الكيان الإسرائيلي والقضية الفلسطينية: التطورات والمسارات المحتملة د. عباس إسماعيل
مقدمة:
تطوران رئيسيان تركا تأثيرهما على المقاربة الإسرائيلية للقضية الفلسطينية في سنة 2015، وسيكون لهما دورهما الفاعل في تحديد مسارات هذه المقاربة في سنة 2016، وهما: انتخابات الكنيست التي أفرزت حكومة جديدة، واندلاع الانتفاضة .
إن نجاح رئيس حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، في تحقيق فوز كبير في انتخابات الكنيست الـ 20 التي جرت في 17/3/2015، أتاح له تشكيل حكومته الرابعة، التي جاءت يمينية صرفة، ما أغلق الباب كلياً أمام أيّ تسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية تلبي الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني، وهو ما انعكس جموداً في العملية التفاوضية، وتبخراً للآمال بدولة فلسطينية، وأسهم، إلى جانب استمرار الاحتلال والاستيطان، في اندلاع انتفاضة فلسطينية، أدت، من جملة الأمور، إلى تقويض استراتيجية الحكومة الإسرائيلية بالحفاظ على الوضع القائم، والتمسك بسياسة إدارة الصراع بدل حله، اعتقاداً بأنها الأقل ضرراً أو الأكثر منفعة للمصالح الإسرائيلية.
وإذا كان تشكيل الحكومة اليمينية وجَّه ضربة قاسية إلى خيار المفاوضات وفرص إقامة الدولة الفلسطينية، فقد أطاحت الانتفاضة الفلسطينية بأوهام الحكومة الإسرائيلية في توفير الأمن والهدوء للإسرائيليين من خلال التمسك بسياسة الوضع القائم، وأعادت إحياء الدعوات إلى ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين، ليس في الضفة الغربية فحسب، بل في شرقيّ القدس المحتلة أيضاً، ما أطاح بكل الشعارات التي كانت تدعو التمسك بالقدس الموحدة عاصمة للدولة اليهودية، في ضوء استطلاعات الرأي التي أظهرت أغلبية إسرائيلية “لتقسيم القدس“.
هذه الورقة تتضمن محاولة للإضاءة على طبيعة التطورين الأبرزين في سنة 2015 —تشكيل الحكومة واندلاع الانتفاضة— من وجهة النظر الإسرائيلية، وهي تنقسم إلى قسمين. في القسم الأول تحت عنوان “إسرائيل وحلّ الدولتين”، ويتطرق إلى تركيبة الحكومة الإسرائيلية، موقفها من الدولة الفلسطينية، ومن السلطة الفلسطينية، إضافة إلى موقف المعارضة الحالية من الدولة الفلسطينية، وكذلك موقف الرأي العام الإسرائيلي منها.
في القسم الثاني، نتطرق إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وما تلاها من سجالات ونقاشات عامة حولها في “إسرائيل”، لجهة التوصيف، والدوافع والأسباب، وسبل التصدي لها، وطبيعة الإجراءات التي يتعين اتخاذها لهذه الغاية، ودور السلطة الفلسطينية في كلّ ما يحصل، وانتهاء بموقف الرأي العام الإسرائيلي من أداء الحكومة وتحديد الشخصيات الأنسب لتولي زمام الأمور في هذه المواجهة، وتأثير الانتفاضة على بلورة موقفه في جملة من الأمور على رأسها الانسحاب من الأحياء العربية في شرقي القدس.
أولاً: “إسرائيل” وحلّ الدولتين:
1. الحكومة الإسرائيلية:
تُعد الحكومة الإسرائيلية الـ 34، برئاسة بنيامين نتنياهو، واحدة من أكثر الحكومات إشكالية في تاريخ “إسرائيل”، وذلك بالنظر إلى جملة المؤشرات السلبية التي توّلدت في أثناء تشكيلها، فهي وليدة مخاض سياسي عسير، ولا ترتكز سوى على أغلبية 61 صوتاً من أصل 120 يتشكل منها الكنيست.
قبل 90 دقيقة فقط من انتهاء موعد التفويض الذي تلقاه نتنياهو لهذا الغرض، وبعد مفاوضات دامت 50 يوماً، تخلّلتها عقبات ومناورات، ومفاجآت، أبلغ رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، بأنه تمّكن من تشكيل حكومته المستندة إلى خمسة أحزاب يمينية، بعد عزوف حزب “إسرائيل بيتنا” عن المشاركة.
يتكون الائتلاف الحكومي من خمسة أحزاب: الليكود، كلنا (كولانو)، البيت اليهودي، شاس، ويهود التوراة (يهدوت هتوراة). بينما تتكون الحكومة من 20 وزيراً ومع رئيس الحكومة، يصبح العدد 21، يتولون 28 حقيبة وزارية. وقد نالت ثقة الكنيست بأغلبية 61 صوتاً، ومعارضة 59 صوتاً، في 14/5/2015.
عكست الخطوط العريضة لحكومة نتنياهو الرابعة، توجهات ورؤى الأحزاب المشاركة فيها. فحكومة نتنياهو مشكَّلة من ثلاثة أحزاب يمينية هي: الليكود وكلنا، والبيت اليهودي، إضافة إلى حزبيْن حريدِيَيْن: شاس ويهود التوراة. وهي أحزاب تحمل توجهات متشددة تجاه القضية الفلسطينية والقدس والعرب في “إسرائيل”، فيما يشدّد بعضها على قضايا ذات طابع اقتصادي اجتماعي كحزب كُلنا والأحزاب الحريدية، ويضع حزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو التحديات الأمنية المحيطة وإحباط المشروع النووي الإيراني على رأس أولوياته.
الخطوط العامة لحكومة نتنياهو تضمنت بنداً واحداً يتطرق إلى الموضوع الفلسطيني من بين 18 بنداً.
ثمة تقديرات في “إسرائيل” على أن حكومة نتنياهو، التي ارتكزت على 61 نائباً عند التصويت عليها في الكنيست من أصل 120، لن يكون بإمكانها الصمود حتى الموعد القانوني للانتخابات المقبلة، خريف سنة 2019، وإن صمدت فسيكون ذلك على حساب انتاجيتها وفعاليتها والوعود الانتخابية لرئيسها وشركائه الائتلافيين، ما يعني وجود حاجة ماسة لدى نتنياهو لتوسيعها بكتلة أخرى على الأقل، لأنه إذا اعتمد على التناقضات بين كتل المعارضة فإن داخل حكومته تناقضات لا تقل أهمية، وستقود إلى قلاقل جدية تهدد بقاء الحكومة. وكل السيناريوهات المتاحة أمام نتنياهو لتوسيع دائرة الثقة البرلمانية بحكومته أشبه بحقول ألغام، ومهما يصمد هذا السيناريو أو ذاك، سيقف حتماً على لغم يفجره، ولذا، يرى كثيرون في “إسرائيل” أن الانتخابات الإسرائيلية الجديدة مسألة وقت، إلا إذا فضّل نتنياهو الشلل الحكومي وضعف الفعالية على مواجهة التحديات الإشكالية في المجالات السياسية والاجتماعية.
2. الحكومة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية:
قبل يومين من موعد الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي التي جرت في 17/3/2015، أعلن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أنه إذا انتُخب من جديد فلن تقوم دولة فلسطينية . مصوتو اليمين أحبوا هذه الرسالة وابقوا الليكود في الحكم بعد أن تراجعت مكانته وفق استطلاعات الرأي. هذا الموقف دفع مراقبين إلى القول إن انتخابات الكنيست الأخيرة مثلت شهادة وفاة لـ”حلّ الدولتين“.
غير أن خيار الدولة الفلسطينية، الذي مات أيام الانتخابات، عاد إلى الحياة سريعاً بعد الانتخابات، حيث سارع نتنياهو إلى إعادة تأكيد التزامه بحل الدولتين.
