أوروبا تكشّر عن أنيابها الاقتصادية.. لإيقاف اللاجئين وسيم ابراهيم
حينما تصل قضية اللاجئين للتهديد، يصير واضحاً أنها صارت في المنطقة الحمراء لمؤشر المخاطر الأوروبي.
كلا الأمرين، التهديد والمنطقة الحمراء، تعكسان موقع الضعف الذي يحكم الردّ الأخير الذي قدمه الاتحاد الأوروبي. قامت ذراعه التنفيذية بطرح اتفاقات «شراكة جديد» مع لبنان والأردن وخمس دول افريقية، وفق قاعدة تقديم دعم مالي، استثماري وتنموي، مقابل التعاون لوقف تدفقات اللجوء. لكن التعاون المطروح ليس كيفيّاً، فمن يقبله سيتلقى «حوافز»، أما من يرفضه فسيكون أمام «عواقب» التكشير عن الأنياب التجارية لأكبر تكتل اقتصادي في العالم.
تلك «الشراكات» أعلنت عنها المفوضية الأوروبية أمام البرلمان الأوروبي، خلال جلسته المنعقدة في استراسبورغ. هدفها المعلن «إدارة أزمة اللاجئين»، أي إبعادهم عن التوجه والوصول إلى الدول الأوروبية بكل الطرق الممكنة. هذا ما تقوله شروحات الخطة، ولو بتغليفٍ قابل للتصدير، بينما أن أهدافها المباشرة تشمل «تمكين المهاجرين واللاجئين للبقاء قريبين من أوطانهم ولكي يتجنبوا القيام بالرحلات الخطرة» إلى أوروبا.
التهديد جاء على ألسنة العديد من المسؤولين الأوروبيين، وبعيارات مختلفة. نائب رئيس المفوضية فرانس تيمرمانس قال أمام نواب البرلمان إنه «من دون تحقيق نتائج ملموسة من شركائنا، لإدارة أفضل للهجرة، علينا مجتمعين أن نكون جاهزين لاعادة تكييف انخراطنا معهم ومساعداتنا المالية».
لكن آخرين لم يحتاجوا إلى ذلك التحايل اللفظي في ترجمة التهديدات. خلال عرض تفصيلي للخطة الجديدة، قال مسؤول اوروبي للصحافيين في بروكسل إن «الدول التي تتعاون معنا وتحقق الأهداف المأمولة ستتلقى معاملة خاصة، الدول التي لا تتعاون ستكون هناك عواقب من ناحية التجارة والتنمية».
التهديدات رددها برلمانيون أوروبيون أيضاً. لكن هل يملك الاتحاد الأوروبي وسائل ضغط فعّالة؟ من حيث المبدأ، هناك ذراع اقتصادية مفتولة العضلات. الاتحاد هو أكبر تكتل اقتصادي في العالم، ويشكّل نحو ربع الناتج الاجمالي في الكرة الأرضية. حقائق تجعله، بطبيعة الحال، أكبر شريك تجاري لدول كثيرة، منها الجوار المتوسطي والدول الإفريقية. إضافة لذلك، يقدم الأوروبيون مساعدات مالية لدول عديدة في إطارات شراكة.
المشككون يقولون إن ممارسة ضغوط تجارية أمر ليس ممكناً بسهولة، خصوصاً أن التبادل التجاري تحكمه قواعد منظمة التجارة الدولية. صحيح أن الأوروبيين يقدمون تسهيلات تجارية، تتجاوز قواعد المنظمة الدولية، في إطار اتفاقيات شراكة، لكنهم المصدّر الأقوى، وبالتالي المستفيد الأكبر من فتح الأسواق.
التهوين لا يلغي أن للتكتل الأوروبي أنياباً اقتصادية ومالية فعليّة. ليس واضحاً بالضبط إلى أيّ حد يعتزم الأوروبيون تنفيذ تهديداتهم في حال تمنّع «الشركاء» الإفريقيين تحديداً، لكن يبقى أن قضية تدفقات اللاجئين جعلت الخطر على المشروع الأوروبي في المستوى الأحمر. أحزاب اليمين المتطرف تواصل صعودها مستغلّة تلك العناوين، لدرجة تمكّنها من المنافسة على السلطة في بعض الدول. مكاسبها تشكّل تهديداً وجودياً للمشروع الأوروبي، مع حملها شعار التراجع عنه لصالح تقوية الدولة الوطنية.
نموذج «الشراكات الجديدة» المطروح هو اقتباس مخفف لصفقة الأوروبيين مع تركيا. الفرق طبعاً هو أن تركيا هناك هي التي فرضت شروطها، لتكون لها اليدّ العليا. المقارنة كانت حاضرة بقوّة. المسؤولون الأوروبيون الذين شرحوا الخطة لنا قالوا إنهم يعتبرون النموذج التركي «إيجابياً»، لذا يستلهمونه باعتبار أن «نجاحه حقق نتائج ملموسة ومباشرة».
لحسن حظّ الموضوعية، هناك من لا يعجبهم ذلك، حتى لو كانت انتقاداتهم لا تأتي من حرصٍ على اللاجئين بقدر مقتهم لقيادة الرئيس التركي رجب طيّب أدروغان.
أبرزالمنتقدين هو السياسي المخضرم غي فيرهوفستات، رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي، ورئيس الوزراء البلجيكي السابق. اعتبر أن «الشراكات المطروحة» هي «ليست أكثر من نسخٍ ولصقٍ للصفقة التركية مع دول جديدة، نحن نقول لهم: نعطيكم المال على شرط ألا ترسلوا لنا لاجئين». يضع فيرهوفسات ذلك أساساً ليلفت إلى المضاعفات على وضع اللاجئين في تركيا، مشدداً على أنهم «عليهم العيش في ظروف فظيعة، واحياناً تتم إعادتهم مرة أخرى لمناطق حرب، عالقين بين داعش والجدار التركي، وحتى أنهم يتعرضون لإطلاق النار على الحدود»، في إشارة لتقارير حول ممارسات لحرس الحدود التركي رصدتها منظمات حقوقية دولية.
تلك المقارنات لا تلغي أن هناك فرقاً جوهرياً بين «الأصل» ونسخ «الشراكة»، فالمكاسب التي حصلت عليها تركيا ليست سمكاً في البحر.
شرح واضعو خطط «الشراكة» أنها ستكون نماذج مختلفة، كل منها سيفصّل وفق «حاجات» يطرحها البلد الشريك ويتم التفاوض عليها. الخطة تنطلق مع دول أعطيت الأولوية. لبنان والأردن، في المقدمة، لكونهما معنيين باللاجئين السوريين، لكنها تمتدّ إلى دول الأصل والعبور لتدفقات اللاجئين من شمال افريقيا: مالي، النيجر، نيجيريا، السنغال، أثيوبيا.
الشراكات مع الدول المستهدفة ستكون على شكل «مواثيق»، بمعنى أنها التزامات من دون أن ترقى لمستوى الاتفاقيات. الاتفاق مع الأردن صار جاهزاً، بما يتضمنه من قائمة مشاريع تم التوافق على تمويلها، أما قائمة المشاريع المتعلقة بلبنان فتحتاج المزيد من التفاوض. النسخة النهائية من مجمل «الشراكات» يفترض أن تكون جاهزة مع حلول الخريف.
كان يمكن، بالفعل، النظر إلى الجوانب الايجابية للطرح الأوروبي، لجهة دعم التنمية في بلدان الأصل والعبور للاجئين، لو كان ذلك هو المحرّك للمبادرة. لكن حاجات التنمية كانت موجودة لسنوات، من دون أن يتحرك الأوروبيون لدعم بلدان شكلت أسواقاً بالنهاية.
الشكوك تدور حول مصداقية «الحوافز»، قبل الحديث عن القدرة على توفيرها فعليّا.
حتى مع وضع المبادئ الأخلاقية جانباً، تلك التي يحاجج بها الأوروبيون عادة، ليست الخطة تماماً سياسة العصا والجزرة. هناك أرقام تبدو مدهشة حين إعلانها، لكن التفضيل فيها يجعلها تترنح. الحوافز المعروضة تبقى مجرد وعود، سمك في البحر. قالت المفوضية الأوروبية خلال عرضها للخطة إنها ستقوم بتعبئة 3.1 مليار يورو، معتبرةً أنه سيكون بمثابة «أصول ثابتة» ستجلب استثمارات تصل إلى 31 مليار يورو، ثم إذا قامت الدول الأوروبية بتقديم أساس مالي مماثل فيمكن أن تتضاعف الاستثمارات إلى 62 مليار يورو.
هذا النموذج يستلهم الخطة الأوروبية لخلق فرص العمل. وضعها جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، لتحمل اسمه، مستهدفةً توليد استثمارات تصل إلى 315 مليار يورو. المبدأ هو نفسه، فالمفوضية طرحت وقتها تعبئة رأس مال ثابت قيمته 21 ملياراً، متأملة أن يولد عبره ذلك الرقم الفلكي من الاستثمارات.
تلك الطريقة «اليونكرية» تعتمد على ألعاب السحر المالي، تلك التي جمعها رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق خلال سنوات طويلة من قيادة بلد يعيش على البضائع والمنتجات المصرفية. منهجه يقتبس طريقة عمل المصارف التي لا تحتاج، وفق معايير دولية، سوى أن تؤّمن أصولاً ثابتة تشكّل تسعة في المئة من قيمة الأموال التي تتاجر بها.
(السفير)