مقالات مختارة

«شراكة جديدة» بين لبنان وأوروبا: هل تبدد أشباح «التوطين»؟ بروكسل – وسيم ابراهيم

 

لبنان على مشارف شراكةٍ جديدة مع الاتحاد الأوروبي. القديمة لم ينتفع منها، بل جعلته أمام ضخّ مُضاعف لبضائع المصدّر الدولي الأكبر. الحال مختلفةٌ الآن. الاقتصاد والتجارة، وكل جانب تقريباً، بات منضوياً في سياق حاجة الأوروبيين لتجديد الشراكة، في ظل عمليتهم المتواصلة لبناء السدود أمام اللاجئين السوريين وغيرهم. هناك مكاسب مالية للبنان، مساعدات واستثمارات، لكنه كان مضطراً لتقديم تنازلات أيضاً. المفاوض اللبناني يَعتبر أن إبعاد شبح «التوطين» للاجئين، سيكون الإنجاز السياسي الأهم للاتفاقية الجديدة.

عجز الأوروبيين أمام تدفقات اللاجئين، بسبب خلافاتهم وانقسامهم بالدرجة الأولى، جعلهم يضعون لبنان والأردن مع خمس دول أفريقية أخرى في سلّة «شراكات جديدة». يعتزمون تقديم مساعدات وتمويل واستثمارات، يتحدثون عن أرقام فلكية مثل خطة استثمار يمكن أن تصل إلى 62 مليار يورو، مقابل أن تعمل تلك الدول كخزانات مغلقة تمنع توليد موجات لجوء جديدة إلى أوروبا.

من خلف الإبهار الذي أحدثته الأرقام الفلكية، طرح مسؤولٌ أوروبي مثالَ لبنان للتدليل على التعقيدات المتصلة بمعالجة «أزمة اللاجئين». شرح للصحافيين في بروكسل أن «وادي البقاع شهد تضاعف عدد السكان، هذا يعني استعمالاً مضاعفاً لكل البنية التحتية، لذا لا يمكن فقط تأمين الملجأ والغذاء»، قبل أن يستطرد «أيضاً علينا التفكير بالتوتر بين المجتمع المضيف واللاجئين، هناك الفئات الأفقر ترى أن اللاجئين يحصلون على مساعدات أكبر منهم، وربما يحصلون معها على وظائف ليست متاحة لهم».

يلفت الأوروبيون إلى أن تلك التوترات تصحّ في حالة لبنان والأردن، لكن الاختلاف حاضر بوضوح: انتهى الأردن من التفاوض حول حزمة المشاريع التي اقترح تمويلها، فيما لا يزال التفاوض جارياً مع لبنان. ديبلوماسي رفيع المستوى، واسع الاطلاع على الموضوع، قال لـ «السفير» إن «الأردن يضع وضعه الاقتصادي أولوية، ليس لديه حساسية إدخال عمالة أجنبية إلى سوق العمل، أما لبنان فلديه حساسيات بالنسبة للتوازن الديموغرافي، إضافة لحساسيات أخرى مختلفة».

الهدف الجوهري لتحرك الأوروبيين هو منع تشكّل موجات لجوء جديدة، خصوصاً بدافع اليأس من الظروف التعيسة لمخيمات اللجوء في لبنان والأردن. يريدون إيصال خطوط إعاشة تكفي لعدم إطباق ذلك اليأس. لذلك قالوا للدولتين: نعطيكم التمويل الذي تطلبونه كي يبقى اللاجئون عندكم.

حمل الأردن مشاريعه مبكّراً. الملك عبد الله الثاني مهّد شخصياً لذلك بزيارات عديدة إلى بروكسل. جرى التفاوض مع الجار السوري بسلاسة، تم الاتفاق على التمويل بسرعة قياسية، ولم تظهر عقبات تذكر. بالأحرى، لم يظهر محظور سياسي يمكن أن تتفرع منه مختلف الحساسيات. لكن لبنان وقف طويلاً أمام قضية «يبقى اللاجئون عندكم». هنا قفزت توًّا مخاوف «التوطين». في شكل ما، هذا ما يطلبه الأوروبيون عملياً، خصوصاً أنهم، كما اللاعبون الدوليون الكبار، لا يكفّون طلب الاستعداد لطول أمد الصراع السوري.