نتنياهو تبنى فكرة دولتين لشعبين، في خطابه الشهير الذي ألقاه في جامعة بار إيلان في سنة 2009، تحت ضغط دولي. لكن اللغم الذي أدخله نتنياهو على اقتراحه، من خلال طلبه اعتراف الفلسطينيين بـ”إسرائيل” كدولة الشعب اليهودي، مثّل حاجزاً أمام أيّ نقاش عملي لتطبيق هذه الفكرة. على الرغم من ذلك، لم ينجح نتنياهو في الحصول على تأييد الليكود لهذا الطرح. وهو لم يطرح صيغة بار إيلان على طاولة البحث في أيّ من حكوماته للمصادقة عليها، وتحويلها إلى خطة أو قرار حكومي؛ كما أنه لم يطرح الفكرة ضمن أيّ مؤسسة أو إطار في حزب الليكود. وفي المعركتين الانتخابيتين اللتين خاضهما بعد إعلان بار إيلان، امتنع نتنياهو عن نشر برنامج لحزب الليكود، بهدف تجنُّب عرض موقف حزبي متفق عليه من الموضوع .
الانتخابات الأخيرة أظهرت خريطة الانقسام الحزبي بشأن الموقف من الدولة الفلسطينية. الأحزاب، التي بقيت كلها خارج الحكومة، مثل المعسكر الصهيوني ويش عتيد (يوجد مستقبل) وميرتس، أعلنت أنها مع الفكرة، وإن بِصيَغ وشروط مختلفة. أما الأحزاب الأُخرى التي دخلت الحكومة، من حزب كلنا (كولانو)، مروراً بالأحزاب الدينية الحريدية (شاس ويهود التوراة)، وانتهاءً بالبيت اليهودي، إضافة إلى الليكود طبعاً، إما أنها امتنعت عن التطرق إلى الموضوع، أو أعطت موقفاً ضبابياً، وإما أنها عارضت الفكرة علناً .
في نهاية المطاف، شكّل نتنياهو حكومة ائتلافية يمينية لا تضم أيّ مكون حزبي من خارج المعسكر اليميني وفق التقسيم المتَّبع في “إسرائيل”، تُعارض في غالبيتها الدولة الفلسطينية. هذه الحكومة غابت عن الاتفاقيات الائتلافية بين مكوناتها أي إشارة إلى موضوع المفاوضات مع الفلسطينيين أو الدولة الفلسطينية، والأمر نفسه ينطبق على الخطوط العامة للحكومة، والإشارة الوحيدة في هذا المجال تحدَّثت عن” الدفع إلى الأمام بالمسيرة السياسية والسعي إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين ومع كل جيراننا، في ظلّ الحفاظ على المصالح الأمنية، التاريخية والقومية لإسرائيل. وإذا تحقق مثل هذا الاتفاق، فسيعرض على الحكومة والكنيست لإقراره، وإذا كانت حاجة حسب القانون، فسيعرض على استفتاء شعبي“.
إطلالة موجزة على مواقف أحزاب الحكومة، تُظهر أن حزب البيت اليهودي، بقيادة نفتالي بينت، يعارض بصراحة إقامة دولة فلسطينية، ويعارض أعضاؤه بشدة أيّ انسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967، وهو ما عبّر عنه بينت بالقول “أنا أتعهد أن أفعل كل ما بوسعي للتصدي للتخلي عن سنتيمتر واحد من أرض إسرائيل للعرب” . ولكن بينت لا ينادي بضم الضفة الغربية بأكملها. بل، وفقاً لما يسميه “خطة الاستقرار”، هو يطالب فقط بفرض “السيادة الإسرائيلية” في منطقة ج، عبارة عن 60% من الضفة الغربية حيث يسكن قرابة 350 ألف يهودي و80 ألف فلسطيني .
ولا يتطرق حزب كلنا، برئاسة وزير المالية موشيه كحلون، بشكل واضح إلى التسوية مع الفلسطينيين، لكن برنامجه السياسي يطرح أفكاراً تمنع التوصل إلى أيّ تسوية. ويرى هذا الحزب أن على “إسرائيل” أن تعرف وتفرض ترتيبات أمنية في الضفة الغربية بحيث توفر الأمن للإسرائيليين. وبحسب برنامج كلنا فإنه “في أية تسوية مستقبلية، ستحتفظ إسرائيل بالكتل الاستيطانية ولا يُسمح بعودة لاجئين إلى الأراضي الإسرائيلية” و”القدس كانت وما زالت وستبقى عاصمة إسرائيل”. ويبدو أن هذا الحزب يريد الحفاظ على الوضع الراهن، إذ رأى أنه “لا توجد لإسرائيل أية مصلحة لإدارة شؤون السكان الفلسطينيين، وينبغي مساعدة السلطة الفلسطينية في إدارة وازدهار حياة الفلسطينيين في الضفة“.
ويشارك في الحكومة الحالية الحزبان الحريديان شاس ويهود التوراة، والأخير لا ينشر برنامجاً سياسياً ويتبع قرارات حاخاماته. كذلك فإن حزب شاس لا ينشر برنامجاً سياسياً.
يمكن القول إنه في هذه الحكومة يواصل نتنياهو تمسكه باستراتيجية “إدارة الصراع” مع الفلسطينيين بدل حله. هذه الاستراتيجية، التي لا تتيح أيّ تقدم في موضوع الدولة الفلسطينية، اعتقد نتنياهو أنها مجدية له سياسياً وأمنياً وحزبياً وشخصياً، غير أنها انقلبت عليه، برأي معارضيه، وها هو الآن يدفع وحكومته، ومعهم “إسرائيل” كلها، ثمنها، من خلال موجة العمليات التي أفرزتها الانتفاضة الثالثة.
3. الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية:
عادت إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية إلى واجهة المشهد الإسرائيلي، لكن من البوابة الإسرائيلية هذه المرة. فبعد تلميح وتهويل سابق من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بحلها، وتحذيرات أمريكية متكررة من مخاطر انهيارها على المصالح الإسرائيلية، وبعد سياسة عدم الاكتراث بمستقبل السلطة التي اتبعها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والتقليل من جدية التقارير التي تشير إلى إمكانية انهيارها، نُقل موقف مفاجئ عن نتنياهو أشار فيه إلى إمكانية انهيار السلطة وضرورة العمل لمنع ذلك. موقف نتنياهو جاء في اجتماع المجلس الوزاري المصغَّر للشؤون السياسية والأمنية الذي تطرق فيه أيضاً إلى رزمة الخطوات التي يتعين على “إسرائيل” أن تقوم بها، وإلى الصراعات الداخلية الفلسطينية على وراثة أبو مازن .
ويدور الحديث عن سلسلة مناقشات في الموضوع بدأت في نهاية تشرين الثاني/ أكتوبر 2015، في أعقاب فشل زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى المنطقة. حينها حذَّرت المؤسسة الأمنية في توصية رفعتها للقيادة السياسية من أنه في مثل هذا الوضع من شأن السلطة الفلسطينية “أن تنهار، بكل ما ينطوي عليه ذلك من معنى من ناحية أمنية ومدنية”. وقد أوصت المؤسسة الأمنية، المجلس الوزاري، بتبني سياسة رسمية لمنع الانهيار، وليس القول فقط إن “إسرائيل” غير معنية بالانهيار بل اتخاذ بادرات طيبة وخطوات على الأرض تُبعد تحقق مثل هذا السيناريو. وبحسب مصدر إسرائيلي كبير، أخذ نتنياهو بموقف المؤسسة الأمنية، وتبنى سياسة منع الانهيار، كون البديل قد يكون أسوأ. وذكَّر المصدر نفسه، أن نتنياهو عقد في الأسابيع الأخيرة (نهاية سنة 2015) عدة جلسات مع وزير الأمن موشيه يعلون، وكبار القادة الأمنيين، وبعض وزراء المجلس الوزاري المصغر، مثل زئيف ألكين وإسرائيل كاتس، لا يشاركون موقف نتنياهو في أنه يجب منع انهيار السلطة واتخاذ بادرات طيبة على الأرض، بينما لا يؤيد وزير التعليم نفتالي بينت اتخاذ أعمال لتشجيع انهيار السلطة، ولكنه يعارض خطوات مهمة على الأرض تمنع ذلك .
وفي إحدى جلسات المجلس الوزاري المصغر، عُرضت، ضمن أمور أخرى، سيناريوهات حتى لو اتخذت “إسرائيل” بموجبها خطوات على الأرض لتعزيز السلطة يحتمل ألا تتمكن من منع انهيارها، ذلك أن انهيار السلطة من شأنه أن يقع لأسباب داخلية غير متعلقة بـ”إسرائيل”، أو لأسباب قدرة “إسرائيل” القليلة للتأثير عليها. وعلى سبيل المثال، بُحثت إمكانية انهيار السلطة كنتيجة لوفاة الرئيس الفلسطيني محمود عباس. في مثل هذا السيناريو قد ينشب صراع خلافة يؤدي إلى أزمة حادة في السلطة .
4. المعارضة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية:
عند الحديث عن الموالاة والمعارضة الإسرائيلية، لا يمكن الحديث عن تقسيم للساحة الحزبية وفق اعتبارات سياسية تقليدية، كاليسار واليمين، أو على أساس الموقف من قضايا استراتيجية خلافية، من قبيل الموقف من الدولة الفلسطينية مثلاً، إنما المقصود تحديداً هو اعتماد تقسيم يقوم على قاعدة المشاركة في الحكومة من عدمه. فالأحزاب المنضوية ضمن الائتلاف الحكومي يصح عليها تسمية الموالاة، بينما الأحزاب غير المشاركة في الحكومة ينطبق عليها تسمية المعارضة، والأدلة على هذا التقسيم كثيرة، وتكفي الإشارة هنا إلى أن المعارضة الحالية تضم أحزاباً في أقصى اليسار، مثل حركة ميرتس، وأُخرى في أقصى اليمين المتطرف مثل حزب “إسرائيل بيتنا”، برئاسة أفيجدور ليبرمان، مروراً بأحزاب تُصنف نفسها في الوسط السياسي مثل المعسكر الصهيوني يش عتيد (يوجد مستقبل). وحتى أن القائمة الموحدة، التي تضم جميع الأحزاب العربية الممثلة في الكنيست، تدخل أيضاً ضمن إطار المعارضة.
وعليه، التطرق إلى موقف المعارضة الإسرائيلية، بأحزابها الرئيسية، من موضوع الدولة الفلسطينية، يتيح الإضاءة على مواقفها بما يخدم الإطلالة على فرص تحقق هذا المطلب من قبل من يُفترض به أن يكون أو يُقدم بديلاً سلطوياً وسياسياً للحكومة اليمينية الحالية.
أ. المعسكر الصهيوني (تحالف حزبي العمل والحركة):
تقول كتلة المعسكر الصهيوني، وهي تحالف حزبي العمل وحزب الحركة (هتنوعا)، في برنامجها السياسي المنشور في موقعها الإلكتروني إن “تحقيق تسوية سياسية هي مصلحة إسرائيلية من الدرجة الأولى وشرط لضمان مستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية، تتمتع بدعم وتأييد دوليين واسعين. وسيعمل المعسكر الصهيوني من أجل بلورة تسوية سياسية ورسم الحدود الدائمة لدولة إسرائيل… إلى جانب تعريف دولة إسرائيل الذي لا لُبس فيه بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي” .
وأضاف البرنامج السياسي أن “المعسكر الصهيوني سيعمل من أجل استئناف المفاوضات السياسية، في إطار ثنائي، إقليمي ودولي، انطلاقاً من النية للسعي إلى تسوية دائمة مع الفلسطينيين، تستند إلى مبدأ دولتين قوميتين للشعبين”، وأن تسوية كهذه “تستند إلى الحفاظ الشديد على الاحتياجات الأمنية لدولة إسرائيل وإنهاء الصراع الإسرائيلي – العربي“.
ووضع المعسكر الصهيوني شروطاً لتسوية كهذه وهي: “دولة فلسطينية منزوعة السلاح، الحفاظ على الكتل الاستيطانية تحت سيادة إسرائيل، تعزيز القدس ومكانتها كعاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وضمان الحرية الدينية والوصول إلى الأماكن المقدسة لكافة الديانات، إلى جانب الحفاظ على السيادة الإسرائيلية. حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال إقامة دولة فلسطينية وليس في إسرائيل“.
وقال بند آخر إن “المعسكر الصهيوني سيمنع القيام بأي عمل من شأنه المس بصورة جوهرية بإمكانية التوصل إلى تسوية سياسية، بما في ذلك وقف البناء في المستعمرات الواقعة خارج الكتل الاستيطانية، وبمكانة إسرائيل الدولية التي ستقود إلى عزلتها الدولية“.
وتابع البرنامج السياسي للمعسكر الصهيوني أنه “سيعمل من أجل تطوير وتعاون اقتصادي ومدني مع السلطة الفلسطينية، بمساعدة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بهدف تحسين جودة الحياة، والاستقرار الاقتصادي وزيادة استقلالية السلطة الفلسطينية“.
لكن هرتسوغ تراجع عن هذا البرنامج السياسي لكتلته، وأعلن صراحة أن حلّ الدولتين غير قابل للتطبيق في المرحلة الحالية، وانطلق من هذه الفرضية ليطرح رؤيته القائمة على مبدأ الانفصال عن الفلسطينيين، تحت شعار “الانفصال عن أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين في أسرع وقت ممكن”، وذلك في مؤتمر مركز أبحاث الأمن القومي .
خطة هرتسوغ تضمنت الدعوة إلى فصل القرى الفلسطينية في شرقي القدس عن المدينة، وإعادة توحيد القدس “الحقيقية”، كما أسماها، من دون مئات آلاف الفلسطينيين الذين سيكونون في الجانب الثاني من الجدار؛ واستكمال بناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية بشكل يشمل كل الكتل الاستيطانية الكبرى؛ وخطوات لبناء الثقة مع الفلسطينيين تسمح لهم بالتطور على المستوى المدني؛ والإبقاء على وجود الجيش الإسرائيلي غرب نهر الأردن؛ وبعد بضع سنوات، إذا ما كان هدوء، وأمن، يمكن التحدث عما سيأتي، وعقد مؤتمر إقليمي للأمن مع الدول العربية المعتدلة: مصر، والأردن، والسعودية ودول الخليج، كما قال هرتسوغ . خطة هرتسوغ، حظيت بمصادقة مؤتمر حزب العمل، ما جعلها تحظى بمكانة البرنامج السياسي الجديد للحزب .
ب. يش عتيد (يوجد مستقبل):
ينادي الحزب الوسطي لـ”الطلاق” مع الفلسطينيين، أي تنفيذ حلّ دولتين، بعد التوصل إلى اتفاق يتضمن “إجراءات أمنية شديدة وطويلة المدى، من ضمنها نزع السلاح من الضفة الغربية ونزع الأسلحة الاستراتيجية من حركة حماس، على أن تبقى القدس الموحدة والكتل الاستيطانية الكبيرة (من ضمنها أرئيل) تحت سيادة إسرائيلية” .
ولكن لن يتمكن الفلسطينيون وحدهم تنفيذ التنازلات الضرورية لاتفاقية سلام، يقول لابيد. ولهذا على الجامعة العربية لعب دوراً أساسياً في أيّ مفاوضات.
رئيس الحزب يائير لابيد عرض خطته للانفصال التدريجي ودعا “إسرائيل” إلى “الطلاق” من الفلسطينيين. وفي إطار خطته السياسية اقترح لابيد خطوة أحادية الجانب من الانفصال تتم على ثلاث مراحل. الأولى تتضمن إخلاء مناطق فارغة —لا تستدعي إخلاء مستعمرات— وتجميد البناء خارج الكتل الاستيطانية الكبرى. في المرحلة الثانية ينفذ انطواء إلى داخل الكتل الاستيطانية في الوقت الذي تخلى فيه المستعمرات المنعزلة. أما المرحلة الثالثة فتكرس للتعديلات الإقليمية للحدود وتتضمن تبادل للأراضي. بعد ذلك تبدأ المحاولات في المواضيع الجوهرية. وعاد لابيد وصرح بالحاجة الاستراتيجية لـ”إسرائيل” لأن تقرر حدودها مرة واحدة وإلى الأبد .
لابيد أضاف:
لقد وصلت المسيرة السياسية إلى طريق مسدود. في الساحة الدولية نحن نخسر ونعتبر كمن نتحمل الذنب. وعليه، فنحن نريد أن نطبق مبدأ الدولتين وننفصل عن الفلسطينيين. نحن لا نبحث عن حفل زواج مع الفلسطينيين، بل عن اتفاق طلاق. نحن لا يمكننا أن نتحكم بـ 4 مليون فلسطيني سيتضاعف عددهم بعد جيل. إسرائيل هي دولة قوية، ولكن إذا لم ننفصل عن الفلسطينيين، فإننا سنفقد الهوية اليهودية لإسرائيل والتفوق النسبي لنا في المنطقة على حدّ سواء .
ج. “إسرائيل بيتنا“:
بالرغم من صورته كمتطرف بشدة وتحريضه الدائم ضدّ العرب في “إسرائيل” ومناطق السلطة الفلسطينية، رئيس الحزب أفيجدور ليبرمان يدعم حلّ الدولتين بشدة. ولكن خلافاً عن الأحزاب اليسار – وسطية واليسارية، لا يرى “إسرائيل بيتنا” حدود 1967 كأساس للمفاوضات. بل يصر على رسم الحدود بين الدولتين من جديد من أجل الحفاظ على أكبر عدد ممكن من اليهود وأقل عدد ممكن من العرب داخل حدود “إسرائيل” .
يطالب طرح “إسرائيل بيتنا”، “إسرائيل” ضمّ الكتل الاستيطانية المركزية في الضفة الغربية، والتخلي في المقابل عن أراضي تحت “سيادة إسرائيلية” يسكنها العرب لدولة فلسطين المستقبلية. هذه الخطة هي مركز الطرح السياسي للحزب.
وخلافاً للأحزاب اليمينية الأخرى، يعارض “إسرائيل بيتنا” ضمّ الضفة الغربية، ويرى بأن هذه الخطوة ستؤدي الى “دولة ثنائية القومية كلاسيكية”، قال ليبرمان، متهماً البيت اليهودي بخطة سوف تؤدي إلى “دولة أبارتهايد” .
5. الرأي العام والدولة الفلسطينية:
في ظلّ الجمود في المفاوضات السياسية بين “إسرائيل” والفلسطينيين، والتوسع الذي لا يتوقف للمشروع الاستيطاني في الضفة وموجات العمليات الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية التي تتفاوت حدتها من حين لآخر، تدعي الكثير من الأصوات في “إسرائيل”، في السنوات الأخيرة، بأن الفرصة التاريخية التي كان بالإمكان التوصل خلالها إلى حلّ وفق صيغة دولتين لشعبين قد ضاعت. والآن، ثمة من يقول إنه إن تمّ الاتفاق على حلّ فلن يكون مناص من أن يقوم هذا الحل على مبدأ دولة واحدة لشعبين.
ولكن ماذا عن الرأي العام الإسرائيلي؟ لهذه الغاية بالتحديد، قامت جامعة تل أبيب، بالتعاون مع المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، بمبادرة مؤشر السلام، والذي يقوم، ومنذ حزيران/ يونيو 1994، باستطلاع مواقف الإسرائيليين شهرياً (من خلال عينات قطرية ممثلة للسكان ممن هم فوق سنّ الـ 18 عاماً) من قضايا مختلفة متعلقة بالنزاع، وطرق التعامل معه وكذلك الحلول الممكنة له.
تبيِّن المعطيات أن غالبية اليهود في “إسرائيل” يؤيدون المفاوضات مع الفلسطينيين، فإن ما بين 54–69% من اليهود يؤيدون المفاوضات. ويصبح هذا الرقم أشد إثارة للاهتمام إن علمنا أن نسبة اليهود الذين وصفوا أنفسهم بأنهم ينتمون إلى اليسار السياسي، في جميع استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة، لم تتجاوز 13–17% فقط. وهذا يعني أن الكثيرين ممن ينظرون إلى أنفسهم على أنهم من الوسط أو اليمين، يؤيدون هم أيضاً استئناف المفاوضات. وعلى الرغم من ذلك فإنه وبالمقارنة مع التأييد الواسع نسبياً للمفاوضات مع الفلسطينيين، فإن الاعتقاد بأن المفاوضات ستُفضي إلى اتفاق سلام في المستقبل المنظور أقل بكثير. إذ يعتقد ما نسبته 26–44% من اليهود في “إسرائيل” بأن السلام سيتحقق، ولكن هذه النسبة في انخفاض مطرد في السنوات الأخيرة . وبناءً على ذلك فإن هناك أغلبية مؤيدة للمفاوضات، ولكنها لا تصوّت بالضرورة لأحزاب اليسار، ولكن هناك القليل ممن يعتقدون بأن المفاوضات ستؤتي ثماراً في المستقبل المنظور، ويشمل ذلك من يصفون أنفسهم باليساريين.
وعند التعمق في هذه البيانات يتبين أن النتائج أقل مفاجأة مما كانت عليه للوهلة الأولى. فمن تحليل لنسبة التأييد لإجراء مفاوضات في أوساط ناخبي الأحزاب المختلفة في الانتخابات الأخيرة للكنيست نجد أن نسبة التأييد الأعلى هي في أوساط ناخبي ميرتس (97%) والمعسكر الصهيوني (91%)؛ وأن النسبة الأقل هي في أوساط ناخبي يهود التوراة (15%)، وشاس (21%) والبيت اليهودي (25%)؛ وأن النسبة متفاوتة في أوساط ناخبي الأحزاب الأخرى. أما فيما يتعلق بالسؤال حول إن كانت المفاوضات ستؤتي ثماراً في المستقبل المنظور، فقد أجاب 62% من ناخبي ميرتس و51% من ناخبي المعسكر الصهيوني بالإيجاب. أما في أسفل هرم الثقة في نتائج المفاوضات مع الفلسطينيين فهناك ناخبو يهود التوراة بنسبة صفر في المئة، ومن ثم ناخبو البيت اليهودي، و”إسرائيل بيتنا”، بنسبة 4% فقط ممن قالوا إن المفاوضات مع الفلسطينيين ستفضي إلى نتائج .
لكن هل مات حلّ الدولتين، كما يصرح كبار المسؤولين في اليمين الإسرائيلي، وهل هذا ما يراه الجمهور اليهودي في “إسرائيل”؟ استطلاع رأي أُجري بهذا الشأن في آب/ أغسطس 2013، ومرة أخرى في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، مع بدء موجة العمليات الحالية، يقدم الإجابة. فقد أظهرت النتائج قبل سنتين أن غالبية اليهود، 54%، يعتقدون أن حلّ الدولتين لم يمت بعد. كما أظهر الاستطلاع الأخير أن 50% لا يعتقدون أن حلّ الدولتين قد مات، مقارنة بـ 46% ممن قالوا إن هذا الحل قد أصبح “وراءنا”. تقسيم المعطيات الأخيرة من سنة 2015 حسب الأحزاب يُظهر أن النسبة الأعلى ممن قالوا إن هذا الحال قد ولّى دون رجعة هم من ناخبي البيت اليهودي، وذلك بنسبة 67%، ومن ناخبي الليكود بنسبة 63% .
غير أن استطلاعاً للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، ضمن مؤشر السلام الشهري، بعد اندلاع موجة العمليات الفلسطينية، أظهر أن فكرة الدولتين لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ماتت. 57.1% من الإسرائيليين قالوا إن فكرة حلّ الدولتين ماتت، مقابل 46.1% منهم أعربوا عن تأييدهم لها .
وعلى النقيض من موقف قادة اليمين، فإن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، كرر مؤخراً التزامه بحل الدولتين وذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخلال اجتماعه مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في 10/11/2015. غير أن 61.5% من المُستطلعة آراؤهم في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 لا يثقون بتصريح نتنياهو، في الأمم المتحدة، ويعتقدون بأنه غير ملتزم فعلاً بهذا الحل. ولا توجد أغلبية لمن يعتقدون بأن نتنياهو ملتزم فعلاً بحل الدولتين سوى في أوساط ناخبي حزب الليكود، أي حزب رئيس الحكومة، وذلك بنسبة 57% .
