في قراءة الوضع الفلسطيني الراهن-منير شفيق
الوضع الفلسطيني الراهن كأي وضع فلسطيني في أي مرحلة سابقة، وكأي وضع عربي أو عالمي، أو وضع أيّ بلد من البلدان يتشكّل من أوجه كثيرة، ويكون لتطوّره، في الغالب، أكثر من احتمال .
ويؤدّي تعدد الأوجه والأبعاد إلى تعدد في تقويم الوضع وتقديره، أو إلى تعدد في قراءاته. أما السبب فيرجع إلى الأهمية التي تعطيها القراءة لكل وجه من تلك الأوجه، ولكل بُعْد من الأبعاد. الأمر الذي يسمح باختلاف القراءات إلى حد بعيد أو قريب، وصولا إلى مستوى التصادم بين التفاؤل والتشاؤم أو الانسداد والانفراج.
ولعل الوضع الفلسطيني الراهن من أكثر، أو أكثر، الأوضاع الفلسطينية مدعاة للاختلاف بين قراءتين، وما بينهما من قراءات بالضرورة.
صحيح أن هذا الاختلاف بين قراءتين أو بين قراءات متعدّدة كان موجودا دائما. ولكنه في هذه المرّة، يحمل سمات مختلفة، وله طعمه الخاص وقسماته الخاصة. وذلك بسبب عمق المتغيّرات التي حدثت في موازين القوى، ما يجعلها مختلفة إلى حدّ بعيد عما مرّت به موازين في المراحل السابقة.
وإذا كان ثمة اتفاق عام حول حدوث متغيّرات عميقة جدا في هذه المرحلة قياسا بالمراحل السابقة، إلا أن الاختلاف في تحديد عمق هذه المتغيّرات أصبح بارزا جدا، ولا سيما في ما يتعلق بقراءة وضع الكيان الصهيوني (العدّو) كما وضع حماته وحلفائه في ميزان القوى العالمي، خضوصا الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
أما في ما يتعلق بقراءة الوضع الفلسطيني (الذاتي والموضوعي) فيغلب اتجاه الاتفاق حول اعتباره في “أسوأ حالاته”. علما بأن الانتفاضة الثالثة، وهي تقترب من منتصف شهرها الثامن، تحتم رفض الاتفاق العام على أن الوضع الفلسطيني في “أسوأ حالاته“.
وذلك إلى حدّ يكاد يقول: “على العكس ربما هو في أحسن حالاته”. أو “يمكن له أن يصبح في أفضل حالاته، فيأتي بانتصار لم ينْجز مثله من قبل“.
يجب أن تبدأ قراءة الوضع الفلسطيني من قراءة وضع الكيان الصهيوني وحماته الدوليين في ميزان القوى، وفي مستوى ما كانوا عليه من سيطرة وقدرة على التحكم بمصائر الأحداث.
هنا، يُستحسن أن تكون البداية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ونتائجها، لا سيما منذ إعلان وعد بلفور واتفاق سايكس- بيكو، وقد أخذا يطرقان عامهما المئة، وهما اللذان وضعا الأسس الاستراتيجية لقيام دولة الكيان الصهيوني، وما نشأ من وضع فلسطيني منذ احتلال فلسطين والبلاد العربية حتى اليوم.
إن من يُقارِن الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي طوال المراحل السابقة ما بين 1917-1948 أو خلال مرحلة الحرب الباردة مقابل الوضع الراهن والمرحلة الراهنة، سوف يلحظ كم تغيّرت المعادلة في غير مصلحة الدول الكبرى التي فرضت المشروع الصهيوني على فلسطين، واحتلت البلاد العربية أو هيمنت عليها.
وقد تمكنت من القضاء على حركات مقاومة الاستعمار وحركات التحرّر والوحدة، ووصلت قمة سطوتها مع انهيار معسكر وارسو وضرب حركة عدم الانحياز. ولكنها اليوم فقدت الكثير الكثير من سيطرتها العالمية والإقليمية، وقد هزم الجيش الصهيوني في أربع حروب خلال السنوات العشر الأخيرة. وذلك بعد سلسلة انتصارات عسكرية، لا سيما ما بين 1948- 1982.
ومن يراجِع استراتيجية الكيان الصهيوني في بناء حزام من التحالفات حول الأمّة العربية من إيران الشاه، وتركيا الناتو، وأثيوبيا، وامتلاك أقوى جيش له قدرة مُواجَهة جيوش عربية عدة في آن واحد، سوف يُدرك كم تغيّر وضعه الآن.
إذ اضطر أن ينسحب من جنوبي لبنان عام 2000 بلا قيد أو شرط ومن قطاع غزة، ويفكك المستوطنات 2005/ 2006، وقد شنّ حروبا أربع فشل فيها. ولم يعد قادرا على احتلال حتى قطاع غزة وجنوبي لبنان.
وهو الآن يقف عاجزا أمام انتفاضة القدس على الرغم من الحماية والتنسيق الأمني اللذين توّفرهما له الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتعطيل محمود عباس (حتى الآن) أن تتوحّد الفصائل الفلسطينية وكل الشعب الفلسطيني في الانتفاضة. وهو شرط انتصارها.
هذا البُعْد، وهذا الوجه في الوضع الفلسطيني يشكل عنصرا أساسيا في قراءته، إذ شتان بين المعادلة السابقة التي فرضت الهجرة اليهودية، وأقامت الكيان الصهيوني الذي راح يتوسّع وصولا إلى سعيه لاستيطان الضفة الغربية، وتهويد القدس من جهة، وبين المعادلة الراهنة التي فشلت فيها التسوية والمفاوضات أي فشل التوصل لحلّ يصفي القضية الفلسطينية.
ومن ثم انطلاق الانتفاضة والتقدّم باتجاه تطويرها لتصبح انتفاضة شعبية شاملة تعلن العصيان المدني الشعبي السلمي حتى دحر الاحتلال، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة وبلا قيد أو شرط.
هذه القراءة الأكثر دقة وصحّة في موازنة مختلف أَوجه الوضع الفلسطيني وأبعاده بما يغلّب عوامل الإيجاب على العوامل السلبية المتمثلة بسياسات محمود عباس وتنسيقه الأمني مع الاحتلال وحيلولته دون وحدة الفصائل الفلسطينية وانخراطها جميعا في الانتفاضة، كما يغلّبها على العوامل السلبية المتمثلة بما يجري في الوضع العربي من صراعات وانقسامات، لا سيما ظاهرة الذين راحوا “يُصيّفون في الغور”، كما يقول المثل الفلسطيني أو “الذين يذهبون إلى الحج والناس عائدة منه” بعد انتهائه.
أي ظاهرة الذين راحوا ينفتحون على التعاون مع العدّو الصهيوني، وهو في طريق الأفول ليزيدوا وضعهم والوضع العربي سلبية وتدهورا.
وبكلمة، إن الوضع الفلسطيني من خلال انتفاضة القدس وما أصاب الوضع الصهيوني من اهتراء وعزلة يمكنه أن يفتح كوّة واسعة من الأمل ليس على مستوى تحرير الضفة الغربية والقدس والأسرى وكسر حصار قطاع غزة، فحسب، وإنما أيضا على المستوى العربي والإسلامي وأحرار العالم.