لبنان يحاول، على أقل تقدير، منع كل ما يمكن أن يوحي للاجئين بإمكانية إقامة طويلة. هنا يصير الحفاظ على تعاسة إقامة اللاجئين السوريين مصلحة أساسية، فيما يريد الأوروبيون عكس ذلك. ما الحل ما دامت الأولويات متعارضة هنا؟ لا مفرّ من الحلول الوسط، والتنازلات المتبادلة.

المفاوض اللبناني اعتبر أن مبدأ «اتركوهم عندكم وخذوا تمويلاً»، أمرٌ «يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للبنان». الأخذ والرد بحثاً عن التسوية قاد إلى «إنجاز سياسي نوعي»، كما اعتبره المفاوض اللبناني أنه يغلق الباب أمام «التوطين» كقدرٍ سيفرضه امتداد الحرب السورية. يقول مصدر واسع الاطلاع إن النسخة الحالية لاتفاقية الشراكة مع الأوروبيين، في باب الحوار السياسي، أدخلت تخريجة «التشجيع على العودة الآمنة للاجئين السوريين، وفق توفر الظروف الملائمة، مع مراجعة إمكانية ذلك دائما».

هذه التخريجة جاءت من بين احتمالات محدودة، أو بالأحرى احتمالين لا ثالث لهما. الأول عمليات إعادة توطين إلى دول أخرى، وثبت أن الأوروبيين عاجزون عن المضي في ذلك. الثاني هو الاندماج. حاجج الجانب اللبناني بأنه «غير قابل للبحث»، مستعرضاً وجود موانع دستورية وتبعات على «استقرار البلد والتوازن الديموغرافي»، مع التشديد على أن ذلك مستعصٍ حينما يشكل اللاجئون أكثر من ربع سكان البلد.

هنا تلفت المصادر إلى أن «العودة الآمنة هي الآن بمثابة نافذة كي لا يكون الاحتمال الراجح الاندماج إلى التوطين»، قبل أن تستدرك أن «هذه النافذة يمكن توسيعها لكونها على رأس أولويات الحوار السياسي بين الاتحاد الأوروبي ولبنان».

هذه الصيغة الوسطية باتت ضمن القسم المنتهي من التفاوض. يجب أن تمرّ بعد انتهائه على الدول الأوروبية الثماني والعشرين، كي تصادق عليها، مع توقعات بأن تعلن الصيغة النهائية لاتفاقية الشراكة الجديدة نهاية هذا الصيف.

سياق الدعم المالي المزمع سيكون على شكل «اتفاق»، مجموعة التزامات متبادلة، يأتي كملحقٍ باتفاقية الشراكة المجدّدة. سيعني ذلك ترقية التعاون ليكون لبنان «شريكاً استراتيجياً». لكن التحفظات اللبنانية على مطالب الأوروبيين حالت دون إنجاز ملحق «الالتزامات»، فمجملها يتعلق بالتعامل مع اللاجئين السوريين.

بالنسبة للمفاوض الأوروبي، الأولوية تطويق تدفقات اللاجئين، محاولة منعها بتوفير ما يسدّ الرمق. في هذا السياق، يرى الجانب الأوروبي أنه نجح في الضغط على لبنان لانتزاع بعض التنازلات. تقول مصادر أوروبية مطلعة على المفاوضات لـ «السفير» إن لبنان سيتراجع عن شرط منع عمل اللاجئين.

تقول المصادر إن «العنصر الأساسي للاتفاق (ملحق الالتزامات المتبادلة) هو بيئة آمنة للاجئين»، قبل أن تضيف أن لبنان التزم بأن «يسعى سعياً ملموساً لتحسين الإطار التنظيمي بالنسبة لتسجيل اللاجئين وإقامتهم، خصوصا ما يتعلق بالإعفاء من رسوم الإقامة وتبسيط متطلبات التسجيل ووثائقه، بما في ذلك (وثيقة) التعهّد بعدم العمل».

