الانقسامات تعكر صفو الحزب الديموقراطي ومستقبله د.منذر سليمان
حدوث الانقسامات في الاحزاب السياسية، بصرف النظر عن مكانتها وتعريفاتها ومصالحها المتعددة، تقابل عادة بالازدراء والاحتقار من الشريحة القيادية، وتكال لاصحابها كافة صنوف الاتهامات بالخسة والانتهازية. بل هي ظاهرة ملازمة للعمل السياسي، وعادة ما تشير اليها اللوائح الداخلية للاحزاب المتعددة بالسلبية وضرورة محاصرتها قبل ان تتفشى .
الحياة والسلوك اليومي داخل الاحزاب قد يؤدي لتعميق الشرخ ومساحة الخلافات عند نضوج جملة من العوامل، سواء على التوجه السياسي، برنامج الحزب، او تحالفات تُعقد مع شرائح على حساب اخرى يجري تهميشها، او ظروف اخرى اجتماعية وثقافية وفكرية وشخصية ربما.
تلاشي القدرة على التغيير من الداخل، مهما تعددت الاسباب، يفاقم الخلاف والتنافر ويؤدي الى حالة انسلاخ وربما انشقاق البعض عن الهيكلية الجامعة. والاحزاب الاميركية، رغم كل الملاحظات على بنيتها وتركيبتها وتحالفاتها الداخلية وغياب العلاقة التنظيمية الطبيعية داخلها، ليست بمعزل عن تلك الآفة، خاصة عند الاخذ بعين الاعتبار “ميزة” خروج العضو بسرعة من الحزب دون ترقب عواقب محددة.
المشهد الانتخابي الاميركي الراهن اتسم باتساع شقة الخلاف داخل صفوف الحزب الجمهوري، نتيجة صعود مرشح لا يدين لولائه التام للحزب ولا يتقيد بسياساته وتحالفاته. ولا يزال الأمر قابل للمفاجآت قبل وخلال المؤتمر العام للحزب في شهر تموز / يوليو المقبل.
سرعان من برزت الخلافات داخل الحزب الديموقراطي الى السطح، الاسبوع الماضي، عقب صدام مباشر بين مناصري كلا المرشحين، بيرني ساندرز وهيلاري كلينتون التي تنحاز قيادة الحزب بشدة اليها “حفاظا على ارث الحزب،” كما يعتقد. الواقعة كانت ستفرز عدد وهوية المندوبين المؤهلين للذهاب للمؤتمر العام المقبل، في مدينة فيلادلفيا، وتعمق الخلاف بين الفريقين حول بنود اللائحة الداخلية التي تتحكم بتوجهات وتصويت المندوبين. الأمر الذي استدعى تدخل رجال الشرطة لفض الاشتباكات بالايدي داخل اروقة المؤتمر، كما تردد ونفته مصادر بيرني ساندرز.
جذر الخلاف برز في قضيتين: الاولى، موافقة قيادة الحزب على جملة من الاجراءات المؤقتة التي اعتبرها مؤيدوا المرشح ساندرز بأنها ترمي الى تهميش حضورهم؛ والثانية تمثلت في تحديد “اللائحة الداخلية” 12 مندوبا غير مقيدين بالتصويت لأي من المرشحين ثبت لاحقا ان 7 منهم ذهبوا لتأييد المرشحة كلينتون والاقلية الباقية لصالح ساندرز، اضافة لما اعتقده مناصرو ساندرز محاولة لعزل نحو 60 مندوبا من مؤيديهم ورفع صفة المندوبين عنهم.
رئيس لجنة الاعتمادات في المؤتمر، ليزلي سكستون، اوضحت ان العدد النهائي بلغ 64 مندوبا لم ينطبق عليهم شروط العضوية “لاسباب متعددة،” وحرموا من فرصة الدفاع او الالتماس لشرح موقفهم وفق نصوص اللائحة الداخلية، مطالبين باعادة التصويت. واضطرت قيادات المؤتمر تعليق اعماله وانهال سيل الاتهامات على ساندرز ومؤيديه.
وسرعان من تبادلا الاتهامات في جو غلب عليه طابع الفوضى، وتدخل المرشح بيرني ساندرز ليعلن ان الاتهامات الموجهة لانصاره “محض هراء” مناشدا قادة الحزب، لا سيما زعيم الاقلية في مجلس الشيوخ عن ولاية نيفادا، هاري ريد، ضرورة استقطاب التيارات المتعددة لا سيما اولئك المنادين باجراء تغيير اقتصادي واجتماعي حقيقي. واضاف ساندرز “من الضروري لقيادات الحزب (الديموقراطي) الادراك ان العالم السياسي قد تغير وهناك الملايين من الاميركيين الغاضبين من السياسات التقليدية والاقتصادية” للحزب.
“الظاهرة” بدأت تقلق قيادات الحزب التي ان لم تحسن احتواءها ومعالجتها فانها تنذر بتبديد النجاحات الانتخابية وفرص فوز مرشحة الحزب، على الاغلب، في الانتخابات العامة، عززها استطلاعات للرأي تشير الى تجسير الهوة بين كلينتون وترامب الى 3 نقاط مئوية لصالح الاولى.
يشار ايضا الى ان السيدة كلينتون وقيادات الحزب الديموقراطي تستغل اي فرصة متاحة للاشارة الى “خطورة” استمرار منافسها بيرني ساندرز في الحملة الانتخابية، لا سيما وهو يسلط الاضواء على مثالبها ونقاط ضعفها ويصفها بأنها “ثمة شخصية مؤسساتية تقليدية،” مما يسهل الامر على منافسها الجمهوري، دونالد ترامب، شن حملة ضدها.
نعود هنا لنذكر بجذر الانقسامات الحزبية وتدخل القيادات المتنفذة لمحاصرة حرية التعبير واصدار قرارات لا تستند الى مرجعية واضحة، في اغلب الاحيان، وتفردها في صياغة القرار السياسي.
على الشق المقابل في الحزب الجمهوري، عقدت اللجنة الحزبية لولاية نيفادا مؤتمرها ايضا، بمشاركة نحو 1000 فرد، وسار بسلاسة تامة دون تسجيل اي اتهامات او تجاوزات تذكر لاختيار 27 مندوب للمؤتمر العام.
ليس من قبيل المبالغة القول ان انقسامات حادة تجري في صفوف الحزب الديموقراطي، واشد ربما من تلك الجارية داخل الحزب الجمهوري. عند القاء نظرة فاحصة على آخر الانتخابات التمهيدية، في ولايتي اوريغون وكنتاكي، التي فاز ساندرز بالاولى وكلينتون بالثانية بنسبة زهيدة، يتضح حجم الهوة الفاصلة داخل صفوف الحزب. فازت السيدة كلينتون للحظة بثماني ولايات مقابل 20 لمنافسها بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية.
وما فاقم هوة الخلاف بينهما تصريح الناطق باسم حملة ساندرز الانتخابية بأن مرشحه ينوي تقديم التماس لهيئات ولاية كنتاكي يطالب فيها باعادة فرز الاصوات التي دلت نتائجها المعلنة على تفوق كلينتون بنسبة لا تتعدى 0.05 بالمائة من الاصوات.
بلغة الارقام، تتفوق السيدة كلينتون على منافسها بمراكمتها نسبة 96% من اصوات المندوبين لصالحها، من ضمنهم مندوبين فوق العادة – مسؤولين سابقين وشخصيات نافذة. ساندر بالمقابل يحتاج ليفوز بنحو 64% من اصوات ما يتبقى من المندوبين، كي يتعادل مع منافسته كلينتون، قبيل دخول المؤتمر الحزبي.
عند النظر الى ظاهرة الحزبين بتجرد تام نلحظ اوجه الشبه الشديدة بينهما: المؤسسة الحزبية عند الديموقراطيين تصطف بقوة خلف المرشحة كلينتون، اما التيار الليبرالي داخل الحزب فيدعم منافسها ساندرز؛ الحزب الديموقراطي التقليدي المتمسك بمراكز السلطة في واشنطن يهمش مشاركة التيارات الليبرالية، فضلا عن تأزم العلاقة التقليدية بين النقابات العمالية، المؤيدة للوضع الراهن، ومجموعات حماية البيئة؛ كما جسدته صراعات المؤتمر الحزبي في نيفادا.
