السعودية ومغامرة اسطنبول
ناصر قنديل
– تفرح واشنطن كثيراً إذا تمكّنت السعودية من استصدار بيان ختامي للقمة الإسلامية في اسطنبول يلبّي تطلعاتها بإدانة ما تسمّيه دعم إيران للإرهاب وتسمية حزب الله كتنظيم إرهابي، بمثل ما تفرح إذا نجحت تركيا عبر دعمها للجماعات المسلحة شمال سورية من إقامة توازن عسكري في وجه الجيش السوري وحلفائه، تماماً كما تفرح إذا نجحت «إسرائيل» بفرض قواعد اشتباك جديدة في معادلات الردع مع المقاومة التي يتصدّرها ويقودها حزب الله، لكن كل هذا شيء وقراءة واشنطن للوقائع شيء آخر.
– واشنطن التي تقف خلف الستار في حياكة التفاهم السعودي «الإسرائيلي» ببعده الاقتصادي المستقبلي الذي يقدّم لـ«إسرائيل» فرصة مقايضة تراجع النفوذ العسكري بدور اقتصادي محوري في سوقَي الترانزيت والنفط عبر لعب دور النافذة المتوسطية بين الخليج وأوروبا، تدرك أنّ ذلك مرتبط بقدرة حكومة بنيامين نتنياهو على تقديم وصفة تسوية للقضية الفلسطينية يستطيع الملك السعودي تقديمها للعرب والمسلمين، كعنوان لحلّ تاريخي مقبول للقضية الفلسطينية ولو على مراحل.
– تدرك واشنطن أنّ حصول السعودية على دعم مصري تركي باكستاني لمواجهة إيران وإقامة توازن بوجهها، قد لا يتحقق لاعتبارات كثيرة أبرزها التعقيد الذي يطرحه وجود تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر، وثانيها حجم ردود الفعل المصرية على مستوى النخب والشارع التي واجهت تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وثالثها التقييم المصري والتركي والباكستاني لمعنى الانخراط السعودي في تسوية اليمن ومدلولاته عن حجم الشعور بالعجز السعودي عن مواصلة الحرب، ورابعها تداخلات مصالح الحدود في وجه الأكراد بين إيران وتركيا وفي وجه التنظيمات المتطرفة من البلوش والأشتون بين إيران وباكستان، وخامسها المصالح الاقتصادية العضوية التي تربط بين إيران وكلّ من تركيا وباكستان في أسواق النفط والتجارة، وخصوصاً أنابيب النفط والغاز الإيرانية عبر باكستان إلى الصين، مقابل ما تتطلع إليه تركيا من لعب دور الوسيط بين إيران وأوروبا في زمن ما بعد العقوبات، وهذه المصالح لا تعوّضها مساعدات سعودية لخزينة كلّ من البلدين.
– لا يفوت واشنطن مراقبة حجم العروض التي تتلقاها كلّ من تركيا ومصر وباكستان، من مصادر مختلفة لعائدات التموضع المنفرد على خط التسويات، وتصدّر جبهة حلفائها في الاستدارة، طالما أنّ نهاية الخط تبدو استدارة سعودية تقود المجموع، فمصر تتلقى عروضاً روسية وتركيا تتلقى عروضاً إيرانية وباكستان تتلقى عروضاً صينية، وكلّ ذلك يرسم علامات استفهام حول مدى تحقق الآمال السعودية من قمة اسطنبول، رغم الجهد الشخصي للملك سلمان، وما قد يجري على مستوى مقاطعة الرئيس المصري للقمة تحت ضغوط شعبية وسياسية للقمة، يشكل مؤشراً على الفارق بين التوقعات والوعود من جهة والوقائع من جهة مقابلة.
– تتموضع واشنطن على خط ما أنجزته في التفاهم على الملف النووي الإيراني وما تضمّنه من إقرار بمكانة إيران كدولة إقليمية أولى، وتراقب وتشجّع التموضع السعودي في التسوية اليمنية، وتراقب وتشجع وتدير التقارب السعودي «الإسرائيلي»، والتمهيد لبوليصة تأمين اقتصادية لـ«إسرائيل» تسدّد من الجيبين السعودي والمصري، لكنها لا تغامر بوضع رصيدها للدخول في مكاسرة جديدة مع إيران تعرف تبعاتها في مواجهات المنطقة الممتدّة من سورية إلى العراق واليمن ولبنان، حيث يتمدّد تنظيم «القاعدة» بفروعه المتعددة وفي مقدّمتها «داعش»، وحيث إيران والحلفاء وحدهم يشكلون السدّ المنيع في وجه هذا التقدّم، وحيث التجاوب الإيراني مع خط التسويات وحده يمنح الأميركيين خروجاً مشرّفاً من حروبهم الفاشلة، فلا تتورّط واشنطن بممارسة أيّ إيحاء أو إشارة لمجاراة التصعيد السعودي نحو القاهرة وأنقرة وباكستان، مكرّرة ما فعلته يوم أعلنت السعودية قيادتها لتحالف إسلامي ضدّ الإرهاب، فباركته وصمتت، وتركت للعواصم إقامة حساباتها الخاصة، فرحّبت مصر ولم تنضمّ عسكرياً، وقالت تركيا إنها ستدعم عن بُعد، وأعلنت باكستان أنها خارج هذا التحالف، ويوم قادت السعودية حملة قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وقفت واشنطن موقفاً مشابهاً، فخرجت تركيا وباكستان تتحدّثان عن وساطة.
– تسعى واشنطن لتكتل يضمّ حلفاءها في القمة الإسلامية يؤكد قدرتهم على تشكيل قوة توازن مع إيران، لكنها تريد ذلك من خلال قدرة التفاوض والانخراط في التسويات، وسط تعقيد السقوف المتفاوتة لعلاقة كلّ منهم بإيران من جهة، ومسابقة التنافس بينهم في السعي لمن يكون شريك إيران التفاوضي، وما قد تحفل به من انخراط بعضهم في لعبة التشجيع للبعض الآخر على التصعيد للمزيد من التوريط، وليس لجدية السير في الخيارات التصعيدية في ضوء قراءة مسار العلاقات الدولية والإقليمية لإيران ومكانتها المتنامية، لأنّ التنافس ليس قائماً على زعامة حرب لن تقع ومعلومة النتائج، بل التنافس جار على السعي للوقوف على خط النهاية في الصور التذكارية لموائد التفاوض، والتصعيد ليس إلا وصفة سريعة تضمن التحوّل إلى ورقة تفاوضية ولا تصنع مفاوضاً بالضرورة.
(البناء)