6. خلاصة:
تطورات المشهد الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية في سنة 2015، وتحديداً مسألة الدولة الفلسطينية، تُظهر بوضوح تبلور واقع حكومي – حزبي – شعبي، لم يسهم أبداً في الدفع قدماً بمسيرة التسوية مع السلطة الفلسطينية بما يتيح فرصاً جدية وحقيقة لقيام دولة فلسطينية، لا بل إن الذي حصل على أرض الواقع هو أن الدولة الفلسطينية بدت بعيدة المنال في سنة 2015 أكثر من أيّ وقت مضى منذ أعلن نتنياهو تبنيه لها في حزيران/ يونيو 2009، في خطاب بار إيلان الشهير. فلا الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية في وارد السير قدماً في حل الدولتين هذا، ولا المعارضة ترى إمكانية حقيقية لتحققه، فيما أغلبية الرأي العام الإسرائيلي تعتقد أن فكرة الدولة الفلسطينية ماتت. وإذا كانت صورة الوضع على هذه الحال بشأن مستقبل الدولة الفلسطينية في 2015، فلا يبدو أنها ستختلف في شيء في سنة 2016.
ثانياً: “إسرائيل” والانتفاضة:
اندلاع موجة العمليات الفلسطينية في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2015، فجَّر معه سجالاً ونقاشاً عاماً في “إسرائيل” حول جملة من المسائل والقضايا المرتبطة بحقيقة ما يحصل، لجهة التوصيف، والدوافع والأسباب، وسبل التصدي لها، وطبيعة الإجراءات التي يتعين اتخاذها لهذه الغاية، والموقف من أداء الحكومة وتحديد الشخصيات الأنسب لتولي زمام الأمور في هذه المواجهة، إضافة إلى دور السلطة الفلسطينية في كل ما يحصل.
1. التوصيف الإسرائيلي:
لم يتفق الإسرائيليون على تسمية واحدة للانتفاضة الفلسطينية الجارية منذ خمسة أشهر تقريباً في الأراضي المحتلة، سواء في الضفة الغربية وشرقي القدس، أو داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، وصولاً إلى المواجهات العنيفة التي شهدتها المناطق الحدودية في قطاع غزة، لكن ظهر اتفاق بين المستويين السياسي والعسكري – الأمني، على عدم وصف ما يحصل بالانتفاضة.
تسميات عدة أطلقت في “إسرائيل”، من “موجة إرهاب”، إلى “أعمال عنف”، و “هبَّة”، وصولاً إلى وصفها من جانب إعلاميين بارزين بـ”الانتفاضة”. غير أن الصفة العامة التي ميزت موقف المؤسستين السياسية والأمنية، وكذلك أطراف المعارضة الرئيسية، هي اعتماد تسمية “موجة إرهاب“.
أ. المستوى السياسي:
المستوى السياسي، وعلى رأسه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، يرى في الأحداث الجارية “موجة إرهاب وعنف”، سببها الأساسي التحريض الفلسطيني المُتعدد الجهات .
ب. المؤسسة الأمنية:
من جانبها، لا تعدُّ المؤسسة الأمنية الأحداث الجارية “انتفاضة”، وتقول بأنها “أعمال إرهابية”. فعلى الرغم من استمرار العمليات الفلسطينية (طعن، ودهس، وإطلاق نار، ورشق حجارة) والعدد الكبير من المُصابين فإنَّ أسرة الاستخبارات الإسرائيلية لا تعدّها “انتفاضة” . خلافاً لما نشأ في مرحلة سابقة في الانتفاضتين السابقتين في سنة 1987 وسنة 2000، لا تبدو بعد يد موجِهة لقيادة رائدة تقود معظم خطوات الفلسطينيين من خلف الكواليس؛ وعدد المشاركين في الأحداث، باستثناء الشبان راشقي الحجارة وعمليات الطعن بالسكاكين، منخفض جداً مقارنة بعدد المشاركين في الانتفاضتين السابقتين . ومع ذلك، مع استمرار الانتفاضة لوحظ تغيير في التوصيف العسكري الإسرائيلي لما يحصل، والانتقال من الحديث عن موجة “إرهاب” أو عمليات، إلى الحديث عن “انتفاضة محدودة”، قد تستمر طويلاً، بحسب ما قاله ضابط رفيع المستوى في الجيش الإسرائيلي للمراسلين العسكريين .
ووزير الأمن، موشيه يعلون، تبنَّى تقديرات المؤسسة الأمنية، معتبراً أن “موجة الإرهاب” الحالية ليست “انتفاضة” . وعلى حدّ قوله، “نحن لا نرى هنا جمهور فلسطيني في الشارع. يوجد هنا موجة إرهاب، حتى السلطة تسميها “هبة” وليس انتفاضة. هذا ليس شيئاً عفوياً، وكما أسلفنا، فإن الجمهور الفلسطيني لا يخرج إلى الشارع بجموعه“.
ج. المعارضة الإسرائيلية:
المعارضة الإسرائيلية، وعلى رأسها المعسكر الصهيوني، برئاسة إسحق هرتسوغ خالف وجهة نظر الحكومة لجهة وصفه ما يجري بأنها “موجة إرهاب”. موقف هرتسوغ تطور مع الوقت من التحذير من أن “إسرائيل” تقف على عتبة انتفاضة، وصولاً إلى إعلانه الصريح بأن ما يحصل انتفاضة بكل معنى الكلمة، عندما حذر في مؤتمر لمعهد بحوث الأمن القومي، عُقد في تل أبيب في 19/1/2016، قائلاً: “نحن في ذروة الانتفاضة الثالثة، وإذا واصلنا التنكر للحقيقة، فمن شأن هذه أن تصبح انتفاضة أكثر وحشية من سابقتيها، انتفاضة بروح داعش“.
د. الإعلام الإسرائيلي:
هناك عدة تسميات اعتمدها المحللون والمعلقون الإسرائيليون. بعضهم أطلق على الأحداث الجارية “موجة إرهاب”، وآخرون قالوا “في الطريق نحو انتفاضة ثالثة”، والبعض الثالث جزم بأن ما يحدث هو “انتفاضة ثالثة”، قائلين إنه من المهم أن نسميها باسمها لأن عدم القيام ذلك يسمح للجهازين السياسي والعسكري في “إسرائيل” بالتهرَّب من المسؤولية.
2. الخصائص والمميزات:
اتفقت الجهات المهنية في “إسرائيل”، وخصوصاً الأمنية، على أن الطابع العام الذي يميز العمليات الفلسطينية (طعن، ودهس، وإطلاق نار) هو طابع فردي غير منظَّم، وشاع مصطلح “الذئاب المنفردة” لوصف طابع العمليات وإن شذّ بعضها عن هذا التوصيف.
وفي هذا السياق، يقول وزير الأمن موشيه يعلون، إن العمليات هي بالأساس عمليات أفراد وليس عمليات شبكة منظَّمة من تنظيمات “الإرهاب”، لأن شبكات “الإرهاب” تعالجها “إسرائيل” منذ فترة طويلة، وبعضاً من عدم قدرة “منظمات الإرهاب” على تنفيذ العمليات ينبع من أننا يمكننا أن نعتقلهم في كل مكان كما قال . وأشار يعلون إلى أن “موجة الإرهاب تُغذي نفسها، وتوجد هنا مسألة محاكاة وتقليد“.
ويشير استعراض لجهاز الأمن العام (الشاباك) صدر في وثيقة في 10/11/2015، إلى أن منفذي العمليات هم من الشباب، ولا يعملون بموجب فكرة مرتَّبة أو قيادة منظمة، بل يحملون طابعاً عفوياً وشعبياً، بدايته تحريض ونشر شائعات كاذبة عن محاولة إسرائيلية للمسّ بالمسجد الأقصى.
وجاء في الوثيقة أن “الشباب يعيشون في الشبكة، ويتغذون من المعلومات التي تنقل عبر الإنترنت، والتي تعظّم الحجة الفلسطينية التي تقول إن المُنفذين للعمليات هم ضحايا “العدوان الإسرائيلي” وأنهم عملياً “أُعدموا” .
مع ذلك لا تنجح هذه العمليات بعد في هذه المرحلة في جرّ جمهور واسع في الضفة الغربية. كما أن بعض الميول المُقلقة التي ظهرت في بداية المواجهة مثل انتقالها إلى العرب في الداخل والتصعيد على الحدود في قطاع غزة، توقَّفت أو تراجعت حالياً .
بالمقابل، تشير شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي (أمان) إلى أن هناك مجموعتين حاسمتين خارج إطار جولة التصعيد الحالية: الأولى الجمهور الفلسطيني، والثانية تنظيم فتح.
فالجمهور الفلسطيني بحسب أمان لم ينضم بصورة واسعة إلى حركات الاحتجاج، وأن ذلك يعود إلى أن نسيج الحياة للفلسطينيين لم يتضرر حتى الآن، وفي حال حدوث ذلك، عبر عودة الحواجز وإلغاء إجازات التنقل في الضفة، يمكن أن يُصار إلى “تسريع انضمام الجمهور الفلسطيني إلى التظاهرات“.
ولجهة التنظيم، فهم “مسلحو مخيمات اللاجئين الذين بحوزتهم كميات كبيرة من السلاح”، ناهيك عن أن قسماً كبيراً منهم يعمل في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. وفي حال انضمام هؤلاء إلى دائرة التصعيد “سيجري تطرَّف نوعي يؤدي إلى آثار جوهرية على الطرفين“.
ما دامت هاتان المجموعتان خارج إطار هذه الجولة، ما يزال التصعيد الحالي تحت السيطرة نسبياً وفق أمان .
3. الأسباب والعوامل:
كشفت مواقف وتصريحات وتقديرات صنَّاع القرار في “إسرائيل”، تبايناً واضحاً بين القيادتين السياسية والأمنية حول الأسباب والدوافع التي تقف خلف موجة التصعيد المُتواصلة.
أ. موقف نتنياهو والحكومة:
القيادة السياسية، وعلى رأسها نتنياهو، لا تعترف بأسباب سياسية واقتصادية دافعة للانتفاضة الحالية، وإنما ترى أن السبب الرئيسي لما يجري هو التحريض. فموقف نتنياهو، الذي يكرره في كل مناسبة يفيد أن ما يحصل “سببه التحريض الأرعن والكاذب الذي تُمارسه حركة حماس، والسلطة الفلسطينيّة، وعددٍ من دول المنطقة، وأيضاً الحركة الإسلامية في إسرائيل – الجناح الشمالي، بقيادة الشيخ رائد صلاح” . نتنياهو أضاف “يقولون لنا هذا بسبب الإحباط —هذا ليس بسبب وجود أفق سياسي ولا بسبب غياب الأفق السياسي— إنه بسبب الرغبة في التخلص من دولة إسرائيل. الإحباط هو في أننا هنا، وأن دولة إسرائيل هي هنا”. وعلى حدّ قول نتنياهو، فإن “الإرهاب ينبع من الرغبة في إبادتنا. هذا هو دافعه في أيامنا هذه أيضاً” .
يعلون أيضاً يرى أن السبب الأساسي لما يحصل، هو التحريض مُنفلت العقال الذي تقوم به الحركة الإسلامية، والسلطة الفلسطينية .
ب. تقديرات المؤسسة الأمنية:
بخلاف الموقف السياسي الذي يتبناه نتنياهو، ترى المؤسسة الأمنية وجود أسباب أُخرى رئيسية لاندلاع الانتفاضة. فرئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، عدد أسباب الانتفاضة من وجهة نظره فقال في مؤتمر عُقد في مركز هرتسليا (9/2/2016) إن “هناك ثلاثة أسباب مركزية للتصعيد: لا يوجد استقرار، تراجع مكانة القيادة الفلسطينية، وواقع مدني اقتصادي صعب“.
جهاز الأمن العام (الشاباك)، يرى أن دافع منفذي العمليات يقوم على أساس “إحساس بالظلم الوطني، الاقتصادي، والشخصي”، إذ إنه بالنسبة لبعض منفذي العمليات، فإنَّ العملية تسمح بالهروب من واقع باعث على اليأس لا يمكن برأيهم تغييره .
وفي السياق ذاته، حدد رئيس شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي (أمان)، اللواء هيرتسي هليفي، خلال إحدى جلسات الحكومة الأسبوعية التي صنِّفت “سرية للغاية”، والتي عقدت في 1/11/2015، حدد عدداً من الأسباب التي تقف خلف موجة العمليات :
• التوتر ومحاولات “إسرائيل” خرق الوضع الراهن في الحرم القدسي.
• العملية ضدّ عائلة دوابشة.
• إحساس اليأس والإحباط لدى الجمهور الفلسطيني بغياب الأفق السياسي.
• وهناك عوامل أخرى أثَّرت في قسم من الشبان الذين نفذوا العمليات، كان من بينها الحوار على الشبكات الاجتماعية، ومشاهدة الأفلام التي وثَّقت لعمليات أخرى.
أقوال هليفي تُمثل، حسب تقارير إعلامية، المواقف السائدة التي تعرضها المؤسسة الأمنية على المجلس الوزاري المصغَّر للشؤون الأمنية والسياسية منذ بدأ التصعيد. ويتصدَّر رئيس الأركان غادي آيزنكوت وكبار رجالات هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي خطاً “حمائمياً” و”معتدلاً” أكثر بكثير من خطّ وزراء الحكومة، حيث يشددون على الحاجة لمواصلة التنسيق الوثيق قدر الإمكان مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأجهزة السلطة الأمنية .
وتشير التقارير الإسرائيلية، إلى أن أقوال هليفي، خلال الجلسة الحكومية استفزت بعض الوزراء، وعلى رأسهم وزير الاستيعاب الليكودي، زئيف ألكين، الذي قال: “حديث هليفي يثير الانطباع كأن إسرائيل هي المُذنبة لا التحريض، يجب قول الحقيقة في أن موجة الإرهاب اندلعت بسبب تحريض كاذب من جهات فلسطينية وغيرها… حين يكون هذا هو الموقف الإسرائيلي (أقوال هليفي)، فما العجب في أن بعد ذلك يصعب شرحه في خارج البلاد” .
وقد تطوَّر النقاش في الموضوع إلى تراشق للكلام شارك فيه بعض الوزراء. وأثار الحدث عدم ارتياح في أوساط بعض الوزراء، وكذلك في قيادة الجيش الإسرائيلي، التي أوضحت مصادرها تعقيباً على أقوال ألكين، أن موقف الجيش بالنسبة لدور أبو مازن، لم يتغير، “أبو مازن لا يحرض ولا يشجع الإرهاب بل العكس، هو يعيش بين الواقع على الأرض وبين كونه رئيس السلطة الذي هدفه الأساس هو البقاء السياسي. ولهذا يجب التمييز بين أقواله للعالم وبين أعماله على الأرض” .
4. النظرة الإسرائيلية إلى دور السلطة الفلسطينية:
على غرار التباين بين المؤسستين السياسية والأمنية حول أسباب اندلاع (الانتفاضة الفلسطينية)، برز تباين جوهري آخر بين المؤسستين حيال الدور الذي لعبته السلطة الفلسطينية في هذه الأحداث.
موقف كل من نتنياهو ووزرائه، لم يخرج عن دائرة تحميل السلطة الفلسطينية، ورئيسها محمود عباس، مسؤولية التحريض المتواصل ضدّ “إسرائيل”، وتحميله مسؤولية ما يجري في الضفة والقدس. وقد صرَّح نتنياهو، مراراً بأنه يجب على المجتمع الدولي مطالبة أبو مازن، “بالكف عن التحريض على الإرهاب وترويج الأكاذيب، لا سيّما حيال المسجد الأقصى” .
بالمقابل، تشدد المؤسسة الأمنية على الدور الإيجابي الذي تلعبه السلطة الفلسطينية لاحتواء موجة التصعيد، وتؤكد أن السلطة تؤدي دوراً في التهدئة، وأنه ما يزال بالإمكان الرهان عليها للعودة إلى الهدوء. وتؤكد المؤسسة الأمنية استمرار التنسيق الأمني بين “إسرائيل” والسلطة، وإنها تلحظ أن عباس يحاول تهدئة الأوضاع وخفض ألسنة اللهب” .
وبالرغم من ذلك، لفتت الاستخبارات العسكرية (أمان) إلى أن الاتجاه الحالي مقلق، لجهة تضرّر منظومة العلاقات بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية على الرغم من الدور الذي لعبته الأخيرة في خفض ألسنة اللهب، كما أن غياب المبادرة السياسية أدى إلى ضعف عباس، في الأوساط الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تقويض السلطة التي هي عامل يمنع نشوب انتفاضة ثالثة . ويقدِّرون في أمان أن أبو مازن ما زال متمسكاً بالصراع غير العنيف ضدّ “إسرائيل”، مع أنه يُسلِّم بحقيقة أن المسار السياسي غير قابل للتنفيذ في ظلّ القيادة الإسرائيلية الحالية.
وبتقدير الاستخبارات، فإن قيادة حماس في قطاع غزة تواصل التحفظ من فتح جبهة جديدة حيال “إسرائيل” في القطاع، لكنها تواصل تشجيع العمليات من الضفة بكل الوسائل وتحاول تنظيم عمليات إطلاق نار، وعبوات ناسفة، وعمليات انتحارية. ولكن نجاحها حتى الآن طفيف، والأمر يُعزى للضربة الشديدة للشبكات العسكرية للمنظمة في الضفة في السنوات السابقة .
5. الخلافات الداخلية حول سبل المواجهة:
اضطربت الحلبة الحزبية في “إسرائيل” على وقع موجة العمليات الفلسطينية. فمن جهة اختلفت أحزاب الائتلاف حول طريقة التعاطي الحكومي مع موجة العمليات الفلسطينية، ومن جهة ثانية شنّت المعارضة هجوماً لاذعاً على نتنياهو وحكومته بتهمة الفشل في تحقيق الأمن. وبين هذا وذاك لم يسلم نتنياهو من هجمات قاسية من قلب معسكره السياسي، حزب البيت اليهودي شريكه في الائتلاف، ومن داخل حزب الليكود.
الخلاف داخل الحكومة، حول السبل الأنجع لإيقاف موجة العمليات، ارتكز بين معسكريْن؛ الأول بقيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومعه وزير الأمن والأجهزة الأمنية من ضمنها الجيش، وسعى هذا المعسكر إلى تفادي تصعيد الوضع مع الفلسطينيين، وعدم الذهاب بعيداً في الإجراءات “العقابية” ضدهم. والمُعسكر الأخر كان بقيادة حزب البيت اليهودي ومعه جزء من وزراء ومسؤولي حزب الليكود وقادة المستوطنين، ودعا إلى استخدام المزيد من القوة، وحتى التهديد بعملية عسكرية واسعة، على غرار “السوق الواقي”، وطالب بتوسيع البناء في المستعمرات “كردٍّ” على موجة العمليات الفلسطينية .
ودار سجال بين الفريقيْن حول نجاعة الإجراءات المُتّخذة من قبل نتنياهو لتهدئة اللهيب الأمني. فاتهم حزب البيت اليهودي نتنياهو بـ”تقييّد أيدي الجنود” وعدم السماح بـ”ردّ حقيقي للقادة”، وطالب بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وإعادة محرّري صفقة شاليط إلى السجون، وردت جهات سياسية وأمنية على هذه الاتهامات بأن الجيش غير مقيّد، وقال رئيس هيئة الأركان العامة: “لا قيود على الجيش، أحصل على كلّ الدعم المطلوب من رئيس الحكومة” .
وفي موازاة مطالب رئيس الحزب، نفتالي بينت، لم يتوقّف وزراء الحزب عن مهاجمة سياسة الحكومة وانتقاد نتنياهو على ما يرونه تراخٍ في معاقبة الفلسطينيين كما دعوة نتنياهو الرئيس الفلسطيني محمود عباس للعودة إلى طاولة المفاوضات، الأمر الذي جرّ سجالاً بين حزبَيْ البيت اليهودي والليكود، ودخل نتنياهو على خطّ السجال ملمحاً إلى إمكانية إقالة الوزراء الذي ينتقدون الحكومة من داخلها .
وأشارت تقارير إعلامية إلى أنهم في حزب البيت اليهودي يعمّقون المواجهة مع نتنياهو لثلاثة أسباب: الحاجة للتعبير عن خيبة جمهور المستوطنين؛ والخشية من تفلّت ناخبي البيت اليهودي إلى خيارات بديلة في اليمين على رأسها حزب “إسرائيل بيتنا”؛ والاستعداد لإمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية عبر ضمّ المعسكر الصهيوني إلى ائتلاف طارئ على خلفية التصعيد، على حساب البيت اليهودي .
ولم يقتصر انتقاد نتنياهو على بعض شركائه في الائتلاف، بل وصل إلى داخل حزبه ومؤيديه من المستوطنين ونشطاء الليكود، ودخل حزب الليكود في حالة إرباك انعكست في تناقض تصريحات مسؤولين فيه مع توجهات نتنياهو نفسه. وأقام قادة من المستوطنين اعتصاماً احتجاجياً أمام منزل نتنياهو في القدس، اعتصام زاره عدد من وزراء الحكومة وحزب الليكود، وأدلوا بتصريحات كانت موضع خلاف، وخارجة عن توجهات نتنياهو .
المعارضة الإسرائيلية حرصت أيضاً على استغلال الفرصة واتهمت نتنياهو بالفشل في تحقيق الأمن للإسرائيليين، وفقدان السيطرة والردع، وحمّلته مسؤولية تدهوّر الوضع الأمني وغياب الأفق السياسي. وفي السياق، صدرت مطالبات باستقالة نتنياهو، وتحذيرات من أن “إسرائيل” على أبواب انتفاضة ثالثة، وأن على نتنياهو استغلال “الفرصة الإقليمية المتاحة” لتحقيق تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني“.
وفي موازاة الخلاف السياسي حول سبل التصدّي لموجة العمليات، برزت هوة كبيرة بين المؤسسة الأمنية والمستوى السياسي. وفيما يوصي كبار الضباط في المؤسسة الأمنية بعدم الضغط أكثر على الفلسطينيين، تفادياً لإشعال انتفاضة ثالثة، ودخول التنظيمات الفلسطينية المسلّحة على الخطّ، يُطالب أعضاء في المجلس الوزاري المصغّر بشنّ عملية عسكرية واسعة النطاق (سور واقي 2) ضدّ البُنى التحتية “الإرهابية” في الضفة الغربية. وقام الجيش الإسرائيلي بتمرير بعض التوصيات إلى الحكومة والتي تَعِدُ الفلسطينيين بتسهيلات في حال حافظوا على الأمن والهدوء، ومن بينها تصريح بتزويد أجهزة الأمن الفلسطينية بالأسلحة، لكي تحافظ على الأمن والنظام في مُخيّمات اللاجئين، وإطلاق سراح السُجناء، وإعطاء عدد أكبر من تصاريح العمل للفلسطينيين، وتسهيلات اقتصادية فيما يخص نقل البضائع .
إلا أن هذه التوصيات فاقمت الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري أكثر. وأعربت محافل سياسية رفيعة عن استيائها وغضبها من رزمة توصيات الجيش الأخيرة، وأشارت إلى أنها تدل على إدارة غير سليمة. وقالت المحافل إن رئيس الحكومة ووزير الأمن لا ينويان تقديم أيّ تسهيلات أو بادرات حسنة للفلسطينيين.
6. الانتفاضة والرأي العام الإسرائيلي:
حظيت موجة العمليات الفلسطينية بمواكبة من قبل استطلاعات الرأي التي حاولت فهم اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي – اليهودي حول جملة من الأسئلة والإشكاليات التي أنتجتها الأوضاع الأمنية المتصاعدة. وطغى الموضوع الأمني على الجانب الأكبر من اهتمام الاستطلاعات، كما بدا السؤال حول الشخصية الأنسب لمعاجلة الوضع الأمني هو الأكثر إلحاحاً. وترافقت موجة العمليات مع انخفاض في شعبية رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وعدم رضى عن أدائه في المجال الأمني.
