم البريطانيين. المسألة الهامة أيضاً أن حقبة «الميركوزية» يمكن أن تتجدد، فالدولتان لديهما انتخابات عامة السنة المقبلة، وساركوزي يسنّ أسنانه لها.

لا دخان بلا نار. السحب الدالة الأخرى لم تتأخر. خرج مسؤول رفيع المستوى ناقلاً للصحافة الألمانية تأكيده وجود تحرّك لإطلاق «بداية لمعاهدة جدية»، العام المقبل، لتأتي متزامنة مع الاحتفال بمرور 60 عاماً على معاهدة روما المؤسسة للمشروع الأوروبي. المفاجأة لمن يتوقعون انحسار الاهتمام بزيادة الوحدة الأوروبية أن المبادرة «من شأنها تعميق التكامل الأوروبي».

على المنوال ذاته، كتب وزير الخارجية الإسباني جوزبه مانويل غاريسا مارغالو افتتاحية في صحيفة «الباييس»، محدداً الدروس المستقاة من المفترق البريطاني. قال إن الردّ يجب أن يكون «المزيد من أوروبا، مهما حدث».

وعلى أساس التململ والاعتراضات من العصبيات الوطنية، افترض كثيرون أن الوجهة هي التراجع عن مواصلة التكامل الأوروبي. لكن من جهة، ثبت أن هذا التكامل، تقوية وتوسيع المؤسسات المركزية، مسار حتمي مع كل أزمة. أزمة اليورو ولّدت يقيناً بالحاجة لاتحاد مصرفي ثم اقتصادي. أزمة أوروبا الذاتية مع تدفقات اللاجئين أخرجت قوة مشتركة لحرس الحدود وخفر السواحل، وهكذا مع كلّ تحديات يظهر أن نقص الحلّ المشترك يزيد المشاكل.

ما يؤكد ذلك أيضاً هو الرسالة التي حملتها بروكسل في وقت حساس. كانت هناك حاجة لمواصلة التحفّظ تجاه الاستفتاء، تحت عنوان تركه يمضي بأقل الخسائر، لكن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر اختار أن يتوجه للبريطانيين وساستهم بالقول إن أوروبا لن تضحي بالوحدة التي أنجزتها لمصلحة إرضاء «الاستثناء» البريطاني وانتقال عدواه.

على امتداد دول التكتّل، خرجت افتتاحيات صحف تتحدث عن الاستفتاء ـ المأزق، لكنها ألحقت ذلك بالرجاء أنها «الفرصة» لاستعادة زخم أوروبا وفعاليتها. هذا ممكن لأهلها، ضروري ولا بديل عنه غير التآكل التدريجي إلى التفكك. القضية بالنسبة لمحيطها العربي في مستوى آخر. جوارها المبتلي بنفسه، بجغرافيته التي شكلتها هندستها الاستعمارية، الغارق في حروبه فيما هي في أحسن الأحوال متفرج سلبي. هنا يمكن فقط تعليق الأمل، مهما تضاءل، على أن تأتي أوروبا متأخرة بدل ألا تأتي أبداً. أن تسود أخيراً حكمة سلام الجوار، إن لم يكن من باب «القيم»، فمن باب التسليم بحتميات القدر الجغرافي.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى