ما بعد حلب…. ترسيم حدود النفوذ في الشرق الاوسط د. ليلى نقولا
وكما في كل مرة، لكن بشكل أكثر وضوحاً هذه المرة بعد اندلاع المواجهات في حلب؛ تتفق كل أطياف الاقتتال في سورية على لوم الأميركيين حول ما وصل إليه الحال في الحرب الدائرة في سورية منذ خمس سنوات، فحلفاء الجيش السوري والإعلاميون الذين يدورون في فلكه، يقولون إن ما حدث في حلب هو بالضبط “الخطة ب” التي هدد بها كيري منذ فترة، وذلك من أجل تحقيق توازن ميداني يستخدمونه في المفاوضات المقبلة في جنيف، ومحاولة إقامة منطقة تركية عازلة داخل سورية تمتدّإلى حلب، وتكريس واقع جديد يجعل سورية تحت سيطرتهم.
أما على الجبهة المقابلة، فيتحدث الإعلاميون المحسوبون على المعارضة السورية، والداعمون للمجموعات المسلحة، عن تخلٍّ أميركي عنهم، وأن الروس والنظام السوري يعملون بتوجيه أميركي واضح لإفشال “الثورة السورية” وإبقاء الأسد في الحكم، ومطالبة المعارضة بالتعاون معه في المستقبل للتخلص من “داعش”.
وبين هاتين الرؤيتين، يتضح أكثر فأكثر عدم ثقة الأطراف الإقليمية بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وفي سورية بالتحديد، والتي تكرّسها التصريحات المتناقضة التي تصدر عن الأميركيين أنفسهم حول “المنطقة الآمنة” و”مصير الأسد”، وغيرها من إشكاليات الصراع السوري المختلفة. لكن، وبالعودة إلى عقيدة أوباما التي أعلن عنها، وبالنظر إلى سياق مواقف وسلوك الأميركيين في المنطقة خلال سنوات خمس من عمر الأزمة السورية، يمكن استنتاج بعض “الثوابت” الأميركية، وأهمها:
1- لا خروج من منطقة الشرق الأوسط قبل ترتيبها بشكل يتوافق مع المصالح الأميركية: لعل الحديث الأميركي عام 2012 عن استراتيجية جديدة للولايات المتحدة لترك الشرق الأوسط والاتجاه نحو احتواء الصين، دفع البعض للاعتقاد بأن الأميركيين سيخرجون ويتركون المنطقة لمن يشاء أن يحكمها، وهو اعتقاد سطحي.
في الواقع، الأميركيون بالغوا في تقييم قدرة “الإخوان المسلمين” على حكم المنطقة، وتصوروا أنهم قد توصّلوا بعد “الربيع العربي” عام 2011، إلى ترتيب شامل للمنطقة، بقيادة تركية تؤمّن المصالح الأميركية، وتؤمّن أمن “إسرائيل”، وما هي إلا أشهر حتى تسقط سورية ويتداعى محور المقاومة بأكمله.. لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، ما أعادهم للقتال للحفاظ على مصالحهم ونفوذهم في منطقة حيوية تُعتبر قلب العالم. عملياً وواقعياً، لا يمكن لدولة عظمى كأميركا أن تحكم العالم بدون قدرتها على التحكُّم بكل المناطق الجغرافية في الكرة الأرضية.
2- لا تسليم للروس بمجمل الساحة السورية، حيث يمكن أن يتمددوا منها لمدّ نفوذهم إلى مجمل الشرق الأوسط، بل أقصى ما يمكن أن يسمح به الأميركيون بعد الانتصارات الميدانية التي حققها الروس وحلفاؤهم، تقاسم نفوذ في سورية مع الأميركيين، ولعل “التقسيم الأمني” الذي اقترحه كيري مؤخراً على الروس هو المدخل لتقاسم نفوذ حقيقي وجدّي في السلطة السورية التي ستنبثق عن المرحلة الانتقالية.
3- لا تدخُّل عسكرياً مباشر في سورية: لقد حدد الرئيس الأميركي الخط الأحمر العسكري بالنسبة له، وهو التدخُّل البرّي، لذا كان من الواضح أن هناك قراراً نهائياً بعدم زجّ قوى أميركية للقتال مباشرة، وعدم دعم أي تدخل عسكري مباشر في الحرب الدائرة، وأقصى ما يمكن أن يحصل عليه الحلفاء الإقليميون والمعارضة السورية هو الدعم العسكري لمجموعات مسلحة موجودة داخل سورية، وتزويدها بأسلحة لا تشكّل خطراً على الأميركيين، وعلى التحالف الدولي في المستقبل.
4- لا “مناطق آمنة” في سورية، وذلك لأن كلفة تأمين تلك المناطق الآمنة عالية جداً، ولأن تحقيقها سيستفيد منه أردوغان لتقوية نفوذه في كل من تركيا وسورية، وهو ما لا يناسب الولايات المتحدة، التي تسعى دائماًإلى التحكُّم بالمسارات جميعها، وتحاول منع الحلفاء من التفرُّد واستخدام خيارات أحادية.
5- إعطاء هامش محدود للحلفاء للتحرُّك، على أن لا يصل إلى حد المسّ بالخطط الأميركية، وقد يكون عدم الارتياح الذي كان يشعر به الرئيس الأميركي تجاه السعودية وبعض الحلفاء الآخرين قبل مجيئه إلى الحكم، قد تحوّل إلى نوع من “التحدّي الشخصي”، ولعل تلميحاته الأخيرة حول أن “بعض مسؤولي الدول ينتظرون رحيله”، ويعتبرونه “بطة عرجاء”، فيذكرهم بأن ما زال لديه أربعة أشهر كاملة، ويستطيع أن يفعل فيها الكثير، هي رسائل واضحة – ولو مررها بنوع من المزاح – للحلفاء الذين يعتقدون أنهم يستطيعون التمرد والقيام بأعمال لا تتوافق مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية.
في المحصلة، ما حصل في حلب ليس تفصيلاً في الحرب العالمية الدائرة في سورية، بل على خطوط حلب تُرسم حدود نفوذ الدول العظمى في المنطقة، وما تهديد كيري بعواقب وخيمة، ومطالبة لافروف بإقفال الحدود التركية، سوى مؤشرات على تفاوض بالنار يجري على الأرض السورية.. ويبقى الميدان السوري الحَكَم والفيصل مَن سيحصل على ماذا.