وبحسب استطلاع للقناة العاشرة نُشر الجمعة في 9/10/2015، أشارت أغلبية 69% من الجمهور اليهودي في “إسرائيل” إلى عدم رضاها عن أداء نتنياهو. وحول مسألة من المذنب في الوضع الأمني الصعب، اتهم 55% من الجمهور اليهودي رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن بالمسؤولية عن الوضع فيما اتهم 24% منهم نتنياهو.
أرقام مماثلة أظهرها استطلاع بثته القناة الثانية مساء 9/10/2015 أظهر أن 73% من المُستطلَعين غيرُ راضين عن أداء نتنياهو في الأزمة الأمنية الحالية. وحول الشخصية الأكثر ملاءمةً لمعالجة مشاكل الأمن تراجع نتنياهو إلى المرتبة الثالثة بعد ليبرمان وبينت.
وجاء ترتيب الشخصيات الأكثر ملاءمةً لمعالجة مشاكل الأمن والعمليات، وفق استطلاع القناة الثانية، كالتالي:
• أفيجدور ليبرمان 22%.
• نفتالي بينت 17%.
• بنيامين نتنياهو 15%.
• جابي أشكنازي 10%.
• بوغي هرتسوغ 5%.
• يائير لابيد 4%.
وأظهر استطلاع نشرته صحيفة معاريف في 16/10/2015 أن 67% من اليهود غير راضين من طريقة تعامل نتنياهو مع الانتفاضة الفلسطينية الحالية. وأن 66% من اليهود في “إسرائيل” يؤيدون الانسحاب من الأحياء الفلسطينية في شرقي القدس، بينما عارض ذلك 29%. غير أن نسبة التأييد هذه ارتفعت إلى 70% بعد أربعة أشهر تقريباً على بدء الانتفاضة، كما نشرته صحيفة معاريف.
وأظهر استطلاعان للرأي العام، نُشرا في موقع والا الإلكتروني، وصحيفة يديعوت أحرونوت، في 1/1/2016، أن أغلبية الإسرائيليين فقدت الشعور بالأمن في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية، وأن شعبية حزب الليكود بزعامة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، قد تراجعت بشكل ملموس.
وبحسب استطلاع والا، فإن 61% من الإسرائيليين يشعرون بأن مستوى أمنهم تضرر أو تضرر جداً منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية الحالية، بينما قال 29% إن مستوى أمنهم لم يتضرر كثيراً، وفقط 9% رأوا أن مستوى أمنهم لم يتضرر أبداً. ورأى 71% أن الحكومة الإسرائيلية لم تتعامل مع التصعيد الوضع الأمني كما هو متوقع منها، بينما قال 19% إنها تتعامل مع الوضع بالشكل الملائم.
وأظهر استطلاع يديعوت أحرونوت تراجع شعبية حزب الليكود، فيما لو جرت الانتخابات العامة الآن، من 30 مقعداً في الكنيست حالياً إلى 25 مقعداً. وفي كلا الحالتين، تنبأ الاستطلاع بارتفاع قوة حزب يش عتيد (يوجد مستقبل) برئاسة يائير لابيد من 11 مقعداً إلى 18 مقعداً، وستتراجع قوة كتلة “المعسكر الصهيوني”، برئاسة إسحاق هرتسوغ، من 24 مقعداً إلى 18 مقعداً. بينما ستحصل كتلة البيت اليهودي على 11–12 مقعداً، ولديها 8 مقاعد اليوم، وحزب “إسرائيل بيتنا” على 8 مقاعد، ولديه 6 مقاعد حالياً.
وفي ضوء استمرار عمليات الانتفاضة وتطورها، أظهر استطلاع نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” في 5/2/2016، تأييد 62% من الذين شاركوا في الاستطلاع، فكرة الانسحاب من قرى فلسطينية في شرقي القدس من أجل الحفاظ على أغلبية يهودية في القدس، وعارض ذلك 38%.
وقال 65% انهم يوافقون على أنه “قبل التوصل إلى اتفاق دائم ينبغي إحداث فصل بين الشعبين بواسطة جدار فصل”، بينما قال 35% إنهم لا يوافقون على ذلك.
ووفقا للاستطلاع، فإن 75% يوافقون على “بذل جهد لعقد مؤتمر أمني إقليمي بمشاركة الدول العربية المعتدلة” بينما عارض 25% هذه الفكرة.
7. الخلاصة:
في إيجاز القراءة الإسرائيلية للانتفاضة الفلسطينية، يمكن القول إن حال الإرباك والتباين والقلق والضياع، كانت السمات البارزة التي طغت على المقاربة الإسرائيلية للحراك الفلسطيني المنتفض، وعلى سبل التصدي له. فالتعاطي الإسرائيلي على أعلى المستويات بدا مُربكا في استيعاب حقيقة ما يحدث وفي تشخيص أسبابه وكيفية مواجهته. هذا الإرباك، تطور في كثير من المواضع والحالات ليتحول إلى خلاف وتباين داخل أعضاء الحكومة أحيانا، وبين الحكومة أو المستوى السياسي، وبين الجيش والشاباك، أو المستوى العسكري – الأمني، عند مقاربة المسائل الحساسة والإشكالية.
ففي مقابل التوافق والتقارب في النظرة إلى توصيف ما يحدث، وفي موازاة الاتفاق على اعتبار ما يحصل ظاهرة غير منظمة تقوم على المبادرة الفردية، برز الإرباك والتباين بشكل رئيس في تشخيص الأسباب والعوامل التي أدت إلى اندلاعها، وفي تحديد طبيعة الدور الذي تؤديه السلطة الفلسطينية ورئيسها، محمود عباس، في تشجيع أو كبح الانتفاضة. هذه الخلافات وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بين وزراء الحكومة أحيانا، وبين الوزراء وكبار الضباط في الجيش والشاباك أحيانا أُخرى.
إلى جانب الإرباك والخلافات، كان القلق سيد الموقف، والقاسم المشترك بين المكونات والمستويات الإسرائيلية كافة، من سياسية وعسكرية وإعلامية وشعبية. وإذا كانت اعتبارات القلق تختلف بين مستوى وآخر، إلا أنها التقت عند القلق من تفاقم الأمور، وخروجها عن السيطرة، وتطورها نحو الأسوأ، وهذا ما تمَّ التعبير عنه في استطلاعات الرأي التي أُجريت وأظهرت استياءً شعبياً من أداء الحكومة نتيجة تدهور الوضع الأمني، ومن ارتفاع شعبية رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيجدور ليبرمان، باعتباره المسؤول الأكثر ملاءمة لمواجهة الانتفاضة، ما يعني أن الجمهور الإسرائيلي، يترجم قلقه دعوات إلى ممارسة قدر أكبر من البطش والعنف بحق الفلسطينيين، لأن طروحات ليبرمان كانت تنحو في هذا الاتجاه.
حال الإرباك والخلافات والقلق التي أفرزتها الانتفاضة في المشهد الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة من سنة 2015، يتوقع لها أن تستمر، وربما بوتيرة أشد وأكثر تعقيدا في سنة 2016، نظرا لكون أسباب اندلاع الانتفاضة ومبرراتها باقية في ظل سياسة الحكومة الحالية التي من شبه المؤكد أنها ستُنهي القسم الأكبر من عامها الجاري على الأقل، وفي ظل عدم وجود تصور واحد وواضح لدى المستويين السياسي والعسكري، حول مآل الأمور، لجهة “استراتيجية التصدي والمواجهة” والمدة الزمنية التي قد تستغرقها الانتفاضة، والحجم الذي قد تأخذه والمستوى الذي قد تصل إليه، يُضاف إلى ذلك غياب الطمـأنينة الشعبية تجاه تحسن الأوضاع في المستقبل المنظور، ولا سيما أن غالبية الرأي العام الإسرائيلي أشارت إلى موت فكرة حل الدولتين، ما يعني انسداداً للأفق السياسي للحل أمام الفلسطينيين، في ظل ائتلاف حكومي لا يعترف أي من مكوناته بحق الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية، وفي ظل رئيس حكومة تقوم استراتيجيته على شعار “إدارة الصراع بدل حله”. هذا الانسداد ستكون ترجمته العملية ليس بقاء الأوضاع السياسية والأمنية على حالها فحسب، إنما ستكون مرشحة لمزيد من التصعيد والتعقيد.