لكن حتى تحت مظلّة التسوية، تتفرع خلافات ليست سهلة. هناك تحفظات من لبنان تتعلق بطريقة الدعم المالي، المزمع تقديمه تمويلاً ومساعدات واستثمارات، خصوصاً لجهة توفير فرص العمل للاجئين. بحسب المصادر، ركّز المفاوض اللبناني على أن «تحسين أوضاع اللاجئين السوريين لا يمكن أن يتم خارج سياق أشمل هو تحسين اقتصاد الدول. لبنان لديه بطالة عالية بمعدل 25 في المئة، لذا سيكون السماح للاجئين بالعمل بمثابة شيك من دون رصيد لأنه ليس هناك عمل»، موضحة أن النقاش يدور حول «تمويل مشاريع، تخلق فرص العمل أولاً، وحينها يمكن أن يستفيد منها اللبنانيون والسوريون مؤقتاً».

لصياغة اتفاقية الشراكة الجديدة، مع حزم الدعم المرتبطة بها، يحاول المفاوض اللبناني الإفادة من حاجة الأوروبيين للاتفاق. جانبٌ من الإفادة يأتي من دروس عدم استفادة لبنان من الاتفاقية السابقة، تلك التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2006. بعد العمل بها، تضاعفت الصادرات الأوروبية إلى لبنان، فيما بقيت صادرات لبنان عاجزة عن الاستفادة من سوق أوروبية هائلة، قوامها نحو 500 مليون مستهلك.

ضرورة مطابقة الصادرات للمعايير الأوروبية كانت أحد الأسباب، لكن الأوروبيين اعتبروا أنه ليس الوحيد. تمّ التوافق على أنّ تشخيص الأسباب يحتاج بدوره تفاوضاً، لذلك تم تصميم «آلية حوار اقتصادي رفيع المستوى»، ستقوم بهذه المهمة.

لم يوضح الأوروبيون كم ستكون الحصة التمويلية والاستثمارية لدول «الشراكة الجديدة». قالت المفوضية إنها بالإجمال ستقوم بتعبئة حزمة تمويل على المدى القصير، قوامها ثمانية مليارات يورو، خلال السنوات الخمس الماضية. في الوقت ذاته، وعدت بصندوق استثماري طموح: ستقوم بتأمين 3.1 مليارات يورو، لتعمل كرأس مال ثابت يولّد استثمارات خاصة وعامة حجمها 31 مليار يورو، مع إمكانية تضاعفها إلى 62 مليار يورو إذا قدمت الدول الأوروبية مساهمة مماثلة.

على كل حال، يقوم لبنان الآن بالتفاوض على حزمة المشاريع التي طلب تمويلها، ربطاً بموضوع اللاجئين. المشاريع تشمل جوانب مختلفة: دعم البلديات، البنية التحتية، معالجة النفايات الصلبة، الطاقة، التعليم. لكن إضافةً لذلك، أمكن التغلّب على عقبات كانت ستمنع تقديم تمويل مباشر للخزينة اللبنانية، أهمها عدم صدور موازنة للدولة وعدم إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي. إحدى التخريجات لدعم الخزينة اللبنانية ستكون تقليل تكلفة الاستدانة، عبر تقديم المفوضية ضمانات عبر وجودها في العديد من المؤسسات المالية والأوروبية.

المسؤولون الأوروبيون نفوا أن يكون وجود لبنان في منطقة صراع عاملاً مثبّطاً للاستثمارات الخاصة والعامة، باعتبار المخاطر ستكون أعلى بطبيعة الحال. قال أحدهم إن هذا العامل «لن يكون مؤثراً». وعود الدعم التي يطلقها الأوروبيون كبيرة، حتى خيالية بالنظر للخطة الاستثمارية. التجارب السابقة بيّنت أنه حينما يتعلق الأمر بحشد التمويل، لا يمكن أن يكون الأوروبيون قدوة حسنة. التفاؤل الوحيد، لمن ينتظر تمام تلك الوعود، هو أنهم يتحركون الآن تحت الضغط والحاجة لشراء التعاون.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى