عرض «الأونروا» الملتبس: وكالة لغوث الفلسطينيين.. والسوريين؟! بروكسل – وسيم ابراهيم
لأسباب جليّة، عقودٌ من رعاية الشتات، لا تدعو عروض المساعدة من «الأونروا» للاطمئنان. «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» تقرّ نفسها بتلك الحقيقة. كيف أن تعلّق الأمر بمقارنة اللاجئين السوريين باللاجئين الفلسطينيين؟ الوكالة الأممية تقول إن المقارنة جائزةٌ بحكم الأمر الواقع: نحو خمسة ملايين لاجئ لدى كل من مجتمعي اللجوء «الطويل الأمد»، موزعين تقريباً في البلدان نفسها. هنا، تعرض الوكالة ـ المتهمة بالتقصير وتراجع دعمها المالي للفلسطينيين ـ خدماتها، معلنةً أنها لا تمانع، من حيث المبدأ والفعل، من التوسع، لتكون «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والسوريين».
حتى بافتراض حسن النيات، لا يدعو العرض أحداً من المعنيين به للتفاؤل. إنه نذير شؤم للاجئين أنفسهم، حينما يستشرف لهم العرض مستقبل لجوءٍ بلا أفق. نذير شؤم لدولة مثل لبنان تخشى تكرار محاولات «التوطين»، المريرة بالنسبة للاجئين قبل غيرهم. إلى جانب ذلك، عرض من هذا النوع لا يمكن إلا أن يثير ريبة الفلسطينيين، عبر مماثلة قضيتهم وضمها في ملف واحد إلى قضية أخرى، خصوصاً في ظل محاولات لم تتوقف يوماً عن تصفية «حق العودة» دولياً. إذا كان هناك من «خبر جيد» في كل هذا، فهو لحكومة الاحتلال الاسرائيلي، لتقول إن قضية تهجير الفلسطينيين لا فرادة فيها، وأن الشرق الأوسط بات مليئاً باللاجئين والنازحين من كل دوله.
العرض جاء على لسان المفوض العام لوكالة «الأونروا» بيير كرينبول، خلال جلسة نقاش مع البرلمان الأوروبي في بروكسل. بعد شروحات مطولة عن أهمية خدمات الوكالة، خصوصاً لجهة تعليم الفلسطينيين، بدا بعض النواب الأوروبيين مهتماً بالسؤال عن «جيل ضائع» من السوريين بلا مدارس. جواب كرينبول كان على رأس لسانه: «أعتقد أن العالم يمكنه أن يحقق استخداماً من تجربة الأونروا خبراتها لتوفير التعليم بالنسبة لمجتمعات لاجئة على المدى الطويل»، قبل أن يوضح «أعتقد أنه إذا تحصّلنا على الوسائل، وإذا كان هناك اهتمام كي توفّر الأونروا للاجئين السوريين بعض الخبرات التي حصّلتها، بما يدعم أعمال وكالات (أممية) أخرى في هذا المجال، فليس هناك أي سبب كي لا يكون لدينا عدد من المدرّسين الفلسطينيين من الممكن أن ينخرطوا في هذا الأمر».
لمن التبس عليه الأمر أو باغته، قال المسؤول الأممي إنها المرة الثانية التي يقترح فيها هذه المبادرة، بعدما أعلن عنها سابقاً في القمة الانسانية العالمية بضيافة تركيا الشهر الماضي. كلامه في بروكسل، إجمالا، يمكن أن يمرّ كشريط ترويجي خالص لجوهرية العمل الذي تقوم به وكالته. لكنه أيضاً، لأسباب المقارنة التي ذكرها بنفسه، يمكن أن يكون شريطاً ترويجياً لإمكانية العرض الذي قدمه حول التوسع باتجاه رعاية السوريين.
المسألة لا يجب إهمالها، كما يقول كرينبول، مواصلاً المقارنة والمماثلة: «أعتقد أنها مسألة هائلة، ربما لدينا الآن ثاني أكبر مجتمع لجوء، على المدى الطويل، في الشرق الأوسط، يعيش جنباً إلى جنب مع اللاجئين الفلسطينيين، تقريباً نفس العدد، نحو خمسة ملايين، وهم (السوريون) لا يحصلون على المستوى ذاته من التعليم والخدمات مثل اللاجئين الفلسطينيين».
ذكّر المسؤول النواب الأوروبيين بأن عمل الوكالة يمثّل «استثماراً في الاستقرار والأمن»، لكونه يمنع تحوّل مجتمع اللاجئين إلى قنبلة يأس موقوتة. أوروبا تتحرك لمواجهة تدفقات اللاجئين أساساً بدوافع سياسية، لكن الحسابات الاقتصادية حاضرة في صلبها.
مفوض «الأونروا» يقدم لهم أيضاً حسابات جدوى. استعرض بالأرقام المنافع الاقتصادية من توكيل الأمم المتحدة برعايتهم في الدول المجاورة، لكون تكلفة التعليم والرعاية الصحية ستكون أضعافاً: التعليم سيكلف عشرة أضعاف، أما الرعاية الصحية فستكون تقريباً مئة ضعف.
ما قصّة حماس الأونروا لتقديم عروض تشمل السوريين بدعمها؟ سألت «السفير» مفوض الأونروا عن هذه القضية، فأعاد التذكير أنها مجرّد عرض، لأن تفويضهم يشمل الفلسطينيين فقط. مع ذلك، برر الطرح بالقول «تحدثت عن ذلك غالباً كحلم»، قبل أن يضيف «قلت فقط إن الأونروا لديها تجربة كبيرة في هذا المجال، وإذا كان هنالك اهتمام (بالعرض) ووسائل، سنكون حينها سعيدون بأن نقدّم الدعم للاجئين السوريين عبر توفير وتشارك بعض خبراتنا».
لو كانت الوكالة، الأمم المتحدة، منظمة تديرها الشعوب لصالح الشعوب، لما كان سؤال كهذا واردا. لكنها، في النهاية، المنظمة الدولية التي تديرها القوى الكبرى، دول مجلس الأمن الدولي الخمس الدائمين، هم أنفسهم الذين أداروا ويديرون الصراعات والأزمات والحروب. هم أنفسهم الذين صمموا هندسة الاغاثة الفريدة هذه، «الأونروا»، كي تعمل «سيارة إسعاف» 65 سنة.
سيكون غريباً بالفعل لو أن المفوض بيير كرينبول لا يدرك الحساسيات المحيطة بطرحه. حديثه أظهر أنه يعيها تماماً، خصوصاً لجهة مراعاة ألا ينتقد سلطات الاحتلال الاسرائيلي. كل مرة كان يذكر الاحتلال كان يورده كأنه ظاهرة قائمة بذاتها، بلا فاعل، ولم يذكر مرة واحدة أن ما يتحدث عنه هو الاحتلال الاسرائيلي. لكنه كان حريصاً على ذكر إسرائيل حينما يكون السياق «إيجابياً»، كالحديث عن قيامها بمساع لتقليل عجز موازنة «الأونروا».
هناك أساسات صالحة على الأقل لمقاربة عرض مفوض الوكالة. الحديث عن اللجوء السوري باحتمالية المدى الطويل ليس جديداً. كرره لاعبون من كافة مستويات الصراع، بعدما صار طبقات فوق طبقات. الصراع المحلي بتشابكاته وحربه، الصراع الاقليمي مع تصفية الحسابات المتواصلة بين السعودية وإيران، انضمام القضية الكردية بوصفها عابرة للدولة وضاربة على عصب حساسيتها، خصوصاً في تركيا، وصولاً إلى التنافس بالوكالة بين الغرب بقيادة واشنطن وبين موسكو.
كل هذا ينذر بأن الحلّ السوري ليس قريباً. الأمم المتحدة منخرطة في التعامل مع ملف اللجوء السوري، عبر «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين» ومنظمة «اليونسيف»، لتشارك الدول المعنية به في تقديم الاغاثة والمساعدات والخدمات، كما أنها تشارك في إدارة مخيمات اللاجئين في تلك الدول. لم تكف الأمم المتحدة عن الشكوى من نقص التمويل، في حين تقدّم وكالة «الأونروا» نفسها مثالاً يحتذى في التعامل مع نقص التمويل، إضافة للاستفادة القصوى بإشراك مجتمع اللجوء في الادارة والكوادر والتشغيل.
تتحدث «الأونروا» أيضاً عن حساسيات ممكنة من حسن أدائها. السوريون في بلدهم سيرون ضيوفهم اللاجئين الفلسطينيين يحصلون على خدمات أفضل تؤمنها وكالة دولية ممولة وكفوءة. حينما سألنا كرينبول حول هذه القضية، قال إنه «مع أن اللاجئين الفلسطينيين كان مرحب بهم في سوريا، لكن بالطبع هناك خطر الانزلاق بأن هذه الحساسية يمكن أن تحدث»، قبل أن يضيف «ما فكرت به هو أن السوريين، الذين هم لاجئون أيضاً خارج سوريا، ربما يحصلون على تعليم أقل بمرات مما تلقاه الفلسطينيون تاريخياً».
حديث مفوض «الأونروا» ذو وجهين، كلاهما يرد في سياق مبني بشكل محكم: التأكيد على أن الحل السياسي جوهري ومطلوب على نحو عاجل، مع التذكير في الوقت ذاته أن الوكالة تعمل وتخطط وكأن الحل لن يأتي. وكالة تعمل لتخفيف مُقاساة التهجير واللجوء بقدر ما يمكنها، ووكالة قدمت حبوب مسكّن للألم، ربما ساهمت في تخديره وإدامته.
حينما سألت «السفير» كرينبول عن الشكوك في هذا الانفصام بالشخصية، ردّ بلهجة متفهّمة: «أتخيل أنه لو كنت تتعامل لـ65 سنة مع عوز الحل السياسي، كنت لتسأل هذه الأسئلة، لكن في الوقت ذاته التقي أحياناً نفس الفلسطينيين يقولون حالما تخفّ الاونروا نشاطها إنها بداية النهاية، لأن الاونروا تنسحب وتتخلى عنا»، قبل أن يضيف «هناك هذه المشاعر المتضاربة تجاه الأونروا، ولو أنا فلسطيني كنت لأفضّل أن تتعامل معي دولة فلسطينية، بدلا من وكالة أمم متحدة. لكن ما هو واضح أن الأونروا ستكون هناك مهما طال الأمر».
(السفير)