اليأس من السياسة… الأمل بالتغيّر د. عصام نعمان
تتيح الانتخابات، نظرياً، فُرصاً للتعبير والتغيير. في الانتخابات البلدية التي بدأ فصلها الأول يوم أمس الأحد، يبدو اللبنانيون غير معنيين، لا بالتعبير ولا بالتغيير. لماذا؟
لأنّ اليأس من السياسة والسياسيين بلغ حدّاً باتت معه الانتخابات مجرّد طقس من الطقوس التقليدية المملة والمفرغة من أيّ معنى او منفعة.
مَن يستمع الى الناس في برامج استطلاع الرأي التلفزيونية يُدرك حجم هذه الظاهرة اللافتة. فاليأس من السياسيين تحوّل يأساً من السياسة وجنوحاً الى الابتعاد عن كلّ مظاهرها ومناسباتها.
كان منتَظَراً من الناس الذين عانوا ويعانون ضائقة معيشية خانقة، ونفايات متراكمة في الشوارع وبين المنازل، وانقطاعات متواصلة للتيار الكهربائي، وشحّاً في مياه الشرب، وبطالة متصاعدة، وقصوراً مزمناً في الأداء الحكومي، وتقصيراً فاضحاً في المؤسسات الصحية والاجتماعية أن يغضبوا ويثوروا وأن يترجموا سخطهم بعمليات تغيير واسعة في المؤسسات والأجهزة، وبالتالي في القيادات المسؤولة عن كلّ هذا الفساد المستشري والانهيار الشامل. غير أنّ الحاصل هو العكس: صمت وهجوع وقنوط يكاد لا يتجاوز مستوى التململ واليأس الشامل.
صحيح انّ هذا المناخ السلبي لا يخيّم على الناس جميعاً، وأنّ ثمة اعتراضات واحتجاجات وتحركات هنا وهناك وهنالك، لكن ذلك يتجلّى في جزر محدودة المساحة والفعالية والتأثير. إنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
أسبابٌ وعوامل كثيرة تقف وراء هذه الظاهرة الخطيرة والمتمادية. غير أنّ أهمّها، في رأيي، ثلاثة: انحسار فعالية القيادات الوطنية، واتساع تأثير القوى الخارجية، واستشراء اليأس بين الناس، اليأس من السياسيين، وبالتالي من السياسة.
هذه الظاهرة، بل هذه الحال الكيانية المرَضية لا يقتصر وجودها على لبنان بل هي تشمل، بدرجات متفاوتة، جميع بلاد العرب. لعلّها تحاكي حال العرب عشية اندلاع حرب الفرنجة، المسمّاة خطأ حرب الصليبيين، على غرب آسيا بما فيها مشرق العرب.
وجود الفرنجة دام نحو 200 سنة قبل أن يتمكّن الظاهر بيبرس ومن ثم قلاوون من بناء قوة ذاتية مقتدرة في مصر تكفّلت إضعافهم ثم طردهم. أبرز الدروس المستفادة من الصراع الطويل مع الفرنجة أن لا سبيل الى الانتصار على قوة أجنبية غازية ثم متجذرة إلاّ ببناء قوة ذاتية مقتدرة ومستقلة.
العرب لم يستوعبوا هذا الدرس جيداً بدليل أنهم لم ينجحوا في بناء قوة ذاتية مستقلة في مصر قادرة على إضعاف الأتراك العثمانيين بغية طردهم. بالعكس، ما فعله نفر غير قليل من القياديين العرب في عهد السلطنة العثمانية هو التعاون، بل التواطؤ، مع دول أوروبية صاعدة، بريطانيا وفرنسا خاصةً، للإجهاز على «رجل أوروبا المريض» وتقاسم ميراثه من دون أن يحصلوا، لقاء خدماتهم في هذا السبيل، إلاّ على وعود عرقوبية.
ليس في بلاد العرب، حاليّاً، محاولة جدّية وجادّة في ايّ من دولهم لبناء قوة ذاتية مقتدرة تكون على مستوى الأمة وفي خدمة أهدافها ومصالحها. ثمة محاولات قُطرية إنمائية، بعضها ناجح وبعضها الآخر متعثّر، لكن أيّاً منها غير مهيَّأ لأن يصبح نواةَ قوة ذاتية وازنة على مستوى الأمة وفي خدمتها.
في غمرة هذا المخاض الذي يلفُّ القارة العربية من مشرقها الى مغربها، يقتضي أن يكون للقوى النهضوية الحيّة مهمة ودور، لعلهما يتجسّدان في سؤال وحركة. السؤال هو: كيف نتغيّر؟ بعد الإجابة عن هذا السؤال يأتي دور الحركة التي يُفترض أن تضع مضمون الجواب قيد التنفيذ.
غير أنّ المهمّ أن نقتنع جميعاً، ولا سيما القياديين النهضويين، بأنّ التغيّر شرط للتغيير وسابق له. عندما نتغيّر نتمكن من التغيير. فالتغيير نتيجة للتغيّر، وهو جهد ذاتي وليس فعلاً خارجياً. مهمةُ القياديين النهضويين في تاريخنا المعاصر هو طرح هذا السؤال المفتاحي: كيف نتغيّر؟ ثم الإجابة عنه في سياق معطيات الزمان والمكان والحاجات والتطلعات.
التركيز على مهامّ التغيّر ينتجُ، في المدى الطويل، ثقافة مغايرة هي ثقافة النهضة، ومن خلال ثقافة النهضة يستطيع النهضويون إجراء تغييرات بنيوية في المؤسسات القائمة، كما العمل لبناء مؤسسات حديثة.
صحيح أنّ مسار التغيّر والنهضة طويل وشاق، لكنه يبقى أدنى تكلفة ومشقة من المراوحة في مستنقع التقليد والاجترار وتقبّل الراهن كأنه قدر مقدور.
(البناء)