مقالات مختارة

الأوروبيون يهدون تركيا انقسامهم: تعليق تحرير التأشيرة بلا بدائل! لوكسمبورغ – وسيم ابراهيم

 

الرسائل إلى تركيا تصل بمغلّفات عديدة، لا تحمل دائماً اسم المُرسل إليه. يوم الجمعة، كان لدى وزراء الداخلية الأوروبيين، خلال اجتماعهم في لوكسمبورغ، حزمة مشاريع الإعفاء من تأشيرات السفر عليهم النظر في مدى تقدّمها. أنقرة لم تكن على رأس القائمة، رغم أن ملفها هو الأكثر سخونة، لكن كل دروب النقاش كانت تقود إليها. بريدها بات ممتلئاً، لكن صار بإمكانها استخدامه ترسانةً لأجوبتها المؤجّلة.

الصدارة كانت لجورجيا، فهذه الدولة يتسارع تقاربها من الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. أوفت بجميع الشروط الـ72 المطلوبة لتحرير التأشيرات. هذا الحكم صدر مع إشادة من المفوضية الأوروبية. إذاً، المفترض أنه لم يبق سوى أن تدخل الباب، بعدما بذلت جهداً مباركاً أوروبياً لتحصيل المفتاح. أتت المفاجأة للحكومة الجورجية: هناك دول عدة أزاحت جانباً قصّة الايفاء بكل الشروط، وصارت ترفض تمرير اتفاقية تحرير التأشيرات.

الحرجُ منع تلك الدول، على رأسها إيطاليا وألمانيا وفرنسا، من إعلان أسبابها. تسربت بعض التقديرات التي تتحدث عن تحفظات على ملف الجريمة المنظمة، وقضايا تتعلق بالعملية الديموقراطية والانتخابات، لكن لم يخرج أي تأكيد. فجأة صارت الشروط ديكوراً سياسياً، يمكن توفيره بحدّ ما، لكن وجوده لا يعني شيئاً حاسما.

انسحبت المفوضية الأوروبية إلى قوقعتها، واكتفت بالصمت. حينما سئلت إعطاء تفسير، لم يستطع مفوض الشؤون الداخلية والهجرة ديمتريس أفرامابوليس تقديم جملة مفيدة. اكتفى بالترديد: «نعتقد أن جورجيا أوفت بكل المعايير المطلوبة لتحرير التأشيرة، وسنستمر بالدفع من أجل إنجاز الاتفاق».

هذا كلام يعني تركيا في الصميم. بعد صفقة المقايضة مع الأوروبيين، وافقت وأنجزت صدّ تدفقات اللاجئين مقابل سلّة مكاسب، أهمها إعفاء مواطنيها من تأشيرة الدخول إلى منطقة «شنغن». أعلنت بروكسل، بكثيرٍ من التساهل، أنه لم يبق سوى بضعة شروط لتحرير التأشيرة، أبرزها تعديل قوانين فضفاضة لمكافحة الارهاب والحدّ من استخدامها سياسياً.

رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعديل تلك القوانين، مصراً على أن بلاده تخوض «حرباً مع الارهاب». أظهرت بروكسل مزيداً من التنازل، مخفضة من سقف التعديلات المطلوبة. كان واضحاً أن حاجة أوروبا الملحة لتركيا جعلتها مكرهة على توضيب لوازم إتمام الصفقة كيفما اتفق، حتى لو تحولت المفوضية الأوروبية إلى شاهد زور يمتدح حماية تركيا للاجئين، بعكس تقارير الجمعيات الحقوقية الدولية.

إذا كان وضع جورجيا، مع عدد سكان لا يتجاوز أربعة ملايين نسمة، على هذا النحو، فكيف مع دولة إشكالية مثل تركيا؟ مصدر ديبلوماسي أوروبي، منخرط في تلك المباحثات، يقول لـ «السفير» رداً على السؤال إن «الوضع أسوأ بكثير في حالة تركيا»، قبل أن يضيف: «إذا كان المعارضون للاتفاق مع جورجيا دولا قليلة، فالمعارضون في حالة تركيا هم الغالبية داخل الاتحاد الاوروبي».

وفق الجدول المتفق عليه بعد الصفقة حول صدّ اللاجئين، يفترض أن تتم قضية تحرير التأشيرات في غضون أقل من شهر. لكن تحقيق ذلك يبدو مستعصياً. هذا ما يدركه جيداً وزير الهجرة الهولندي كلاس دايكهوف، فقد كان في قيادة عملية التفاوض مع الاتراك، لكون بلاده تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. حينما سألته «السفير» عن الجدول الزمني لتطبيق الاتفاق مع تركيا، خصوصاً حول تحرير التأشيرة في حزيران، قال مباشرة: «لا أعتقد أنه تاريخ مناسب بخصوص العملية مع تركيا»، قبل أن يستدرك: «تحدثنا مع تركيا حول تحرير التأشيرة. هناك موعد هو الأول من تموز، إذا أوفوا بالشروط فحينها يمكننا المواصلة».

