هل يدعم أوباما «المناطق الأكثر أمناً» في سوريا؟: بروكسل – وسيم ابراهيم
«ملكيةٌ أكثر من الملك». انطباق هذا التندّر على المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل هو أحد المفارقات التي لا تكف تعقيدات الحرب السورية عن إفرازها. ليس فقط لأن الأمر يتعلق بشأن عسكري، المانيا عادةً هي الأكثر حذراً من الانخراط فيه، بل لأن الملك هنا هو القوى العسكرية الأكبر في العالم.
وقفت ميركل لدعم إقامة «مناطق آمنة» في سوريا، ليقف جنبها الرئيس الأميركي باراك أوباما مواصلاً التحفّظ على الطرح. لكن في النهاية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين متقاطعة. حاجتهم لدعم مناطق آمنة، في سياق الابتزاز التركي الناجح جداً، تعني أن واشنطن معنية بتأمين هذه الحاجة أيضاً. الخلاصة هي الاتفاق على نسخة متجددة من الطرح القديم، مع تحول كبير في تطبيقه يجعله منوطاً باتفاق طرفي الصراع السوري في جنيف، وليس مفروضاً بأي حال.
الرئيس الأميركي أعلن خلال جولته الأوروبية أنه موافق على الطرح الالماني، المستمد أصلاً من اتفاق بين الاوروبيين وتركيا على وقف تدفقات اللاجئين. غير ذلك، جدد أن أي تحرك لفرض تلك المناطق بالقوة «صعب جداً»، مشيراً إلى أنه سيتطلب حينها «التزاماً عسكرياً كبيراً» لإنشاء تلك الملاذات.
أما ميركل فكانت تقف بشكل صلب في كفة «الممكن»، أو رؤية الجانب الممتلئ من الكأس، خصوصاً أنها في أمّس الحاجة الآن لإنجاح الاتفاق مع أنقرة. رأت أن ثمة حاجة أكيدة لتلك المناطق، لتوفير ملاذات آمنة للاجئين داخل سوريا، لكنها أقرت بعدم إمكانية فرضها من الخارج. الطرح الأسلم، وفق سرديتها، أن تكون المسألة على أجندة التفاوض في جنيف، على أن يتفق طرفا الصراع على تعيين مناطق يمكن للاجئين اعتمادها بوصفها «آمنة على وجه التحديد».
مصدر أوروبي متابع عن كثب للقضية أكد لـ «السفير» أن التوافقات الأخيرة «لا تعني أي تغيّر بالنسبة لسياستنا»، قبل أن يضيف «لا زلنا نتحرك في إطار الاتفاق المبرم مع تركيا، وليس هناك أي تحرك جديد بالنسبة للمناطق الآمنة». لكن مصادر أوروبية أخرى أكدت أن الاتحاد الأوروبي «وضع القضية على أجندة عمله السياسية، هناك عمل ديبلوماسي وضغوط جدية لجعلها تتقدم في إطار المفاوضات».
لم تكن هذه القضية عابرة، بل شغلت لأسابيع الفرق التي عملت لانجاز الاتفاق بين الاوروبيين وتركيا. بعد أخذ ورد، أقرت الصفقة المشتركة بكلمات واضحة أن «الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء سيعملون مع تركيا في أي مسعى مشترك لتحسين الظروف الإنسانية داخل سوريا، وعلى وجه الخصوص في مناطق محددة قرب الحدود التركية بما يسمح للسكان المحليين واللاجئين بالعيش في مناطق سوف تكون أكثر أمناً».
وضعت تركيا الأمر كإحدى دعائم بناء منطق الصفقة. قالت إنه من غير المقبول أن يغلق الأوروبيون حدودهم، وأن يواصلوا في الوقت ذاته مطالبتها بفتح حدودها. الحل، كما قدمته، بان يسكتوا عن إغلاق الحدود، مع العمل المشترك على تأمين وتمويل إنشاء مناطق يقيم اللاجئون فيها داخل سوريا.
آخر نسخة من إصدار «المناطق الآمنة» بالتفاوض، كما قدمتها ميركل، كانت أشارت إليها «السفير» سابقا، حال انجاز الصفقة الشهر الماضي. حينها قالت مصادر أوروبية منخرطة في المفاوضات أن أحد نماذج العمل للتطبيق هو «الضغط السياسي لوضع هذه القضية على أجندة عمل جنيف»، مع التأكيد أنه «يمكن إيجاد مناطق أكثر أمناً عبر إعلان أطراف الصراع بأنها تلتزم بعدم استهداف مناطق محددة تكون مخصصة لمخيمات اللاجئين قرب الحدود التركية».
المصادر الأوروبية كانت حاسمة بأن التكتل الأوروبي أكد للأتراك أنه لن ينخرط عسكرياً، في حين شدد أحد الديبلوماسيين على أن دعمهم للمناطق الآمنة تؤطره مشروطية «طالما لسنا مضطرين للقتال من أجلها».
الدعم الأميركي لنسخة ميركل من «المناطق الآمنة» ليس عبثياً. أوباما قال بصريح العبارة إن ما يضرّ الاتحاد الأوروبي يعنيه مباشرة، فكيف إن كان يشكل تهديداً، أو يقدّم على هذا الاساس. أكد أوباما خلال جولته أن بلاده معنية بالمساعدة كي يواجه الاتحاد الأوروبي «أزمة» تدفقات اللاجئين.
هذا الموقف يأتي من إدراك واشنطن للتبعات التي سببتها القضية. أحزاب اليمين المتطرف تصعد على طول أوروبا، مستثمرة موضوع اللاجئين على أفضل نحو، فيما أبرز شعاراتها العودة إلى الدولة الوطنية. بهذا تشكل تلك الاحزاب تهديداً مباشراً لصلب المشروع الأوروبي، ذاك الذي أعلن أوباما أن تقويته، بما في ذلك بقاء بريطانيا داخله، تشكل أولوية للسياسة الأميركية. لا عجب هنا في رؤية العلاقة المميزة التي تربط موسكو بزعماء اليمين المتطرف الأوروبي، اللقاءات وكيل المديح المتبادل، فكلاهما مستفيد من إضعاف الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي استراتيجي.
لكن تلك الأسباب لم تجعل واشنطن قابلة لتغطية المناطق الآمنة بتحرك عسكري. وزير الخارجية الاميركي جون كيري شدد الشهر الماضي على صعوبة العملية، موضحاً أن حماية تلك المناطق سيستلزم نشر بين 15 الفاً إلى 30 ألف جندي أميركي. كان ذلك مؤشراً جديداً على رفض أي انزلاق لتدخل عسكري، مثلما أكد أوباما نفسه هذه الرسالة مؤخراً. لا يحتاج الاتراك لجنود أميركيين، كما أكدت مصادر في حلف «الناتو» مؤخراً، لكن قراراً سياسياً يتجلى بتوفير مظلة الحظر الجوي. الأمر ترفضه واشنطن بشكل قطعي، ومصادر الأطلسي كانت أكدت أن المسؤولين الأميركيين قالوا إن هكذا خطوة يمكن أن تجرّ إلى صدام مع روسيا لا يريدونه بأي شكل.
التداول حول «المناطق الآمنة» بين واشنطن وأنقرة لم يتوقف على مدار الحرب السورية. أطلقت تسميات عديدة في إطار البحث عن صيغة توفيقية. تحدثت القيادة التركية عن مناطق «آمنة» و «عازلة»، في حين أيدت واشنطن صيغة مناطق «خالية من داعش»، قبل أن يخرج كيري ويقول إن لديهم «اتفاقاً كاملاً» مع أنقرة حول إيجاد مناطق «مغلقة» أمام «داعش» من دون أن تظهر أي خطوات جدية.
يبدو أن هذا التداول، مع الطرح الالماني والاستساغة الأميركية المشروطة، جرى احياؤه مؤخراً. وزير الخارجية التركي مولود جوايش اوغلو قال أمس إنه يأمل في التوصل إلى خطوات «ملموسة»، مشيراً إلى وجود محادثات جارية مع واشنطن هدفها «تطهير هذا الشريط الذي طوله 98 كيلومتراً من داعش».
تزامن ذلك مع اعلان اوغلو ان واشنطن وافقت على تزويد بلاده ببطاريات صواريخ «هايمارس»، المضادة للصواريخ، لتنشر على الحدود مع سوريا بحلول الشهر المقبل. هدف نشر تلك البطاريات، كما شرح اوغلو للصحافة التركية، زيادة فعالية مواجهة «داعش»، فمداها يصل إلى 90 كيلومتراً، وهو ضعف مدى المدفعية التركية المتمركزة هناك.
باستمالة واشنطن لتطبيق «مناطق أكثر أمناً»، من باب الحاجة الأوروبية، تكون أنقرة استثمرت ورقة اللاجئين في عملية ابتزاز محكمة. كل مرة تظهر أبعاد جديدة لم تكن طافية على السطح.
لم تستبعد مصارد أوروبية في الأصل أن يكون هدف الاتراك من المناطق الآمنة هو منع وصول الاكراد السوريين للمناطق التي أعلنوها فدرالية أمرٍ واقع. قالت المصادر إن الاتراك في النهاية يطبقون أيضاً مناطق «آمنة» بحكم الأمر الواقع، مع ابقاء حدودهم مغلقة وجعل تلك المناطق مرصوفة بمخيمات اللاجئين.
إضافة لذلك، وفق ما نقلت مراسلة صحيفة «صندي تايمز» قبل أيام من غازي عنتاب، يتخوف أكراد تركيا من بناء مدن للاجئين السوريين غايتها تذويبهم هناك. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن سابقاً نيته بناء مدينة للاجئين. أحد تلك المشاريع هو إشادة مدينة تتسع لنحو 30 ألف لاجئ، في منطقة تضم 22 بلدة كردية داخل تركيا في اقليم كرهمان مرة. تلك المخاوف تثار فيما تمارس أنقرة سياسة صارمة في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، مهددة بكسر شوكته نهائياً بعد انهيار محادثات السلام بينهما.
(السفير)