صدامات الامس القريب
في ذروة الحرب الاميركية على فيتنام انعقد مؤتمر الحزب الديموقراطي عام 1968، في مدينة شيكاغو، تتوج باشتباكات حادة ومظاهرات صاخبة داخل وخارج اروقة المؤتمر بين جناحي الحزب: معسكر الحرب ممثلا بنائب الرئيس هيوبرت همفري، والمرشح المناهض للحرب يوجين مكارثي. انعقد المؤتمر عقب موجة طويلة من المظاهرات والاحتجاجات الشعبية امتدت رقعتها لنحو 100 مدينة اميركية عقب اغتيال القس مارتن لوثر كينغ (نيسان 1968)، وايضا اغتيال المرشح الديموقراطي الابرز روبرت كنيدي (5 حزيران). فاز مرشح “السلطة” هيوبرت همفري على الرغم من عدم فوزه في اي من الانتخابات التمهيدية للحزب، بينما فاز منافسه مكارثي باغلببية الانتخابات.
احد كبار اعمدة الحزب الديموقراطي في شيكاغو وعمدتها، ريتشارد ديلي، سخر ليس طاقات المدينة الأمنية فحسب، بل استغل اللوائح الداخلية للحزب للقصاص من منافسي “السلطة،” واشتبك رجال الأمن والمتظاهرين خارج مبنى المؤتمر.
اصرار قيادات الحزب على ترشيح همفري احدث شرخا واسعا في اوساط القواعد الحزبية والتنظيمات الطلابية المناهضة للحرب والتجنيد الاجباري؛ بيد انه استعاد عافيته متأخرا قبيل اجراء الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني / نوفمبر، وكلفه خسارة البيت الابيض للمرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.
استحضرت السيناتور دايان فاينستاين حادثة ذلك المؤتمر لتنذر اقرانها في قيادة الحزب الديموقراطي باننا مقبلون على “تكرار تجربة عام 1968 مرة اخرى.” يشار ايضا الى ان صيغة “المندوبين فوق العادة – سوبر” تم اقرارها عام 1972 لحرمان اي مرشح من خارج سياق السلطة، مكارثي وجورج ماكغفرن لاحقا، من الفوز بترشيح الحزب.
السؤال المركزي في ذهن قيادات الحزب هو كيف سيصوت مؤيدوا ساندرز في الانتخابات العامة، مع ادراكهم بتلاشي الحمية والحماس لمرشحة الحزب المفترضة. تعتقد اغلبية القيادات ان القسم الاكبر من مؤيديه ستصوت لصالح كلينتون، وان على مضض. المؤشرات الشعبية الراهنة تدل على قسما لا يستهان به من الناخبين الديموقراطيين “قد يرتد” عن ولائه ويصوت لصالح ترامب، نظرا لتقارب مواقفهما النقدية للمؤسسة الحاكمة التقليدية.
تجدر الاشارة ايضا الى ان تلك الشريحة تقطن ولايات هامة وعادة ما تحسب في صف الحزب الديموقراطي: بنسلفانيا، متشيغان، ايلينوي، اوهايو، ويسكونسن. وان حالف الحظ جهود ترامب في تلك الولايات، واخرى في الساحل الشرقي الليبرالي عادة، فانه سيفوز بالانتخابات الرئاسية. يضاف اليها اولئك الناخبين المصنفين بالمستقلين الذين ينظرون للسيدة كلينتون بكثير من الازدراء والرفض، والذين يعول ترامب على استقطابهم بكثافة. وقد عزز الاحتمال الاخير استطلاع للرأي اجرته شبكة (ان بي سي) للتلفزة اشارت فيه الى تقدم ترامب بنسبة 8% بين اصوات المستقلين.
أفاق بروز حزب جديد
بداية تجدر الاشارة الى ان النظام السياسي الاميركي جرى تصميمه بدقة ليحول دون بروز تيارات مستقلة عن النخبة الحاكمة مهما فعلت من استقطاب وحراك جماهيري. وتشترط اللوائح الانتخابية نيل المرشح عن حزب “ثالث او مستقل” نسبة لا يقل مجموعها عن 20% من اصوات الناخبين في عموم الولايات المتحدة.
بيد ان العقبات “القانونية” لم تفلح في تصميم البعض للترشح، اهمها حزب الخضر بمرشحه السابق من اصول عربية، رالف نادر عام 2000، ومحاولة الثري روس بيرو عامي 1992 و 1996 على التوالي، وآخرين. واقصى ما توصل اليه المرشح بيرو هو نيله نسبة 18%.
عند كل موسم انتخابي تتجدد الدعوات المطالبة ببروز حزب آخر يمثل شريحة اكبر من المهمشين ، والذي ان حالفه الحظ سيستقطب عناصره من صفوف الحزبين الرئيسيين: الديموقراطي والجمهوري.
في هذا الصدد، ناشد دونالد ترامب منافسه بيرني ساندرز على الانفصال عن الحزب الديموقراطي والترشح كمستقل طمعا في تشتيت ولاءات جمهور الحزب ليفوز الاول بنسبة مُرضية.
قناة (فوكس نيوز)، الناطقة بلسان الشرائح المحافظة والاشد عنصرية في المجتمع الاميركي، اعربت عن اعتقادها بأن نسبة 61% من الناخبين الاميركيين يؤيدون المرشحة هيلاري كلينتون، استنادا الى استطلاع للرأي اشرفت على اجرائه منتصف الاسبوع الماضي، بزيادة 3% عن استطلاع سابق، كما قالت. مقابل 56% يناهضون ترامب، مما يعادل تقلصا من الاستطلاعات السابقة التي اشارت الى معارضة 65% قبل شهرين.
اما مؤيدوا السيدة كلينتون فقد انخفضت نسبتهم من 39% الى 37%؛ مقابل ارتفاع شعبية ترامب من 31% الى 41% عن الفترة عينها.
بلغة الارقام المجردة، هناك تربة خصبة لبروز تيار او حزب ثالث يتخطى الحواجز التقليدية، بيد ان المعوقات والعقبات الموضوعة بعناية تعسر المهمة في ظل سريان قواعد اللعبة الراهنة، على الرغم من اشارة بعض استطلاعات الرأي المفرج عنها تأييد نحو 21% من الناخبين لحزب بديل.
هوية الحزب “البديل” ليست محصورة بتيار الليبراليين داخل الحزب الديموقراطي فحسب. اذ برز عدد من اقطاب المحافظين الجدد، والذين تصدروا مشهد الغزوات والحروب العسكرية في عهدي الرئيس جورج بوش الابن، يعملون على هذا الصعيد ايضا بغية “تحفيز الناخبين المحافظين الحضور والمشاركة بقوة” في الجولة المقبلة. من بين الاسماء المتداولة المرشح الجمهوري السابق ميت رومني، والسيناتور المحافظ عن ولاية اوكلاهوما توم كوبيرن.
في الشق العملياتي ليس هناك متسع من الوقت يحفز اي مرشح طامح المضي في ذلك الطريق، اضافة لما قد يعترض المرشح من عقبات “اجرائية” لادراج اسمه على لوائح الاقتراع. علاوة على ذلك فان اي قابل للعرض يخاطر بمساره السياسي وسمعته داخل الحزب الجمهوري نفسه؛ وما عليه الا الاقتداء بما اصاب المرشح السابق رالف نادر الذي “كان” يحظى بمكانة مرموقة داحل اوساط الحزب الديموقراطي، وسرعان ما تم اقصاؤه والتخلي عنه. كما تعود الذاكرة الانتخابية بين الجمهوريين الى المرشح الجمهوري السابق جون اندرسون، عام 1980، في سباق ثلاثي بينه وبين رونالد ريغان وجيمي كارتر.
عودة الى ترامب
تقدم ترامب في استطلاعات الرأي اضحى من المسلمات في المرحلة الحالية، خاصة عقب ميله لحل الخلافات مع قادة الحزب الجمهوري رافقها تراجع حدة الخطاب السياسي المعادي له.
شعبيته الى ازدياد مضطرد بلغت 45% مقابل 42% لصالح كلينتون في احدث استطلاع اجرته قناة فوكس نيوز؛ وتفوقه بنسبة 5% على منافسته وفق استطلاع اجراه معهد راسموسن، وتفوقه البارز بين الناخبين البيض عليها ايضا. استطلاع (فوكس نيوز) افاد بميل نحو 11% من انصار بيرني ساندرز التصويت لصالح ترامب.
استنادا الى تلك الفرضيات والقراءات الاولية، باستطاعة ترامب تعديل ميزان القوى داخل صفوف الحزب الجمهوري لصالحه، وكسب اولئك المعارضين والذين لا ينوون الخلود لراحة والتسبب بفوز هيلاري كلينتون.
بروز اي تيار او مرشح عن حزب مستقل، كما اسلفنا، يبدو ضربا من الخيال وصعب المنال، على الرغم من تنامي التأييد الشعبي للظاهرة وتوسيع رقعة المنافسة الانتخابية التي يحرص الحزبين الرئيسيين على احتكارها بينهما؛ واللذين يقودان توجيه خيار الناخب بين كلينتون او ترامب، ليس الا.