حينما طلب من دايكهوف شرح أسباب رفض الاتفاق مع جورجيا، تحفّظ على الرد، مكتفياً بالقول إن هناك دولاً لا تريد ذلك، ومن الأفضل سؤالها عن أسبابها. لكن مصادر أوروبية قالت لـ «السفير» إنه «عملياً من غير الممكن الوصول لاتفاق مع تركيا قبل نهاية هذا الصيف»، قبل أن تضيف: «إذا ساءت الأمور كثيراً، يمكن إعلان اتفاق سياسي، لكن يجب إيجاد المكابح التي تمكّن من تعليق الاتفاق قبل الاعلان عن بدء سريانه، هذا إذا حصل اجماع أوروبي صعب جداً الآن».

المكابح التي تتحدث عنها المصادر هي آلية أوروبية لتعليق اتفاقيات تحرير التأشيرة، تمكّن الدول الأوروبية من وقف الاتفاق حينما ترى أن هناك ما يستدعي ذلك. هذه الآلية قيد النقاش الآن، ولا يبدو أن إنجازها ممكن قبل عطلة البرلمان الأوروبي في آب المقبل.

المفارقة أن كل ذلك ليس فقط لا يعكس موقف قوة أوروبي، بل يزيد ضعفه وارتهانه للقيادة التركية. الآن يمكن للرئيس التركي ومستشاريه أن يعلنوا أن قضية شروط التأشيرة مسرحية هزلية، بعدما قدّم لهم الأوروبيون مادة دسمة مع حالة حليفهم الجورجي. ليس هذا فقط، بل يمكن لأنقرة القول الآن إن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، عملياً، يمشي فقط لأن تركيا تقوم بجهود لذلك. لا يغيّر في الأمر أن الجهود التركية مقصورة على إغلاق «حنفية» اللاجئين، خصوصاً بعدما صار الخطاب والفعل الأوروبيان، بدورهما، متنصّلين من المعاهدات الدولية بخصوص حقوق اللاجئين.

موقع الضعف الذي خلقه الانقسام الأوروبي يعزز موقع رجا طيب أردوغان التفاوضي. كان يمكنه دائماً إعادة توجيه التدفقات حينما يحتاج ذلك، لكن الأمر يمكنه أن يحصل الآن بعد عملية تبييض للأسباب. سيمكنه الاعلان أن أوروبا دفعت إلى ذلك، لأنها لم تَفِ بالتزاماتها بعكس ما فعلت حكومته. لديه مسوغات كثيرة ليقدمها. أحد بنود الصفقة كان اعادة توطين أوروبا لقسم من اللاجئين السوريين في تركيا، وهذه العملية، على بطئها الشديد، تمشي مقطوعة الأنفاس.

حين البحث عمن يرفض اتمام الصفقة مع الاتراك، لجهة اعادة التوطين وتحرير التأشيرة، الأفضل سؤال من يؤيدون لكونهم الأقلية الصارخة، على الدوام، بالشكوى والاعتراضات.

كانت السويد مع ألمانيا من أكثر الدول تعرّضاً لتدفقات اللاجئين، خصوصاً السوريين، قبل أن تقول إنها بلغت سقف قدرتها الاستيعابية. حاجتها لحلّ يوقف التدفقات، وهي المصابة أيضا بنمو اليمين المتطرف، جعلتها من أول المنخرطين في تطبيق اعادة التوطين للسوريين القادمين من تركيا. بضع دول تحتاج أن ينجو الاتفاق بأي وسيلة كانت، لأن ليس لديها أي بديل آخر في ظل استمرار الانقسام الأوروبي المعطّل.

حينما سألت «السفير» مورغان جواهنسون، وزير العدل والهجرة السويدي، قال إن الانقسام الأوروبي يهدد بإفشال الاتفاق مع تركيا. لفت إلى أن «السويد هي إحدى الدول الاوروبية الخمس التي تطبق قرار إعادة التوطين (مع تركيا)، لذا فالتطبيق مرتهن بقرار الدول الـ23 الأخرى لتنفذ أيضاً، وإلا فإن هذا الاتفاق مع تركيا لن يعمل». لكنه أضاف في لهجة محذّرة لكل الدول: «على المفوضية الأوروبية أن تضغط على هذه الدول للتطبيق. عضوية الاتحاد الأوروبي لا تتعلق فقط بالحقوق، ولكن أيضاً بالواجبات. بالنسبة للتكاتف ومساعدة بعضنا، وليس فقط الجلوس وأخذ الأموال من الصناديق الهيكلية».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى