مقالات مختارة

«عودة العسكر» التركي: السلطة في مقابل القبضة! محمد نور الدين

 

مساء الثلاثاء الماضي، وقع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التعديل الدستوري الذي أقرّ في البرلمان قبل أسبوعين، وينص على رفع الحصانة عن نواب في البرلمان.

وبدأت بالتالي مهلة الأسبوعين لإرسال القرار إلى المحاكم المختصة، التي ستبدأ بدورها التحقيق مع هؤلاء النواب، وتقرر هي بشأنهم ما إذا كان بعضهم سيعتقل أم لا.

عدد النواب الذين رفعت الحصانة عنهم يبلغ 152 نائباً. ويواجهون تهماً في 800 ملف. أي أن لكل نائب أكثر من ملف اتهامي.

ولكن في توزيع النواب المرفوع الحصانة عنهم، وفقاً للأحزاب، نجد 29 نائباً من «حزب العدالة والتنمية» من أصل 317 مجموع نواب الحزب، ويواجهون 50 ملفاً اتهامياً، و57 نائباً من أصل 133 نائباً من «حزب الشعب الجمهوري» يواجهون 211 ملفاً، و10 نواب من أصل 40 نائباً من «حزب الحركة القومية» ويواجهون 23 ملفاً، و55 نائباً من أصل 59 نائباً من «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي يواجهون 511 ملفاً. ونائبة واحدة مستقلة تواجه خمسة ملفات.

في تحليل لهذه الأرقام فإن 90 في المئة من نواب «حزب الشعوب الديموقراطي» قد رفعت عنهم الحصانة، وإن 70 في المئة من الملفات الاتهامية تطال نواب هذا الحزب. فيما يتوزّع 30 في المئة فقط من الدعاوى على نواب كل الأحزاب الأخرى.

أما التّهم فتتراوح بين عضوية تنظيمات إرهابية وحمل السلاح للنواب الأكراد، إلى رشى وسوء استخدام الوظيفة وغير ذلك لنواب الأحزاب الأخرى.

ماذا يقف خلف هذا المسار الجديد الذي تدخله الحياة النيابية والسياسية في تركيا؟

أولاً، من المفيد التذكير أن مرور تعديل الدستور في البرلمان لرفع الحصانة لم يكن ليمر لولا تأييد «حزب الشعب الجمهوري» المعارض. فالتعديل نال في التصويت الأول 358 نائباً هم مجموع نواب «حزب العدالة والتنمية» و «حزب الحركة القومية». وهذا العدد لم يبلغ الـ 367 نائباً الضرورية لتعديل الدستور في البرلمان، لكنه كان كافياً لتحويل اقتراح التعديل إلى استفتاء شعبي.

هنا قرر «حزب الشعب الجمهوري» أن يمنح تأييده لرفع الحصانة في البرلمان، حتى لا يستغلّ أردوغان الاستفتاء ويحوّله إلى دعاية لاحقة للنظام الرئاسي. فمنح 19 نائباً منه صوتهم للتعديل في التصويت الثاني، وطويت المسألة في البرلمان.

لكن هذا الموقف لم يرق لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي انتقد «حزب الشعب الجمهوري»، واعتبره خائناً لمبادئه ومسيئاً للديموقراطية، لأن المسألة مسألة مبدأ، لا مناورات وحسابات انتخابية. كذلك فإن المحكمة الدستورية رفضت الطعون التي تقدّم بها الأكراد لوقف مسار التعديل. لتبدأ بعدها طعون فردية ليس إلا.

ليس الأمر اتهامات قضائية، فمن الواضح أن المستهدَف من كل هذه العملية هم نواب «الشعوب الديموقراطي» الكردي. والأمر لا يتعلق لا بتهم مدنية ولا سياسية، ولا حتى دعم تنظيمات إرهابية.

كما كان عزل أحمد داود أوغلو محطة لتسريع الخطى إلى نظام رئاسي، ولا علاقة له بأي تعديل في سياسات داخلية أو خارجية، فإن رفع الحصانة عن النواب الأكراد هو، في جوهره، مجرد محطة أخرى لإقامة النظام الرئاسي، مع الاستفادة من ذلك في قضايا أخرى.

الآن سيحاكم النواب المئة وخمسون من كل الأحزاب. لكن العين هي على النواب الأكراد. محاكمة قد لا تستغرق طويلاً، وستكون على وقع خطط أردوغان نحو النظام الرئاسي. ستصدر الأحكام بحق النواب الأكراد بتهمة دعم الإرهاب، وستسقط العضوية النيابية عنهم وسيُسجنون. وقد يسجن معهم للتمويه بعض نواب الأحزاب الأخرى. وبما أن عدد النواب المسقط عنهم عضوية البرلمان سيبلغ أكثر من خمسة في المئة من عدد نواب البرلمان الـ550 نائباً فإن البلاد ستذهب، وفقاً للدستور، إلى انتخابات فرعية بدلاً منهم. لن يكون الوقت كافياً لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» لتنظيم صفوفه مجدداً، هذا إذا لم يصدر قرار بحله. وسيفوز نواب من «حزب العدالة والتنمية» بغالبية مقاعد المناطق الكردية، حيث لا حضور سياسياً لبقية الأحزاب. سيكون العدد كافياً ليرتفع عدد نواب «العدالة والتنمية» من 317 إلى 330 على الأقل الكافية لتحويل أي اقتراح، لتعديل الدستور إلى نظام رئاسي، إلى استفتاء شعبي حيث يراهن أردوغان على نيل تأييد كافٍ له، وينقضي أمر تحويل النظام من برلماني إلى رئاسي.

أما إذا وصل عدد نواب الحزب إلى 367 نائباً فيتعدّل الدستور في البرلمان دون الحاجة إلى استفتاء شعبي.

وفي حال لم ينجح الحزب في الوصول إلى حاجز الـ 330 نائباً فإن الانتخابات النيابية المبكرة ستكون الورقة الأخيرة، والتي يراهن أردوغان حينها على خسارة «حزب الشعوب الديموقراطي» وعدم نيله عشرة في المئة ليبقى خارج البرلمان كلية، وكذلك على خسارة «حزب الحركة القومية» الذي تعصف به خلافات داخلية وعدم دخوله البرلمان. وهما كادا في الانتخابات الأخيرة أن يفشلا في تخطي حاجز العشرة في المئة الضروري لدخول البرلمان.

وفي الطريق إلى هذا السيناريو لا يتوانى أردوغان عن استمرار اتباع نهج العنف ضد الأكراد، وهي السياسة التي بدأت منذ ما بعد انتخابات حزيران 2015 التي خسرها أردوغان، ومستمرّة حتى الآن وحولت المناطق الكردية في تركيا إلى خراب ودمار وتهجّر عشرات الآلاف من السكان.

كذلك كانت هذه السياسة سبباً لتوسيع الأكراد مواجهتهم للدولة، وصولاً إلى المدن في اسطنبول وأنقرة، وآخرها تفجير اسطنبول الأخطر الذي حصل الثلاثاء الماضي في منطقة حيوية وحساسة وسياحية قرب جامعة اسطنبول في بايزيد. وقد رفع أردوغان مستوى الاحتقان في الخطاب الداخلي بقوله إن الحرب ضد الإرهاب (أي الأكراد) ستستمر حتى يوم القيامة (!). وهو ما يذكر بكلام العسكر عام 1997 بعد الإطاحة بحكومة نجم الدين أربكان من أن الحرب ضد الرجعية (أي الإسلاميين) ستستمر ولو لألف عام.

وبتعبير أحمد حاقان، الكاتب في صحيفة «حرييت»، فإن استمرار الحرب ضد الإرهاب إلى يوم القيامة لا يحتاج إلى زعماء كبار بل إلى قادة صغار. إذ من شروط أن تكون زعيماً كبيراً هو أن تمنع استمرار الحرب حتى يوم القيامة، وبالتالي إيجاد حلول للمشكلة، وهو الذي لا يحققه أردوغان.

ومناخ رفع مستوى الاحتقان الداخلي تمثل أيضاً بحادثة كانت بمثابة رسالة تهديد من موالٍ لأردوغان ضد زعيم المعارضة. فأثناء حضور تشييع جنازة قتيلين من الشرطة، بعد انفجار الثلاثاء الماضي، أمام جامع الفاتح في اسطنبول رمى أحد الأشخاص رصاصة بين قدمي رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو من دون أن يحرك وزير الداخلية أفكان آلا، الذي كان مشاركاً بالجنازة، ساكناً. وتبين أن الشخص الذي ألقى الرصاصة كان قبل ذلك بدقائق يعانق رئيس الحكومة بن علي يلديريم. كما كان تمّ خلال الجنازة تمزيق الإكليل الذي يحمل اسم «الشعب الجمهوري».

لكن كل هذا لا يُخفي ما ظهر علناً في الأيام القليلة الماضية، والذي يمثل ما يشبه الانقلاب في التوازنات الداخلية. ففي موازاة سيناريو الاستئثار بالسلطة وإقامة نظام رئاسي شبيه بتعبير أردوغان نفسه، في تصريح له في مطار أتاتورك باسطنبول في اليوم الأخير من العام الماضي، بعد عودته من زيارة للسعودية، بما كان قائماً في ألمانيا في عهد هتلر، فإن أردوغان يمضي بتركيا إلى إعادة نفوذ العسكر إلى السياسة، وذلك في محاولة لتأسيس معادلة جديدة قوامها «السلطة مقابل القبضة».

فضلاً عن رفع مستوى الاحتقان والتهديد والعنف في الداخل، فإن «رشوة» أردوغان للعسكر تمثلت في اقتراح سيُقدّم إلى البرلمان من أجل إعادة بعض الحصانة للجنود الأتراك بعدم جواز محاكمتهم من قبل القضاء المدني أثناء خدمتهم العسكرية، والعودة إلى محاكمتهم فقط أمام المحاكم العسكرية. وهذا مكسب كبير للعسكر. كذلك فإن صلاحيات تحرّك الجيش في المناطق الداخلية، والإذن بذلك ستتعدل بشكل يعيد الاعتبار لدور الجيش في الساحة الداخلية، بعدما كانت تعديلات سابقة حصرت مهمة الجيش بالدفاع عن الحدود.

ورأت صحيفة «اوزغور غونديم»، المؤيدة لـ «حزب العمال الكردستاني»، أن التعديلات القانونية هذه المقترحة ليست سوى «درع حماية للمجازر» التي يرتكبها العسكر باسم الحكومة في المناطق الكردية، وإعادة فرض حال الطوارئ بطريقة مقنعة.

وتنقل الصحيفة أن أردوغان انتظر اليوم الأخير لتوقيع تعديل رفع الحصانة في انتظار صدور التشكيلات القضائية التي تضمّنت تغييرات كبيرة في القضاة في المناطق الكردية، لتسير عملية محاكمة النواب الأكراد بما يرغب أردوغان.

إن إعادة جانب مهم من الصلاحيات إلى العسكر، والتي كانت انتزعت منه منذ العام 2010، وعلى مراحل، تشكل فضيحة لأردوغان، الذي بنى جانباً من شعبيته قبل العام 2010 على شعار منع العسكر من التدخل في الشؤون السياسية، وقد نجح في ذلك. لكنّ في التعديلات القانونية الجديدة المرتقبة، والتي ستمرّ وبتأييد أيضاً من «حزب الحركة القومية» وربما من «حزب الشعب الجمهوري»، وقفاً للمسار الانحداري لنفوذ الجيش الذي بدأ في العام 2010 واستعادة قوية لحضوره في السياسة، بل أيضاً بصلاحيات لم تكن له في الأساس قبل ذلك العام. وعلى هذا يبدو أن هناك توزيعاً جديداً لمراكز القوى في تركيا على أساس «السلطة مقابل القبضة»، يسلم فيه العسكر مسؤولية الملف الكردي والأمن القومي التركي مع حصانة مستعادة من المساءلة، مقابل ترك أردوغان يستأثر بالسلطة السياسية. وهذا يعني أن تركيا أمام مرحلة جديدة من الاستبداد السياسي والعسكريتاريا تذكّر بما كانت عليه عشية الحرب العالمية الأولى، وما انتهت إليه من نتائج كارثية على مختلف المستويات.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى