مقالات مختارة

التفاهم الثلاثي: شمال حلب وجنوبها والشرق السوري محمد بلوط

 

البيانات العسكرية الروسية ـ السورية عن الغارات حول أرياف حلب تعلو على بيانات المصالحة مع الفصائل المسلحة للمرة الأولى منذ 27 شباط الماضي، وإرساء الهدنة.

فبعد ساعات فقط من اجتماع طهران الثلاثي العسكري، الإيراني ـ الروسي ـ السوري، الخميس الماضي، عادت المقاتلات الروسية لتشغل سماء مدينة حلب وأريافها، بوتيرة تفوق ما كانت عليه «عاصفة السوخوي»، كصدى لاجتماع طهران.

وخلال الأيام التي تلت اجتماع وزراء دفاع روسيا الجنرال سيرغي شويغو وسوريا العماد فهد جاسم الفريج وإيران حسين دهقان، تضاعفت من ثلاث إلى أربع مرات، أعداد الطلعات والغارات التي تقوم بشنها مقاتلات قاعدة حميميم، فيما ينشط جسر بحري روسي شبيه بالجسر البحري مع سوريا الذي نقل مئات الأطنان من المعدات والذخائر، ومهد للعملية الروسية ـ السورية المشتركة في تشرين الماضي.

وخلال فجر أمس، اضطرت مجموعات «نور الدين الزنكي» و«جبهة النصرة» إلى إخلاء خطوطهما في القسم الشمالي من مزارع الملاح لساعات، بعد أن أوقعت الغارات الكثيفة 25 قتيلاً في صفوفهما، من دون أن يتقدم الجيش السوري إليها. وفي ريف حلب الجنوبي انكفأ «جيش الفتح» ليلاً عن قرية حميرة، أمام غارات «السوخوي» الروسية، قبل أن يعود إليها نهاراً.

ويرجح الخيار الميداني الروسي متزامناً مع مؤشرات ديبلوماسية روسية وعسكرية إيرانية، إذ قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بالتزامن مع اجتماع طهران الثلاثي الأسبوع الماضي، إن موسكو ستواصل «تقديم الدعم للجيش السوري من أجل منع الإرهابيين من السيطرة على مساحات واسعة في مدينة حلب وريفها».

ويتقاطع تحديد لافروف لحلب وريفها كهدف للعملية المقبلة، مع ضرورات ميدانية أولاً، باعتبارها ساحة الهجمات التي تقودها تركيا والسعودية والولايات المتحدة لمنع الجيش السوري من استعادة السيطرة على أكبر تجمع ديموغرافي واقتصادي في سوريا، وعصب الرهانات على وحدتها أو تقسيمها، ومعبر المشروع الكردي لوصل الكانتونات الثلاثة، من الحسكة فعين العرب فعفرين، وبقعة تماس كل القوى والأطراف الإقليمية والدولية، ومراكز احتشاد كل جيوشها ومجموعاتها الرديفة وقواتها الخاصة ومخابراتها، وساحة تدافع كل الخطوط الحمراء. وباتت حلب تختصر وحدها خريطة الصراع السوري بأسره.

وخرج الاجتماع الثلاثي بالتوافق على إعطاء الإيرانيين دوراً أكبر في الميادين السورية، إذ جرى أولاً وفوراً تعيين الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني الأميرال علي شمخاني منسقاً أعلى للعمليات الروسية – الإيرانية – السورية المشتركة. وبحسب مصدر ديبلوماسي إيراني سيشرف شمخاني على الإمدادات والعمليات الميدانية في سوريا. وقال إن الروس اقتنعوا بالرؤية الإيرانية، وضرورة العودة إلى معركة حلب أولاً، واعتبارها مدخلا في أي عمل مشترك.

وأعيد ثانياً الاعتبار مجددا لجبهة حلب، حيث تقول مصادر عربية إن تفاهمات جرت على نشر المزيد من عناصر الحرس الثوري في مناطق شمال حلب، تقترب من مناطق انتشار القوات الأميركية الخاصة حول منبج والباب، وزيادة فعالية وانتشار الجيش السوري وحلفائه في هذه المنطقة ذات الغالبية العربية التي يتقدم داخلها الأكراد بعد عبور الفرات، ويتمددون فيها نحو عفرين غرباً. وكان الانتشار الروسي في سوريا قد أدى إلى انكفاء إيراني سياسي، وغلبة قرار موسكو على ما عداه لاستناده إلى فعالية ميدانية كبيرة. وتقول مصادر عربية إن الإيرانيين يريدون من ذلك أيضاً البقاء على مقربة من مناطق عمليات القوات الخاصة الأميركية في الشمال السوري، وعلى تماس معها، ومراقبة عملياتها.

