كارثية التطبيع الثقافي: بعض روائيينا… وروائيوهم د. فايز رشيد
أمين المعلوف، القامة الأدبية العربية لم يكن بحاجة إلى الظهور على التلفزيون الصهيوني للحديث عن رواية له. كما أن كثيرين من روائيينا الفلسطينيين والعرب ابتدأوا عنونة رواياتهم على شاكلة: السيدة من تل أبيب، أحببتُ يهودية، عشقت يهودية، صديقتي اليهودية، وغير ذلك .
إضافة إلى «كونشيرتو الهولوكوست والنكبة»، التي تدعو إلى إسقاط حق العودة، وإلى حد ما تحاول تبرير جرائم المحتل، وتحاول تحسين صورة الإسرائيلي وقبول فكرة يهودية الكيان، والتساوي بين الضحية والجلاد، «لاحقته مخيلتها عائدا إلى البيت من شارع البحر، بحر من الخيبة، يلاكم الهواء ويلعن السنة التي عاد فيها إلى البلاد (فلسطين) ظانا أنها وطن. بينما رأسه يجادل حيطان مسجد البحر».
قد تكون بعض تلك الروايات تحاول إيصال جزء من الصوت الفلسطيني، لكن من زاوية أخرى، لا بد من أخذ المرحلة التي تظهر فيها مثل هذه الروايات بعين الاعتبار، وهي مرحلة الإمعان في التنكر الصهيوني، ليس للحقوق الوطنية الفلسطينية فحسب، بل للعربية أيضا. إنه زمن الاستيطان، تهويد القدس والقتل الجماعي للفلسطينيين، الخ.
ما سبق يدفع إلى التساؤل عن الأهداف التي من أجلها جرى إقحام «اليهودية» و«الهولوكوست» قسرا في العناوين؟ التساؤل الثاني، هل هو الطموح لنيل جائزة ادبية؟ خاصة أن نيل جوائز رسمية، حتى الأشهر منها عربيا، وفي الصراع العربي – الصهيوني تحديدا، لها اشتراطاتها المحددة، وهي، عدم التغريد خارج حل النظام الرسمي العربي للصراع، ثم، لماذا لم نر عنوانا واحدا تحت: أحببت إيطالية، روسية، مكسيكية؟ هذا على سبيل المثال لا الحصر. أيضا، فإن بعض الروائيين العرب في تناولهم للقدس يقفون على الحياد، أي التعامل مع الواقع كما هو. فالعودة لساكنة فلسطينية في نيويورك مثلا لم تعد واقعية. أنصح من يريد الكتابة عن القدس، بقراءة التاريخ الفلسطيني عبر العصور. عودة الفلسطيني إلى أرضه حتمية، وليست مشاعا يتصرف فيها من يشاء من الروائيين كما يشاء. تناولتُ القدس عاصمة فلسطين التاريخية والأبدية والمستقبلية بالتحديد، لأنها درّة فلسطين والعالم العربي. ولأنني قرأت كل الروايات التي كتبت عنها. ذلك للحديث عن الرواية الرائعة للأديبة الفلسطينية المناضلة بالكلمة والفعل الكتابي الصديقة ليلى الأطرش، التي حُجبت عنها جوائز دولية وعربية ومحلية، لتمسكها بكافة الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لطالما اعتقد كاتب هذه السطور بصمود الجبهة الثقافية العربية أمام التطبيع مع العدو الصهيوني، خاصة في ظل الانكسارات المؤلمة على كافة الجبهات الأخرى، باعتبار الثقافة العربية عصّية على الاختراق، ذلك في السؤال: هل هي أزمة ثقافة ام أزمة مثقفين؟ نعم، الثقافة العربية في قديمها وحاضرها ثقافة راسخة في التاريخ والمستقبل بالتاكيد، فهي ثقافة أصيلة وليست تجميع فسيفساءات ثقافية مرتبطة بكل شعوب الأرض، مثلما هو موجود في الكيان الصهيوني. ومن ثم يسعون لتكوين ثقافة واحدة لم تتشكل حتى هذه اللحظة، رغم مرور ما يقارب السبعة عقود على إنشاء الكيان. حتى اللحظة، ليس هناك إجماع حتى على مصطلح تسمية «الثقافة» التي يدّعون أنها واحدة. نعم ،هناك اختلافات كبيرة بين مثقفيهم وأدبائهم على الاسم، وهل هي ثقافة صهيونية، يهودية، عبرية أو إسرائيلية؟ النقطة الثانية في الفارق بين ثقافتنا وإنجازاتهم الأدبية، أن السمة الرئيسية لمطلق ثقافة هي ارتباطها بالإنسانية مضمونا وأهدافا. لا يشك أحد في إنسانية ثقافتنا العربية، لكن من الناحية الثانية، ما رأي القرّاء بشاعر صهيوني معاصر يتلذذ برؤية الدم الفلسطيني في قصيدته عن مجزرة صبرا وشاتيلا؟ ويطالب بالمزيد منه. الشاعر المعني لا يمثل حالة منفردة في الكيان، بل هو نموذج لمعظم الروائيين والشعراء الإسرائيليين، الذين سخّروا نتاجاتهم لخدمة وتبرير الغزو الصهيوني لفلسطين، وتسويغ الجرائم التي يرتكبها الكيان بحق شعبنا منذ عشرينيات القرن الزمني الماضي، حين بدأ الغزو الصهيوني من خلال هجرة اليهود إلى فلسطين، والبدء في تشكيل المنظمات الإرهابية الصهيونية، بدعم عسكري من سلطات الاحتلال (الانتداب باعتباره الاسم الحركي للاستعمار وتسهيل مهمة تشكيل الكيان). التي مارست مذابح كثيرة معروفة ضد أهلنا، والتي كانت نواة الجيش الإسرائيلي في ما بعد ، الذي سار على هديها في مضمون القتل ذاته وإن بطرق أكثر حداثة في تكنولوجيتها ووسائل قمعها.
هناك بعض الروائيين والشعراء اليهود التقدميين نسبيا، لكنهم محدودون ونتاجاتهم محددة في قوالب لا تستطيع الخروج عنها. لقد الوصف المرحوم إدوارد سعيد الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز بأنه لا ينفع إلا وجيه ضاحية. لقد منعت وزارة التعليم العالي الإسرائيلية تدريس رواية «بوردر لايف» للروائية دوريت رانبيان لأنها تتطرق إلى قصة حب بين فلسطيني ويهودية.
نعم ، منذ القرن التاسع عشر أدركت الحركة الصهيونية ما للأدب من دور في خدمة أهدافها، فاعتبرته حاملا لأفكارها، ومنطلقا لبث تعاليمها. من خلال حرص الكاتب الصهيوني على المقاربة بين مجتمعين في المنطقة ذاتها، مجتمع مثالي صهيوني إسرائيلي متحضر ومجتمع عربي متخلف، كما يقول الشهيد غسان كنفاني في كتابه المعنون بـ»في الأدب الصهيوني». كان الأدب في خدمة الصهيونية قبل وجودها، فالصهيونية لم تولد في مؤتمر بال سنة 1897، ولكن هذا المؤتمر كان تتويجا عمليا لسلسلة من الضغوط التي لعب فيها الأدب الصهيوني دورا أساسيا، وإذا كانت نهاية القرن التاسع عشر، هي العلاقة الرسمية لولادة الصهيونية السياسية، فإن الصهيونية الأدبية بدأت قبل ذلك بكثير وفي القرن السابع عشر. إن كثيرا من الكتاب الصهاينة كرسوا نتاجاتهم الأدبية في سبيل خدمة الحركة الصهيونية وتحقيق أهدافها، لذلك تعمدوا التشويه والإساءة إلى العربي والشخصية العربية في كتاباتهم المختلفة، وكان الأجدى أن يسخروا كتاباتهم في محاربة التزييف للعربي والشخصية العربية. هذا مع العلم أن كثيرين من الكتاب اليهود غادروا الكيان بعد فترة قليلة من الهجرة إليه. الروائي والشاعر الملتزم حقيقة لا يستطيع العيش في دولة عنصرية، ما بعد فاشية، لأن النتاج الأدبي إن لم يدع إلى الإنسانية، فإنه ينتقص السمة الرئيسية لمواصفاته. بالطبع هناك ثقافة نازية، وأخرى فاشية لكنهما لم تعيشا في التاريخ واندثرتا. إعادة إنتاجهما تتم في الكيان الصهيوني، كما تمت في بقاع مختلفة (روديسيا، جنوب أفريقيا إبان الحكم العنصري، نظام بينوشيت في تشيلي وغيرها)، وموجودة حاليا في الكيان .
إن العلاقة بين الأدب بمختلف فروعه وبين الأهداف السياسة، هي علاقة عضوية حميمة، إذ لا يمكن فهم الأدب وفق الفهم الأفلاطوني له «الفن للفن»، الأدب ومنذ بلزاك وفلوبير وكل المدارس النقدية، مروراً بدستويفسكي وليف تولستوي وغيرهما، وصولاً إلى الواقعية الاشتراكية، أرسى دعائمه ورسالته الاجتماعية في الحياة بمدى معايشته للواقع. أبعد ذلك يمكن للأدب أن يكون حيادياً؟ إذا كان المطلوب أن يكون كذلك فما هي رسالته الإنسانية؟ هل يمكنك كأديب أن تتحلى بالحيادية تجاه ما يمس سلباً قضيتك الوطنية؟ كل هذه الأسئلة وغيرها التي أطرحها، قضية في غاية الأهمية.
من أجمل من كتب الأدب السياسي، لويس أراغون، بابلو نيرودا، مكسيم غوركي، ناظم حكمت، لوركا، نيكوس كازانتزاكي، غسان كنفاني، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد. ظلّ كل هؤلاء خالدين، أكثر من أي سياسيين، سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم، وذهب الذين أعدموا البعض منهم وأسيادهم، إلى مزابل التاريخ. لوركا كان يلقي شعره لحظة إعدامه. بابلو نيرودا عندما جاء قطعان بينوشيت (بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي) جاءوا ليفتشوا بيته بحثا عن السلاح؟ طردهم وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. كازانتزاكي يقول عن المقاومة، وعلى لسان الراهب «ياناروس» في رائعته «الإخوة الأعداء»، بعد أن ذهبت كل دعواته إلى الإخاء والمحبة والسلام لإخراج المحتلين من اليونان هباء، وصل إلى نتيجة مفادها: «أيتها الفضيلة تسلّحي.. أيها المسيح تسلّح إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان إنجيل السلاح». يقول محمود درويش «هزمتك يا موت الفنون جميعها.. هزمتك يا موت.. الأغاني». وهكذا هو الأدب في مرحلة التحرر الوطني، يكون الارتباط وثيقا بين الأدب والسياسة. الغريب أن بعض أدبائنا المطبعين لا يعرفون (أو بالأحرى يتجاهلون) أن كثيرين من روائيي العلم وأدبائه يقاطعون الكيان الصهيوني لعنصرية وفاشيته، وأن المقاطعة بكل أشكالها للكيان تتسع. إن ما سبق يدلل على كارثية التطبيع الثقافي.