بن نايف وأوغلو وليبرمان ولافروف
ناصر قنديل
– لا تتصدّر الجمل الرمزية الخطاب السياسي للمنغمسين يومياً في صناعة السياسة بحكم مواقعهم إلا للتأسيس لمراحل حاسمة، تنتقل من مناخ إلى مناخ وتريد منحة صفة أعلى من السياسة، كمثل انتقال تركيا أيام فشل مساعيها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحاجتها إلى سياسة خارجية جديدة لا تحمل إحباط الفشل، فكان كلام وزير خارجيتها آنذاك داوود أوغلو عن نظرية جديدة تريد أن تؤسّس للرهان على تعزيز مكانة تركيا في العالم الإسلامي وتطبيع العلاقات مع دوله بعد انقطاع وبرود مع الكثير من دوله وقطيعة مع بعضها، فأطلق أوغلو يومها نظريته عن عداوات صفر مع الجيران، وألبسها ثوب الاستراتيجية الأعلى من السياسة، وتجنّب القول، طالما فشلنا في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي فلمَ لا نعاود الدخول في العالم الإسلامي، وثبت من الوقائع اللاحقة أنّ الأمر لم يكن استراتيجية بل سياسة، فلم تعمّر العلاقات الطيبة سنوات قليلة ليحلّ مكانها عداوات مع كلّ الجيران من سورية والعراق وإيران وصولاً إلى روسيا.
– نشهد في هذه المرحلة ظاهرة مشابهة ولو لأسباب مختلفة، وفي ظروف مختلفة، فتصدر عن قادة سياسيين مواقف تلبس السياسة ثوب الاستراتيجية، وتمنحها ما هو أبعد من الموقف المباشر، لتجعل منها قاعدة سياسية نظرية رمزية قابلة للتحليل والتأويل، لكن قراءة سياقها تتيح اكتشاف الهدف وكشف المعنى. فعندما يتحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف بمعادلة جديدة للسياسة السعودية يجب أن تقوم على تقبل التنازلات المؤلمة، ويقول وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أن أولوية تركيا في سورية يجب أن تكون وحدة سورية، ويتحدّث أفيغدور ليبرمان وزير الحرب «الإسرائيلي» المتطرف عن تقدّم وحدة الشعب على وحدة الأرض، ويخرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بمعادلة قوامها، لن نسمح بسقوط حلب، علينا أن نقرأ أنّ بين السطور رسم لمعادلات حاسمة وتبدّلات نوعية في السياسة ستحكم المرحلة المقبلة، وتتبلور مع هذه العناوين تغطيات لخطوات عملية تسير في ظلالها.
– لا يقصد بن نايف بالتنازلات المؤلمة العلاقات الداخلية في الأسرة الحاكمة، ولا الأسعار في سوق النفط، ولا الخطة التي أنفق على ترويجها لولي ولي العهد أكثر من عائداتها تحت شعار خطة العام 2030، بل كان واضحاً في سياق الكلام أنّ الفشل أصاب السياسات السعودية والمطلوب مراجعة تنتهي بالقبول بتقديم تنازلات مؤلمة، وكان حديثه مباشراً عن سورية واليمن، وخصوصاً الفشل في إسقاط الرئيس السوري، دون أن يحمّل الملك ونجله مسؤولية الفشل، بل بسبب ما وصفه بعدم تأدية الحليفين الأميركي والتركي للضمانات التي قدّماها. لكن التنازلات المؤلمة، كمفردة تطلقها الدول الكبرى تحت شعار حفظ الاستقرار وادّعاء موقع المسؤول، ستغطي شيئاً كبيراً هنا، ليس إلا القرار بالانفتاح على الرئيس السوري بشار الأسد، تصحيحاً لخطأ قطع الاتصال الذي رعاه الروس قبل عام، ومَن يقرأ بين السطور سيكتشف المعنى، الذي قلب الشاعر.
– لا يقصد شاووش أوغلو بالحديث عن أولوية وحدة سورية بالنسبة لتركيا كلاماً سجالياً مع مشروع مطروح على الطاولة من خصوم تركيا عنوانه تقسيم سورية، بل يقصد خطاب تركيا مع نفسها، بأنّ الأولوية السابقة لم تعُد صالحة وهي أولوية إسقاط الرئيس السوري، ليقول ضمناً لم يعُد من المفيد التمسك بهذه الأولوية، أنّ تفادي خطر خصوصية كردية على الحدود التركية السورية، هو المقصود برمزية وجود أولوية جديدة تتقدّم ما سواها اسمها وحدة سورية، لتبرّر سقوط تلك الأولوية التي حكمت السياسة التركية طوال خمس سنوات، ولمَن لم يفهم الكلام يقدّم أوغلو التوضيحات، بقوله، وهذا يستدعي التعاون الوثيق مع كلّ من روسيا وإيران، فروسيا وإيران وتركيا يشكلون الحلف الحقيقي صاحب المصلحة بحماية وحدة سورية ومنع تقسيمها، ويصير السؤال الطبيعي هو: أتقصد سيد أوغلو التفاهم مع روسيا وإيران على معادلة سورية موحّدة بظلّ الرئيس الأسد خير من سورية مقسمة أو فيها شريط نفوذ للأكراد بدون الرئيس السوري؟ والجواب طبعاً نعم، والنتيجة تموضع تركي تدريجي نحو روسيا وإيران تمهيداً للنزول عن شجرة طال التعمشق على أغصانها عنوانها الحرب على الرئاسة السورية والرئيس السوري.
– أفيغدور ليبرمان بدوره يخاطب جمهوره حول الخيارات، ويتحدث عن أولوية وحدة الشعب على وحدة الأرض، والأمر ليس مطروحاً راهناً ليختار «الإسرائيليون» بينهما، بل الأمر أنّ ليبرمان الذي يشكل المستوطنون غالبية جمهوره يقول لهؤلاء إنّ عواصف سياسية تحيط بـ «إسرائيل» ومستقبلها لن تسمح بالحفاظ على وحدة الأرض والشعب معاً، والمقصود هو أنّ المرحلة المقبلة قد تستدعي التنازل عن بعض الجغرافيا التي يشغلها المستوطنون، وتفكيك مستوطناتهم، للحفاظ على مستقبل الكيان، وانّ هذا العجز عن الحفاظ على ما يسمّيه هنا وحدة الأرض، والقصد ألم التنازل عن بعض جغرافيا الاستيطان في الأرض الفلسطينية، يجب أن يتقدّم عليه تحقيق وحدة الشعب أي استيعاب المستوطنين وتعويضهم، وهنا يقدّم ليبرمان الشعار الكبير للخطة التي ستشكل السياسة المقبلة في معرض بازارات التسويات التي تجد «إسرائيل» فيها بوليصة التأمين الوحيدة، إذا ذهبت سورية إلى التعافي وخسر حلفاؤها الحرب.
– سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا الذي قاد عملية سياسية طويلة مع الأميركيين حول سورية، وبقي خطابه مباشراً ومحدّداً حلقة بحلقة، عن السياسة والتفاوض والميدان والهدنة، وتحدث عن الأشياء بأسمائها، يقول إننا أبلغنا الأميركيين بأننا سنقف مع الجيش السوري لمنع سقوط حلب، وهذا في الدبلوماسية لا وظيفة له لأنّ الإبلاغ الدبلوماسي بين الدول العظمى، خصوصاً لا يحتاج إعلاناً، فلافروف يتحدّث عشية انطلاق حملة عسكرية واسعة يقودها الجيش السوري على جبهات عدة، وبعد مهل عديدة قبلتها موسكو لتوفير فرص فك التشابك بين الجماعات المسلحة التي ترعاها واشنطن وحلفاؤها، وبين جبهة النصرة، ليقول لن نتسامح بعد مع استعمال المهل التي قدّمناها للتحضير لحرب النصرة ضد سورية والحلفاء ونحن سنكون في الميدان، ولا مهل بعد اليوم، ولا مكان للسياسة، فالميدان سيتكلّم وروسيا ستكون حيث يجب أن تكون.
– في المراحل الحاسمة والفاصلة ترتفع الجملة السياسية إلى مصاف الاستراتيجيا لتبرّر حروباً كبرى أو تسويات كبرى، تمهّد لنصر عظيم أو لتنازلات مؤلمة.
(البناء)