وكان الشرق السوري أيضاً في الاتفاق، بحسب مصادر عربية وإيرانية متقاطعة. وطالب الإيرانيون بدور أكبر في معارك الشرق السوري أيضاً، إذ تطمح طهران إلى حجز موقع في ميادين الرقة والطبقة، وهي المناطق التي تشكل نقاط وصل مع العراق وقواتها التي تنتشر هناك، حيث يقود قائد فيلق القدس قاسم سليماني قطاعاً مهما من «الحشد الشعبي»، لانتزاع الفلوجة من تنظيم «داعش»، واستئناف التقدم في جنوب الموصل، وإعادة وصل الشرق السوري بخط بغداد مجدداً.

وكان التقدم الذي بدأه الجيش السوري باتجاه مدينة الطبقة، ومطارها، انطلاقا من أثريا – خناصر جنوب شرق حلب، قد أوصله إلى مسافة عشرة كيلومترات من المطار، إلا أن قوات الطليعة في المنطقة تراوح مكانها بانتظار إرسال المزيد من العديد لحماية مؤخرة الأرتال من هجمات «داعش»، التي لم تتوقف عن محاولة قطع طرق إمداد المتقدمين وعزلهم عن قواعدهم الخلفية. وتم الاتفاق على نشر قوات إيرانية في دور الدعم وتثبيت المواقع، وحماية تقدم القوات السورية، التي يلعب فيها صقور الصحراء والجيش السوري، والإسناد الجوي الروسي دوراً أساسياً. وتقول معلومات في المنطقة إن الحرس الثوري قد أرسل تعزيزات في طائرتين للركاب وصلت إلى سوريا، نقلت 700 من ضباطه ومقاتليه، غداة اجتماع طهران، ومن دون طول انتظار.

ويجري تأجيج الخيار الميداني فيما يشهد مسار جنيف، الذي لم يتقدم خطوة واحدة في كل جولاته، نعياً روسياً لموعد الأول من آب، كمحطة انطلاق للعملية السياسية في سوريا، كما حدد القرار 2254 وإعلان فيينا السوري محطاته بحكومة موسعة وتعديلات دستورية وانتخابات نيابية، تتوجها انتخابات رئاسية في منتهى 18 شهراً.

إرسال جنيف إلى استراحة غير محددة المدة ولا المعالم، رافقه تفاهم روسي – إيراني على إحياء الخيار الميداني، واستئناف تعديل ميزان القوى على الأرض لمصلحة الجيش السوري بعد هدنة ٢٧ شباط، والعودة مجددا إلى حل سياسي، وجنيف، بشروط أفضل.

وكان لافتا أن يأتي النعي على لسان نائب وزير الخارجية الروسية غينادي غاتيلوف، الجناح الأكثر تشدداً في الخارجية الروسية في التعاطي مع مؤتمر جنيف، والأقرب الى وجهة نظر دمشق، إذ قال غاتيلوف، في مقابلة مع وكالة «نوفوستي» نشرت أمس، إن «المفاوضات حول الدستور السوري لم تبدأ بعد، كما لم تبدأ أيضاً المباحثات حول هيئة حكم انتقالي، ولذلك لا يمكن الجزم باحتمال تحقيق أي تقدم ملموس مع حلول الأول من آب». وبرر دخول العملية السياسية الغيبوبة «بارتباط المواعيد بعملية المفاوضات، وبوجود وفد موحد وشامل للمعارضة ليواصل هذه المفاوضات. وهذا الوفد غير موجود، ولذلك لا يجوز الإصرار على موعد الأول من آب».

النعي الديبلوماسي لموعد الأول من آب، ومجمل العملية الديبلوماسية، يستخلص أيضاً فشل محاولات الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، المتواضعة، لإجراء مشاورات تقنية مع المعارضات السورية المختلفة، والإعداد للجولة المقبلة والمفترضة لمفاوضات جنيف. الشخصيات الكثيرة التي كان من المفترض أن تفد إلى جنيف بدءا من اليوم، ألقت بدعواتها في أدراج الانتظار، بعد أن رفض وفد الرياض الدعوة، ولم يتسنَّ بعدها لدي ميستورا المضي بالمشاورات مع من وافق على الحضور من أجنحة المعارضة من منصات القاهرة وأستانا وموسكو وغيرها من المستقلين، مفضلاً عدم الارتهان لإرادة وفد الرياض.

لكن الأهم أن الإقرار بتراجع مسار المفاوضات يتزامن مع تسخين خط طهران – موسكو – دمشق العسكري، ومع الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاعهم، حسين دهقان، وسيرغي شويغو وفهد الفريج. لم يرشح الكثير عن الاجتماع الذي يعد مفصلياً هو أيضاً، كونه الاجتماع الأول بعد هدنة شباط التي عارضتها طهران، ولم تؤيدها دمشق، فيما تمسكت بها موسكو. رأى الروس أن التغييرات الميدانية التي أحدثتها «عاصفة السوخوي» تكفي لإحياء التفاهم مع الأميركيين من موقع أقوى بعد هزيمة مجموعاتهم جزئياً، كما تكفي للي ساعد المعارضة المسلحة، وفرض خريطة الحل الروسية كأساس لأي عملية سياسية مع تعديلات جوهرية على إعلان جنيف، تضع موقع الرئاسة السورية خارج أي مساومة، أو تؤجل البحث به حتى إشعار آخر، وهو رهان لم يحسن قراءة خطط الاستنزاف الأميركية في سوريا، وقاوم بشدة بداهة توظيف السعودية وتركيا والولايات المتحدة الهدنة لترميم البنية التحتية للمجموعات المسلحة، وشنها هجوماً معاكساً على جبهات حلب وأريافها، واستعادة خان طومان.

كانت طهران هي من دعت إلى الاجتماع، وأصرت على انعقاده، خصوصاً أنها المتضرر الميداني والعسكري الأول من الهدنة التي تحولت إلى كمين يستنزف قواها في ريف حلب الجنوبي بشكل خاص، بعد أن جرى تمديدها شهراً بعد شهر من دون أفق سياسي أو ميداني واضح، ورغم سقوط مسار جنيف أمام تمسك وفد الرياض بعملية انتقالية تبدأ بتنحي الرئيس بشار الأسد، إذ بدت الجبهات التي يقاتل فيها الإيرانيون، و «حزب الله»، و «النجباء» العراقيون ، و «لواء فاطميون»، أكثر الجبهات استهدافا من قبل «جيش الفتح»، وأكثر من دفع ثمن الهدنة من مقاتليه ووحداته في المنطقة التي كان يستهدف من التقدم فيها، الوصول إلى كفريا والفوعة، وفك الحصار عنهما وتحقيق احد أهداف العملية في منطقة ادلب؛ فيما لم تشهد جبهات ريف اللاذقية الشمالي سوى بعض المناوشات، ومعارك الكر والفر حول تلال كباني. ولم تجر أي تغييرات جوهرية على الخريطة التي رسمتها «عاصفة السوخوي»، وأدت بشكل خاص إلى تأمين معاقل الساحل وقاعدة حميميم الروسية. أما في الغوطة الدمشقية فواصل الجيش السوري عملية قضمها، مستفيداً من الاقتتال بين إخوة «الجهاد» في طرفها الشرقي، وتذابح «جيش الإسلام» مع «جيش الفسطاط» و «جبهة النصرة» و «فيلق الرحمن»، وخلافات السعودية وقطر وتركيا وراءهم للسيطرة على تخوم دمشق وغوطتها. وفي ظل الهدنة انتزع الجيش السيطرة على القطاع الجنوبي من الغوطة الشرقية.

أما في ريف حلب الجنوبي، فقد دفع الحرس الثوري الإيراني ثمناً كبيراً من ضباطه ومستشاريه، بعد أن تعرضت غرفة عملياتهم في خان طومان لهجمات انتحارية كثيفة، من دون أن يحصلوا على إسناد جوي روسي، وهو ما يمثل تكراراً لخسارة تل العيس الاستراتيجي، وللمعركة التي شعر الإيرانيون فيها، أن الحليف الروسي يتمسك بالهدنة أكثر مما ينبغي.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى