مقالات مختارة

الدستور… هو الأرخص؟ العميد منير عقيقي

ما من دستور في العالم يشبه الدستور اللبناني. او بالاحرى ما من احد يتعامل مع دستور بلاده كما يفعل اللبنانيون في مباشرتهم حياتهم السياسية. في غالبيتهم يصمّون الآذان بالسؤال عن الدولة والتغني بالديموقراطية، علما ان مبدأي الدولة والديموقراطية ركيزتيهما الدستور بوصفه ناظما لآلياتهما ايا تكن الصفة او العنوان.
كل دول العالم، عبر التاريخ، نمت وتطورت وفقا للقواعد والنصوص الدستورية التي ارتضتها شعوبها لنفسها. اما اللبنانيون، فعلى حالهم منذ كان لبنان الحديث، حيث الدستور في يومياتهم نوعا من الترف، او ذريعة تعليل ومحاججة يتم سوقها متى تعذر شحن النفوس بخطابات خشبية. الدستور، على ما هو عليه، أنى عُدْت لتقرأه بهدف تعيين “سياسي” او “تنظيمي” يتصل بشؤون الجمهورية المشلولة بامراض مختلفة.
الغالب في الاداء السياسي لبعض القوى يحسم بوجهة واحدة: الدستور هو الارخص والاكثر دنوا بحيث يسهل العبور خلاله، من دون ان يرف جفن للعابر عليه او فوقه. صحيح انه ليس نصا مقدسا. لكنه في المبدأ وفي الازمات ليس من غيره سبيل الى الشروع في تطوير الدولة، او وضعه على مسار التحديث ليعبر بالجمهورية وشعبها نحو مصاف الدول الراقية.
قبل انفجار الحرب على ارضنا، لم يرتض اللبنانيون ـ على تنوعهم السياسكريتاريا (الاحزاب التي عسكرت بنيتها) ـ بالدستور حَكَما او مرجعا لمعالجة مسألة السيادة وحماية الحدود وتنظيم الوجود على خريطة الصراع العربي ـ الاسرائيلي. بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ”اتفاق الطائف” في 22/10/1989، سلك اللبنانيون مسالك الشكوى والتذمر جراء عدم تطبيق الدستور في ما خص قانون الانتخاب وانتخابات رئاسة الجمهورية والتمديد للمجالس النيابية وقضايا تنظيمية اخرى، ودائما كانت “المخارج” حاضرة حينا بحجة الصراع مع اسرائيل، واحيانا بدعوى الخصوصيات الطائفية، وغالبا بذريعة الامن، واحايين باستعارة ارشيفية في غير موضعها وغايتها “لا غالب ولا مغلوب” للراحل الرئيس صائب سلام، حتى صار خرق الدستور عرفا ونوعا من المتنفس للاطراف السياسيين.
تجلت الحياة السياسية اللبنانية من ألفها الى يائها في التفتيش عن ايجاد الصيغ الملائمة للخروق الدستورية وكان ابسطها خطير. هنا حق طرح التساؤل التالي: كيف يستقيم مسار الحياة السياسية في حين تكون هناك وقائع لخروق دستورية وفي الوقت نفسه ندعو الى التمسك بالديموقراطية؟ كأن الدول وُجدت لتدير نهارها وليلها يوما بيوم، من دون اية معايير ضابطة، او وفقا لاهواء وعصبيات ما انزل بها الله من سلطان. فيرتفع سقف الخطورة في استرخاص الدستور وفي استسهال نتائج الانقسام الوطني العامودي والافقي والاسطواني، واهمال ما تكابده الجمهورية من خسائر مادية ومعنوية في كل الاتجاهات، وأنى كانت المعايير او الحجج التي تُقاس بهما الامور.
قلما مرت البلاد بقطوع سياسي او امني، الا كانت الصيحات ترتفع تفجعا على الدستور الذي صار مطية ذهابا وايابا. حينا يلبسونه رداء النص الحرفي، واحيانا يوشحونه بـ”الروحية”، وفي الحالين فإن الضحية هي الدستور الذي هو وحده الضامن لحرية المواطنين واعتقاداتهم وحرية التعبير في ما يؤمنون به او يدعون إليه. اما الاصطفافات السياسية والتذرع بالدستور، فإنها تسلب المواطن نفسه وتدرجه في خانة الارقام القابلة للتعديل متى وُضعت في اي معادلة.
خرق الدستور، واستسهال القفز عليه ومن فوقه، يُضيّق دائرة حرية العمل السياسي ويعدم افقه. علما ان بداية السياسة وغايتها بناء الدولة وفقا لدستور يحافظ عليها، قابل للتحديث والتطوير ليتلاءم وحاجة الشعب ومستقبله وثقافته وقيمه الحضارية، وفي صلبها المواطن كإنسان وليس رقما قد يطيح مقومات استقلال الدولة وسلطتها العامة وسلمها الاهلي.

*مقالة رئيس تحرير مجلة الأمن العام العميد منير عقيقي في العدد 31 الصادر بتاريخ 5/4/2016

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى