لماذا التبكير في طرح مسودّة الدستور السوري الجديد؟ د. عصام نعمان
تحتدم في أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي سجالاتٌ ومناقشات حول مسودّة الدستور السوري الجديد. المسودّة سرّبتها موسكو وبدا للملأ أنها من صنعها. لماذا التبكير في طرح مسودّة الدستور وإثارة كلّ هذا الضجيج؟
صحيح أنّ قرار مجلس الأمن 2254 أشار إلى شهر آب/ أغسطس المقبل كموعد لإنجاز مسودّة دستور جديد لسورية، لكنه لم يُشر إلى احتمال طرحه للمناقشة والمساجلة اعتباراً من أواخر الشهر الحالي.
لافتٌ في هذا المجال تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري أطلقه في موسكو في 25 آذار/ مارس الماضي بقوله: «اتفقنا والجانب الروسي على جدول زمني لتأسيس إطار عمل للانتقال السياسي فضلاً عن مسودّة دستور، ونهدف إلى أن ينجز كلاهما بحلول شهر آب». من الواضح أنّ كيري لم يشر إلى إمكانية طرحه للمناقشة قبل شهرين من موعد إنجازه. فلماذا التبكير في تسريبه وكأنّ المقصود استثارة ردود فعل بعينها من أطراف الصراع؟
ما نقله موقع «بلومبيرغ» عن مصادر غربية وروسية مطلعَ نيسان/ ابريل الماضي ربما يجيب جزئياً عن السؤال آنف الذكر بقوله «إنّ واشنطن تعمل مع موسكو على مسودّة دستور جديد لسورية، وذلك من ضمن اتفاق كانت توصّلت إليه مجموعة الدعم الدولية لسورية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 يقضي بتشكيل حكومة انتقالية ذات صدقية وشاملة وغير طائفية تحدّد جدولاً زمنياً لكتابة دستور جديد، وأن تُجري انتخابات حرة وعادلة بإشراف الأمم المتحدة خلال 18 شهراً».
يدعم هذا التسريب ما تردّد عن توصّل واشنطن وموسكو إلى اتفاق على صوغ دستور جديد لسورية، وعلى تشكيل حكومة انتقالية تحدّد جدولاً زمنياً «لكتابة دستور جديد»، بمعنى أن تتخذ الحكومة الانتقالية مسودّة الدستور المقدّمة إليها من واشنطن وموسكو كأساس للمناقشة، وتُجري عليها ما يتوافق عليه أطرافها من تعديلات ويضعون مسودّة الدستور تالياً في صيغة نهائية لعرضها على استفتاء شعبي عام.
يبدو أنّ المنهجية التي اتفقت عليها واشنطن وموسكو عطّلها الأطراف السوريون المتفاوضون في جنيف، ولا سيما ما يسمّى وفد الرياض الذي رفض مبدأ الحكومة الانتقالية وأصرّ على «هيئة انتقالية» لا يكون فيها للرئيس بشار الأسد دور، بل لا يكون هو نفسه في السلطة!
إزاء تعطيل المفاوضات والعودة إلى القتال وجنوح بعض التنظيمات السورية المصنّفة «معتدلة» إلى صفّ «جبهة النصرة» المصنّفة إرهابية والتي تواصل القتال ضدّ الجيش السوري، فقد وجدت موسكو، بالتفاهم مع واشنطن، أنّ الكشف عن مسودّة الدستور التي كانت أعدّتها ربما تطمئن الأطراف السورية المعادية لحكومة دمشق وتشجّعها على وقف القتال والعودة إلى المفاوضات لكون المسودّة المذكورة انطوت على صيغة شبه كونفدرالية للدولة، ترضي المعارضة ولا ترضي دمشق. اللافت أنّ المعارضة لم ترفض المسودّة الروسية، لكن دمشق سارعت إلى نفي عرض أيّ مسودّة دستور عليها، رافضةً أيّ دستور لا يكون من صنع السوريين أنفسهم. وكانت أوساط سورية غير رسمية قد استبقت النفي الرسمي بتسريب تعديلات جذرية أُدخلت على المسودّة تجعل من اتخاذها أساساً للمناقشة بين الأطراف المتفاوضين أمراً بالغ الصعوبة إنْ لم يكن مستحيلاً.
مهما يكن الأمر، فقد أصبح واضحاً أنّ الولايات المتحدة، وليس فقط المعارضة السورية الموالية للرياض وأنقرة، هي مَن عطّل المفاوضات. ذلك أنّ واشنطن لم تكتم دعمها العسكري لـِ «قوات سورية الديمقراطية» الكردية من أجل طرد «داعش» من شمالي محافظة الرقة التي يسيطر عليها، رافضةً التعاون مع الحكومة السورية في هذا السبيل. ذلك يطمئن، في ظنّها، حكومتيْ الرياض وأنقرة اللتين ما زالتا ترغبان في إقصاء الأسد قبل معاودة المفاوضات أو، في الأقلّ، قبل التوصّل إلى اتفاق حول الدستور وبالتالي إجراء الانتخابات.
لكن الإصرار على إقصاء الأسد يؤدّي إلى إطالة أمد الحرب في جميع المناطق السورية التي لـ «داعش» و «النصرة» فيها وجود ونشاط. فدمشق وحلفاؤها في محور المقاومة يفسّرون إصرار الولايات المتحدة على إشراك الأكراد السوريين في مقاتلة «داعش» بشرق سورية وشمالها ودعمهم بقوات برية أميركية خاصة بأنه جزء من مخطط يرمي إلى تكريس سيطرتهم على أراضٍ في شمال سورية الشرقي تمهيداً لإقامة دويلة خاصةٍ بهم هناك أو، في الأقلّ، إخضاع تلك المنطقة إلى صيغة حكم ذاتي شبيهة بما هو عليه الوضع في إقليم كردستان العراق.
ثمّة سبب آخر لإطالة أمد الحرب هو اقتناع حكومة دمشق بأن لا سبيل إلى معاودة المفاوضات مع خصومها في المعارضة طالما تنظيميْ «داعش» و «النصرة» ومَن يواليهما ينشطون ويعيثون في الأرض فساداً، فيضعفون قدرة سورية على مواجهة العدو الأساس وهو «إسرائيل»، كما يفسحون في المجال أمام الولايات المتحدة لتنفيذ مخططات تمسّ بوحدة سورية وسيادتها. كلّ ذلك سيدفع الحكومة السورية إلى تفعيل الحرب على تنظيمات الإرهاب الأعمى وتركيز الجهود الرامية لتنظيف البلاد من وجودها وفعالياتها كشرط لاستتباب الهدوء والأمن والأمان ولمباشرة مفاوضات مجدية مع أطراف المعارضة السورية.
يتأسّس على ذلك أن لا مجال لاستئناف المفاوضات بين حكومة دمشق وخصومها في المستقبل القريب طالما هي منهمكة في عمليات واسعة لتحرير مناطق البلاد من تنظيمات الإرهاب الأعمى ومناصريها من المسلحين المنضوين تحت لوائها والمنخرطين في أجهزتها ووحداتها المقاتلة.
أجل، لا جدوى من المفاوضات قبل إجلاء هؤلاء جميعاً عن أرض سورية وتوفير الأمن والأمان للسوريين جميعاً.
(البناء)