الانتخابات التمهيدية الاميركية دروس وحقائق اولية د.منذر سليمان
المرشحون يجسدون العدوانية
اتضحت معالم وآفاق السياسة الاميركية المقبلة، وفق تقييم النخب الاميركية، عقب افصاح المرشحة هيلاري كلينتون عن “برنامجها للسياسة الخارجية،” 2 حزيران الجاري، الذي اقتطفت كبرى الوسائل الاعلاميه ما ورد فيه من تهجم وتحقير لمنافسها الجمهوري دونالد ترامب، الذي “يشكل تهديدا” للسياسة الاميركية وتوسعها على امتداد العالم، وتجاهلت الشق الأهم في اولوية المؤسسة العسكرية.
ما تميز به خطاب هيلاري هو الاشارة المتكررة “للاستثنائية” الاميركية، التي تعني ببساطة اما ان تقبل الدول والشعوب الاخرى سيادة وهيمنة واشنطن، او مواجهة مصائر مجهولة لقياداتها، وتعريض الآخرين لسلسة من الحروب والنزاعات الداخلية.
سجل هيلاري، كما في مفردات خطابها الاخير، لا يشذ عن تأييد المغامرات العسكرية والتدخل بالقوة في شؤون الآخرين: حروب البلقان وغزو العراق وافغانستان وتدمير ليبيا “وتأييدها الحاسم” لمسلحي المعارضة السورية من الجهاديين المتطرفين.
مبدأ الهيمنة الذي يجري تداوله في اروقة واشنطن يرمز له بـ “المسؤولية لبسط الحماية – R2P (responsibility to protect)،” الذي تعد السيدة كلينتون واحدة من اشد مناصريه داخل المؤسسة، برفقة المندوبة الدائمة لدى الأمم المتحدة، سيمانثا باور، ومستشارة الأمن القومي، سوزان رايس – اللواتي شكلن رأس الحربة لتدمير ليبيا. بالطبع تفادت كلينتون تعريف من اعطى المسؤولية لمن.
آفاق الانتخابات التمهيدية
اسفرت الجولة الاخيرة عن بروز كل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب كمرشحين “واقعيين” بانتظار التتويج الرسمي نهاية الشهر المقبل. الملفت ان النخب الاميركية الحاكمة اصطفت وراء المرشحة كلينتون، رغم ما يعترض مسيرتها من “ازمات” تتعلق بسيرتها وادائها. في جانب الحزب الجمهوري، اصطف معظم رموز النخب السياسية والاقتصادية والمالية ضد المرشح ترامب، كل لاسبابه، عقب موجة دعم فاترة قبيل يوم الانتخابات لما يشكله من “تهديد” لمشروع الهيمنة الاميركية على امتداد العالم.
بلغة الارقام، فيما يخص ترامب، استطاع تخطي عتبة 13 مليون ناخب من الحزب الجمهوري لصالحه، بتوظيف ما يعتقده “سحر شخصيته” لدى الجمهور الانتخابي الغاضب، وليس بفضل مهارات وكفاءات لفريق حملته الانتخابية. عند الاخذ بعين الاعتبار تنامي تأييد الجمهور الانتخابي للمرشح بيرني ساندرز، يمكن اعتبار جناحيهما ممثلا اقوى للنبض الشعبي والجمهور الانتخابي الاميركي؛ الأمر الذي يضاعف الاعباء الملقاة على كاهل هيلاري كلينتون لكسب جمهور ساندرز باعداد وازنة.
ابرز الخصائص المميزة لجولة الانتخابات الاخيرة يمكن ايجازها بالتالي:
عنصر الحماس للمشاركة صب في صالح الحزب الجمهوري مقارنة مع الجولات السابقة. اذ تشير بيانات المشاركة الرسمية في العام الجاري الى مشاركة 50.67% من الناخبين الجمهوريين مقارنة بمعدل مشاركة 36.12% في انتخابات عام 2008. مشاركة الناخبين عن الحزب الديموقراطي بلغت 49.33% مقارنة مع نسبة مشاركة 63.88% لجولة عام 2008؛ اي ما يوازي خسارته لنحو 7.3 مليون صوت.
