سياسة ترامب الخارجية د.منذر سليمان
الماركينتيلية الجديدة : عودة للوراء
خرج المرشح دونالد ترامب مزهوا بانتصاراته المتتالية في جولة الانتخابات التمهيدية الاخيرة، واصبح في وضع اقرب فيه من اي وقت مضى للفوز بترشيح حزبه للانتخابات الرئاسية، مما حفزه بشدة لتوضيح معالم سياساته الخارجية، بشكل اساسي، لدرء اتهامات خصومه ومنافسيه على السواء بشح خبرته في هذا المجال الحيوي “وطمأـنة الاميركيين بواقعية رؤيته ونفي اتهامه بالارعن.”
ميز ترامب توجهاته خلال السباق الانتخابي بميله “للمدرسة الواقعية” في الحزب الجمهوري، في الشق الاقتصادي والسير بحذر للتدخل الخارجي، مما اعتبرته قيادات الحزب التقليدية تحديا جديدا لنفوذها وسياساتها العدوانية. بل جدد ترامب انتقاداته لمدرسة “المحافظين الجدد .. الذين يرددون السياسات الفاشلة نفسها منذ عقود.”
في خطابه “المنتظر،” منتصف الاسبوع الماضي، كرر ترامب شعاراته وارائه السابقة “المثيرة للجدل .. خاصة رفضه تنحية خيار السلاح النووي،” وعزمه ايلاء اعادة بناء وتسليح القوات المسلحة الاميركية باحدث انتاجات صناعات التسلح؛ وتعهده “بنفض الصدأ الذي يسود السياسة الخارجية الاميركية؛” ولازمة انتقاده وتذمره من حلفاء الولايات المتحدة، في “حلف الناتو البائد” والتوابع الاخرى، لاحجامهم عن تسديد نفقة حصتهم من دعم “الواجهة العسكرية” الاميركية ومشاركتها الكلفة في الحماية، وتحويل مهمة الحلف “من التركيز على مواجهة روسيا الى قضايا الارهاب والهجرة؛” واحتقاره للعولمة.
استبق المحللون خطاب ترامب لتحديد معالمه واعتبار رؤيته “للعالم تبدو خليطا من الانعزالية والاستقطاع واستعراض القوة .. مع جرعة براغماتية.” بل ان ترامب “لا يبدو مستعدا لمعرفة ما لا يعرفه.”
لخصت صحيفة نيويورك تايمز خطاب ترامب بازدراء قائلة “عندما تتوفر مطرقة لشخص ما، فانه يرى كافة الاشياء مسامير؛ وعندما تنحصر تجربة شخص ما بالعقارات، فان كل شيء امامه يبدو مفاوضات لتوقيع عقود ايجار.” واضافت “يزعم ترامب انه يعرف آلية التفاوض، وهذا يعني بمفهومه وضع الحد الاقصى من الشروط كي يستطيع الخروج من المفاوضات، وهذا توجه عقيم في السياسة الخارجية.”
احد أهم مراكز الابحاث الاميركية، بروكينغز، عبر عن اعتقاده بعد الخطاب ان ترامب ينوي “انهاء تحالفات الولايات المتحدة في اوروبا وآسيا .. انتهاج سياسة انعزالية بقوله انه “لن يدخل البلاد في اي اتفاق يقلل من شأنها التحكم بأمورها الخاصة،” مرددا عبارة “اميركا اولا؛” ميوله لعقد صفقات (تفاهم) مع روسيا والصين .. سيما وان “الصين تمنح ترامب مزايا ملموسة على الجبهة الاقتصادية، وهو يمنحها (حرية حركة) اكبر في شرق آسيا.”
تجدر الاشارة الى تبوأ شعار “اميركا اولا” صدارة الخطاب السياسي، لترامب وغيره، بانه يمثل عودة الى عام 1940 بتشكيل “لجنة اميركا اولا،” التي طالبت بعدم مشاركة ودخول اميركا اتون الحرب العالمية الثانية – والتي حلت نفسها بعد ثلاثة ايام من وقوع الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر.