لا ينبغي القفز عن الاجراءات التي طبقها الحزب الجمهوري عبر عقد من الزمن “لتوزيع تمثيل الدوائر الانتخابية” لمحاباة جمهور ناخبيه واقصاء ما استطاع من مؤيدي منافسيه في الحزب الديموقراطي.
الدور المؤجل للمال. دلت الجولة الحالية على تفوق المرشحة هيلاري كلينتون في جمع التبرعات وحجم الانفاق على مختلف الانتخابات التمهيدية، على خصومها الجمهوريين بشكل اساسي، بيد ان تلك الميزة لم تترجم اضطرادا في تدفق اعداد الناخبين والمؤيدين بنسبة مريحة.
قياسا على ذلك، تشاطر كل من بيرني ساندرز ودونالد ترامب في عدم اعتمادهما على تبرعات مكثفة من “لجان العمل السياسي” التي لا تتقيد بسقف مالي معين، لكن ادائهما جاء مبهرا قياسا لحجم الانفاق ورغم عدم تمكن ساندرز من الاطاحة بمنافسته كلينتون.
كما اشترك ساندرز وترامب بالاقلاع عن المراهنة والاعتماد على طاقم انتخابي يحظى بتجربة مميزة يقابله انفاق مالي ضخم. وراكما مؤيديهما بالاستناد الى قدرتهما على حشد اعداد كبيرة ومتنامية من المؤيدين في مهرجانات انتخابية، هي اقرب للتجمعات الشعبية تجاوزت في بعض الاحيان عشرات الآلاف من المشاركين. بالمقابل حافظت كلينتون على اتباع النموذج التقليدي والمراهنة على جهود الاخصائيين في حملتها الانتخابية والاستناد الى البيانات واستطلاعات الرأي المعتادة، ذات الكلفة المتنامية، بيد ان نتائجها في حجم المشاركة الشعبية جاءت مخيبة للآمال.
غضب الناخبين من المؤسسة الحاكمة: بلغت نسبة الغضب الشعبي من الحكومة المركزية آفاقا مقلقة، اذ اعرب نحو 80% من عموم الناخبين عدم ثقتهم القطعية بالحكومة “او منحها ثقة في احيان نادرة.” الأمر الذي يفسر جزئيا تدفق جمهور الناخبين بكثافة الى جانب كل من ترامب وساندرز، لا سيما الأول الذي يجاهر بصعوده المشهد من خارج المؤسسة الحاكمة كدليل على صدقيته في التصدي لتجاوزات السلطة وتهميش قطاعات شعبية متزايدة.
يحسب لترامب قدرته على تحفيز وتوسيع قاعدة الناخبين عن الحزب الجمهوري، ويخشى قادة الحزب الديموقراطي تمكنه من استقطاب بعض قواعده نظرا لعدم امتثاله لقيود السلطة المركزية وابتعاده عنها، بصرف النظر عن استفادته القصوى من شبكة علاقاته المتشعبة داخل المؤسسة، سياسيا واقتصاديا وماليا.
خدم ساندرز لفترة معتبرة في اروقة الكونغرس بمجلسيه لكنه حافظ على توجهاته السياسية المستقلة ووظفها في استقطاب اعداد كبيرة من الناخبين بلغت عدة ملايين يميلون للتيارات الليبرالية وليس بالضرورة مؤيدون للحزب الديموقراطي، بل يصنف الكثيرين منهم في عداد المستقلين.
لساندرز الفضل في اتاحة الفرصة لبعض القوى السياسية بتوجهات تقدمية البروز على المسرح السياسي، بعد طول تهميش وملاحقة ومعاقبة واعتقال، والتي قد تستطيع فرض حضورها وبرامجها السياسية في مؤتمر الحزب الديموقراطي الشهر المقبل، خاصة في ظل ما تفيده بيانات الاستطلاعات الانتخابية بأن 80% من الناخبين يميلون لترشيح ساندرز مقابل 20% لصالح كلينتون.
تدني الثقة بكلي الحزبين: شبه اجماع في الاوساط السياسية بأن الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديموقراطي، يعانيان من عزوف القاعدة الشعبية عن تأييدهما بمعدلات شبيهة بسابق الايام. ولوحظ تبدل طفيف في لهجة وخطاب هيلاري كلينتون للتقارب واحيانا التماهي مع مطالب المرشح ساندرز وكل ما يمثله.
الامر عينه واجهه الحزب الجمهوري اذ ان طبيعة الجمهور الانتخابي الذي استطاع ترامب استقطابه شارك بحكم معارضته لتوجهات المؤسسات الحاكمة ومساهمتها في شلل اداء المؤسسات الحكومية.
عامل التاريخ: دخلت هيلاري كلينتون التاريخ السياسي الاميركي من ابوابه الواسعة كأول امرأة مرشحة للرئاسة عن حزب سياسي رئيسي، وستوظف تلك الميزة في خدمة حملة ترشيحها لابعد الحدود. واهدت فوزها السياسي الى “اجيال من النساء والرجال الذين ناضلوا وضحوا وصنعوا هذه اللحظة.”
استنهاض حماس القاعدة الانتخابية احد اهم عناصر نجاح الحملة، الأمر الذي لم تتقنه السيدة كلينتون راهنا بمعدلات تشابه ما نالته في حملتها السابقة عام 2008. شاع سابقا انها “تنظر بعين العطف” لاختيار شخصية من اصول لاتينية لمنصب نائب الرئيس، والذي ان اقدمت عليه من شأنه ان يسهم ايجابا في حشد الجالية الكبيرة من اصول لاتينية؛ مما سيرجح الفارق الفاصل بينها وبين ترامب لصالحها.
التصويت ضد مرشح وليس معه: تتشاطر كلينتون وترامب بتقلص شعبيتهما بين الجمهور الانتخابي العام، التي تحجم عنهما معا بنسبة 60% من عدد المشاركين. الأمر الذي سيقود الى الاستنتاج بأن الفائز في الحملة الرئاسية بلغ المنصب لشح التأييد العام وليس بسببه.
درجت العادة في النظام السياسي الاميركي امهال الرئيس الجديد فرصة 100 يوم لتحديد التوجهات السياسية وما ينوي انجازه من ملفات، مما يفاقم قدرة كل من ترامب وكلينتون في التغلب على الضرر المرافق. اقصى ما سينجم عن هذا السيناريو هو عدم تأهل الرئيس المقبل لولاية ثانية، على افتراض ان صعوبات داخلية وفتح ملفات قديمة قد تؤدي لازاحته.
دور الفضائح: شكلت حملة انتخابات عام 1972 نقطة فاصلة في مصداقية المؤسسة الحاكمة مع تداعيات “فضيحة ووترغيت” التي اطاحت بالرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون. وجهدت المؤسسة منذئذ في تسييج مؤسسة الرئاسة قدر المستطاع لاستعادة هيبتها، التي لم تعمر طويلا وخضعت لمناكفات السياسيين من الحزبين خاصة في سعي قادة الحزب الجمهوري الاطاحة بالرئيس الاسبق بيل كلينتون انتقاما من اسقاط الرئيس نيكسون.
فيما يخص المرشحة هيلاري كلينتون، رافقتها سلسلة من القضايا التي رغب اصحابها في ترقيتها الى مصاف الفضائح، ابرزها مراسلاتها الالكترونية التي تمت عبر صندوق بريد خاص بها لا يخضع لاجراءات الحماية الرسمية، والذي استخدمته في بعض مراسلاتها الرسمية. تداعيات المسألة لها الفضل الاول في تراجع معدلات شعبيتها امام منافسها دونالد ترامب – لكن الى حين.
تعزز أمل خصوم كلينتون، في الحزبين، من فرصة الاطاحة بها عقب اصدار مكتب التحقيقات الفيدرالي – اف بي آي – توصية بمتابعتها قانونيا؛ فضلا عن قضية اخرى تلاحقها وزوجها بتلقي “مؤسسة كلينتون” الخيرية تبرعات مالية مقابل تقديم “خدمات سياسية الطابع،” خلال فترة توليها وزارة الخارجية، من بين زبائنها الحكومة السعودية ودول النفط العربية.
في العرف السياسي ليس مستبعدا ان تتم الاطاحة بالسيدة كلينتون، بيد ان اعدادها وفوزها المؤزر وتأييد الرئيس الاميركي لها دون لبس يؤشر على ان المؤسسة الحاكمة ستحجم عن المضي في القضايا المثارة الى النهاية، وستجد مخرجا مشرفا لها لا يعيق تبوءها منصب الرئيس. اما وان نحجت محاولات الاطاحة بها قبل المؤتمر الحزبي، نهاية الشهر المقبل، فليس مستبعدا ان يقفز نائب الرئيس جو بايدن الى حلبة السباق لحفظ ماء وجه الحزب الديموقراطي، من ناحية، وتشكيل ضمانة لكسب ولاية رئاسية اخرى للديموقراطيين.
في حال تحقيق كلينتون الفوز بمنصب الرئيس، قد يمضي مناهضوها في الحزب الجمهوري بافتعال قضايا تعيد للواجهة مسألة المراسلات الالكترونية التي ستقيد حركتها وتحجم حيز المناورة لديها، كما شهدنا خلال فضيحة ووترغيت. الأمر الذي يضاعف المراهنة لاختيارها نائب رئيس ذو مؤهلات قوية باستطاعته ادارة دفة البيت الابيض بفعالية ونضوج سياسي.
في الطرف المقابل، ليس مستبعدا ايضا ان تطفو على السطح قضايا تلاحق دونالد ترامب ترتقي لمستوى الفضائح، خاصة بعد خضوع سجله “السياسي والتجاري” الى الفحص والتدقيق وتنامي عدد الجهات والاطراف الراغبة بالاطاحة به.
الاحداث غير المرئية: ستعمل قيادات الحزب الديموقراطي على تفادي اي ارتباك او اشتباكات قد تحصل داخل اروقة المؤتمر، والتي قد تتفاقم لمستوى الصدام الدموي ابان مؤتمر الحزب عام 1968، مما سيترك تداعيات سلبية على المرشح الفائز، على اقل تعديل.
حالة الاقتصاد المتردية، في نظر الكثيرين من الاخصائيين، ستشكل احدى دوافع المشاركة الانتخابية، واي هزة جديدة في هذا الشأن ستقلص حظوظ المرشحة كلينتون. ولنا في انتخابات عام 2008 سابقة تشهد على تقدم المرشح الجمهوري جون ماكين على منافسه باراك اوباما لحين ازمة سوق الاسهم المدوية في شهر ايلول من ذلك العام. الأمر ان تكرر حدوثه في الاشهر القليلة المتبقية فان المرشح ترامب سيصعد بقوة الى دفة الرئاسة.
وعلى الصعيد الخارجي، فان الازمات الدولية تستمر في طلب اهتمام القادة السياسيين، بصرف النظر عن حقيقة نواياهم لايجاد حلول حقيقية. ونظرا لاعتماد كلينتون على سجل خبرتها في الشان الدولي، واتباع سياسة تستند الى سياسات الرئيس اوباما الراهنة، فان اي هزة تؤدي لوقوع قتلى بين صفوف الجنود الاميركيين، او الاميركيين بشكل عام، من شأنها الاضرار بصدقية حملتها الانتخابية وتقليص حظوظ الفوز في شهر تشرين الثاني / نوفمبر المقبل.