وزير الخارجية الالماني، فرانك فالتر شتاينماير، علق على احادية مفاهيم ترامب بالاشارة انه يتعين على الرئيس الاميركي المقبل القبول بأن السياسة الأمنية في العالم قد تغيرت، “لذلك فإن مقولة اميركا اولا ليست ردا على هذا التغيير.”
الماركنتيلية اسلوب حياة
يصنف ترامب بأنه من انصار فكر التجارة الحرة، الماركنتيلية – نسبة الى التاجر الايطالي ماركنتي، التي تنظر لدور الدولة كدور رئيسي لتقوية اركان الاقتصاد ورعايته. لخص المؤرخ العربي عبد الوهاب الكيالي الماركنتيلية بانها مقياس لقوة الدولة بما لديها من معادن نفيسة (ذهب وفضة – في عصور القرن السادس عشر) وليس في قدرتها على انتاج السلع والخدمات. وعليه، يطالب انصار التوجه المذكور بضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، توجيه الاقتصاد، بهدف تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، مما يستدعي منح مزايا للصادرات وفرض حماية جمركية على الواردات، وبناء جيوش قوية.
في هذا الصدد، حث ترامب، الممثل الاوفى للاحتكارات الاميركية الكبرى، الجمهور الاميركي على عدم الاستكانة والتسليم بسياسة العولمة، وان “اميركا لن تدخل طرفا في اي اتفاق يقلل من قدرتها على ادارة شؤونها .. اذ ان الدولة الوطنية تبقى الاساس الحقيقي لتوفير السعادة والازدهار.”
يفاخر ترامب بنجاحاته وانجازاته الاقتصادية، كرجل اعمال نافذ في قطاع العقارات بالغ المنافسة في اسواق نيويورك، والذي عنوانه المال الوفير واقصى معدلات الربح، بصرف النظر عن أحقية الآليات المتبعة.مفهوم او مذهب الماركنتيلية يغذيه الشعور القومي، وهو ما فطن له ترامب مبكرا ليستغله في كسب شرائح اجتماعية كانت مهمشة في معظمها.
تستند الماركنتيلية، الاحتكارات التجارية، الى توسيع رقعة التبادل التجاري على المستوى العالمي لتحقيق اكبر قدر من الارباح والفوائد الاقتصادية، والحد من انتقال رؤوس الاموال الداخلية الى الخارج. تلك كانت عناوين ثابتة في خطابات ترامب والتي تفسر مدى شعبيته في صفوف الجمهور الانتخابي.
السياسات الماركنتيلية، الساعية وراء فتح اسواق جديدة وتراكم الثروة، ادت للحروب والتوسعات الاستعمارية من اوروبا القديمة ومستعمراتها الاميركية.
الاب الروحي للاقتصاد الاميركي “الحر،” جون ماينارد كينز، كان من اهم اعمدة مؤيدي السياسة الماركنتيلية “لحفز الانتاج وتشجيع الاستهلاك،” والزعم ان تلك السياسات ستؤدي لتطوير الاستثمارات المحلية والاجنبية.
خطاب غوغائي مليء بالتناقضات
شبه اجماع في المؤسسة الاميركية الحاكمة، ديموقراطيين وجمهوريين، بأنه “لو فاز ترامب فسيكون رئيسا كارثيا.” المقصود في الشق “الكارثي” هو ابتعاده عن سياسة المواجهة، مع روسيا والصين، وترجيحه سياسة التفاهم والاحتواء، وقد يسميها البعض سياسة الانكفاء.
كان من الطبيعي ان يلقي ترامب سهام انتقاداته نحو الرئيس اوباما واركان سياساته الخارجية، هيلاري كلينتون وجون كيري، وفي كل المحافل والاتجاهات، لا سيما في الحرب الدائرة مع “الاسلام الراديكالي .. الذي لا يسميه الرئيس اوباما كذلك،” موضحا ان احتواء تلك الظاهرة “ينبغي ان يتصدر اولويات السياسة الخارجية .. وانظروا للاعداد الكبيرة من المهاجرين المتهمين بالارهاب.” وزعم ترامب ان ادارة الرئيس اوباما لازمات الشرق الاوسط “تركت ارثا من الضعف والبلبلة والفوضى .. (وانه) سيكون اكثر صرامة في التعامل مع ايران التي برزت كقوة (اقليمية) عظمى على حساب اسرائيل.”
اما منافسته السيدة هيلاري كلينتون فقد رمى سهامه باتجاهها محملا اياها مسؤولية الهجوم الدموي على القنصلية الاميركية في بنغازي ومقتل السفير الاميركي لدى طرابلس، كريس ستيفنز، والتي “تجسد فشل سياسات ادارة الرئيس اوباما في اظهار عناصر القوة الاميركية حول العالم.” واضاف ان “الاهداف الاميركية في الشرق الاوسط ينبغي ان تكون هزيمة الارهابيين وتعزيز الاستقرار الاقليمي، وليس التغيير الجذري” للانظمة الوطنية.
بالمقابل، ارتكب ترامب خطيئة كبرى بانتقاده الرئيس السابق جورج بوش الابن في العراق، الأمر الذي لم تدعه الماكينة الحزبية يمر مرور الكرام، مذكرا مرارا بصوابية موقفه من معارضة العدوان على العراق قائلا “شن الحرب والاعتداء لن يشكلا الخيار الغريزي الاول بالنسبة لي،” متعهدا باللجوء للبديل العسكري ونشر القوات البرية كخيار اخير، ومطمئنا “اصدقاءنا وحلفاءنا بان اميركا ستعود قوية مرة اخرى، وجديرة بالاعتماد عليها.”
زيف “عقيدة ترامب“
جملة شعارات منتقاة، بعضها بعناية كبيرة، تدغدغ عواطف الجمهور لا ترتقي لمستوى “عقيدة او مفاهيم” يمكن البناء عليها. واستنكر عدد لا باس به من اقطاب السياسة الخارجية “عقيدة ترامب،” التي تفتقد لعناصر الرؤى الاستراتيجية والمصداقية.
الناطق بلسان وزارة الخارجية الاميركية، جون كيربي، طمأن الصحافيين بأن “قادة العالم ليسوا قلقين من (تصريحات) ترامب” النارية،” (24 نيسان الجاري).
عرّف ترامب عقيدته بنفسه قائلا “.. انها القوة، انها القوة. لا أحد سيعبث بنا. قواتنا العسكرية ستكون الاقوى..“عقيدة ترامب، مجازا، عبارة عن اعادة انتاج لقيم المحافظين وتشبثهم بالوطنية والمواطنية، ووجدت تجلياتها لدى العديد من الزعماء السياسيين في العقود الماضية واسست لصعود الفاشية والنازية.
تطبيقات “عقيدة ترامب“
صدم ترامب المراقبين بتصريحه يوم 30 آذار متعهدا في حال فوزه بالانتخابات “سيسحب القوات الاميركية من كوريا الجنوبية واليابان، وسيسمح للبلدين بتطوير اسلحة نووية.” وسارع البيت الابيض بانتقاد تهوره قائلا عبر نائب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، بن رودس، بأن “السياسة الخارجية الاميركية، وعلى امتداد 70 عاما تركزت على منع انتشار الاسلحة النووية .. واي تغيير في ذلك الأمر سيكون كارثيا على الولايات المتحدة.” (31 آذار 2016)
بيد ان “تهور” ترامب لم يأتِ من فراغ، ويعززه تنامي نزعة اقلاع الجمهور الاميركي عن الانقياد السريع وراء التدخل العسكري الاميركي في الخارج، والتساؤل عن الحكمة من الابقاء على معدلات التدخل العسكري الراهنة، اضافة لطبيعة الحلفاء الذين تنتقيهم واشنطن.
يشير البعض الى ان جمهور ترامب من المؤيدين ليسوا بالضرورة من الملتزمين بالحزب الجمهوري، بل ان جزءا لا بأس به وخاصة الفقراء، يعارض او غير متحمس على الاقل، لاتفاقيات التجارة الحرة او تعديل مزايا برامج الدعم الحكومية، ولا يبدون حماسا زائدا لسياسة الحزب الجمهوري في تجريم الاجهاض، فضلا عن عدم رضاهم عن مغامرات التدخل العسكري التي، باعتقادهم، حرمتهم من التمتع بالاطمئنان والرفاهية لمستقبلهم الاجتماعي والاقتصادي. بل وتوسعت مدارك تلك الشريحة في المجتمع الاميركي بمطالبة كبار الرأسماليين والسياسيين الوفاء بتعهداتهم والمساواة الضريبية التي يتهربون منها.
في الشق العملياتي، يراهن البعض على ترامب وقدرته على “تحديث” الماركنتيلية لتتجاوب مع متطلبات وتحديات القرن الحادي والعشرين، لا سيما وان دولا كبرى مثل الصين تتطلع لسيادة الجانب الاقتصادي في السياسة الخارجية، بل ستشكل محور اجتذاب التأييد من قوى ومراكز اقتصادية اميركية متعددة وتمنحها فرصة افضل من سياسة اوباما الحالية.
لو اتيح له ذلك، وفق مؤيديه، في البعد السياسي سيكون بمستطاع ترامب “ليس اعادة اللحمة الى صفوف الحزب الجمهوري فحسب، بل ارساء الأسس السياسية للفوز بانتخابات عدة مقبلة.”
فريق ترامب للسياسة الخارجية والأمن القومي – لتاريخه:
كيث كيلوغ: عسكري سابق في صفوف القوات البرية؛ ترأس احدى كبرى الشركات الاستشارية للبنتاغون، كاكي، لغاية عام 2009، والتي تورطت في اساليب تعذيب المواطنين العراقيين في سجن ابو غريب.
كارتر بيج: مدير استثمارات مصرفية، حذر حديثا من انكفاء عدد من الدول عن التعامل مع الولايات المتحدة ان استمرت في لعب دور شرطي العالم.
جورج بابادوبولس: مستشار سابق في شؤون النفط والغاز لدى شركة انكليزية مقرها لندن، ومدير مركز لندن العالمي لممارسة القانون الذي ينادي بتعزيز السلم العالمي، مما يضعه بموازاة قناعات ترامب في الحذر من التدخل الخارجي.
وليد فارس: من اصول لبنانية وعمل مستشارا لشؤون السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري السابق ميت رومني عام 2012. واقر فارس في مقابلة اجرتها معه اسبوعية ماذر جونز، 2011، ان له علاقات ودية مع الميليشيات اللبنانية، لا سيما القوات اللبنانية، التي ارتكبت العديد من المجازر وجرائم الحرب في لبنان. واحجم فارس عن التعليق على المقابلة المذكورة. ويشغل فارس منصب محاضر في جامعة الدفاع الوطنية بالعاصمة واشنطن، اضافة لحضوره المستمر على شاشة فوكس نيوز.
جوزيف شميتز: شغل منصب المفتش العام في البنتاغون، 2002-2005، خلال فترة الاعداد للعدوان واحتلال العراق. اتهم شميتز بتلقي “هدايا ثمينة” خلال منصبه مما يعد انتهاكا للارشادات الاخلاقية المنصوص عليها، واضطر للاستقالة عام 2005، منتقلا لشركة بلاك ووتر، سيئة السمعة.
غاري هاريل: عسكري محترف في قوات الجيش وخدم في كل من العراق وافغانستان، قدم استقالته عام 2008 من منصبه كمدير في قيادة القوات الخاصة بالجيش الاميركي.
تشاك كوبيك: مسؤول رفيع سابق في سلاح البحرية الاميركية، وخدم في العراق كقائد لوحدة الانشاءات البحرية. يمتلك كوبيك مكتب استشارات هندسية لصالح الحكومة الاميركية ومشاريعها في بعثاتها الديبلوماسية في كابول وكراتشي وبانكوك.
بيرت ميزوساوا: افضل مستشاري ترامب المخضرمين في الجانب العسكري، والحائز على الميدالية الفضية، ثالث اعلى تكريم عسكري عن خدمته ابان الحرب الكورية.