سياستان متكاملتان: توطين النازحين وتصدير الإرهابيّين؟ د. عصام نعمان
قادة دول الغرب الأطلسي، كما الأمين العام للأمم المتحدة، يعتقدون أنّ توطين النازحين السوريين في الدول المجاورة هو الحلّ الأمثل. لترويج هذه السياسة تمهيداً لممارستها، زار لبنان أخيراً بان كي مون ومعه فريق من القياديّين الاقتصاديّين الأمميّين، وبعده وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند، وقريباً يزوره الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.
دول الاتحاد الأوروبي، بتشجيع من الولايات المتحدة، كانت عقدت مع تركيا صفقة بمليارات الدولارات لقاء وقف تهريب النازحين من شواطئها إلى أوروبا، ونقل الآلاف منهم من جزر اليونان إلى الأراضي التركية، وربما أيضاً لتوطين بعضهم في أراضيها.
بان كي مون لم ينفِ خلال زيارته لبنان انخراط الأمم المتحدة في مخطط توطين النازحين حيث هم. غير أنه صرّح بعد مغادرته أنّ ثمة خطة لتوطين أكثر من 400 ألف نازح قبل نهاية العام 2018 من دون أن يحدّد الدول التي ستتحمّل هذا العبء الثقيل. مون قد يلجأ لاحقاً إلى تبرير انخراط الأمم المتحدة في الخطة الخطيرة بالإشارة إلى التزام لبنان طوعياً باتفاقية 1951 الناظمة لحق اللجوء، ولا سيما أحكامها المتعلقة بالاندماج المحلي التوطين وإعادة التوطين في بلد ثالث، والعودة الطوعية إلى البلد الأصلي. مع العلم أنّ النازح السوري لا ينطبق عليه مفهوم اللاجئ.
يتوافق معظم أهل السياسة في لبنان على رفض التوطين سنداً لأحكام الفقرة «ط» من مقدمة الدستور، إلاّ أنهم يقفون حائرين، متخوّفين من سياسة التوطين وانعكاساتها السلبية على تركيبة البلاد الديمغرافية من جهة، ومن جهة أخرى على النازحين السوريين أنفسهم الذين بات عددهم يربو على مليون ونصف المليون.
فريق من القادة السياسيين المحافظين يجاري غالبية اللبنانيين في رفض التوطين، لكنه لا يمانع البتة في قبول ما تَعِد به الأمم المتحدة ودول الغرب الأطلسي من مساعدات للنهوض بأعباء النازحين الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، يشكك فريق آخر وأكبر في أغراض بعض دول الغرب الأطلسي الضالعة في دعم التنظيمات الإرهابية في سورية أو في الإحجام عن محاربتها، ويخشى من أن تؤدّي سياسة دعم النازحين حيث هم إلى دمجهم تدريجاً وصولاً إلى توطينهم في سياق مخطط معادٍ لوحدة سورية، وبموجب ترتيباتٍ مريبة يجري إعدادها لتشمل مجمل دول المشرق العربي.
ثمة أساس للتشكيك في سياسة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا حيال ما جرى ويجري في لبنان وسورية والعراق. ذلك أنها لا تشارك مجتمعةً، داخل «التحالف الدولي ضدّ الإرهاب»، ولا منفردةً خارجه في محاربة فعّالة لـِ»داعش» و»النصرة» سواء على حدود لبنان الشرقية عرسال ورأس بعلبك ومنطقة القلمون خصوصاً أو في سورية محافظات دير الزور والرقة وإدلب ودرعا أو في مناطق العراق المحاذية للحدود التركية. كما لا تبذل جهداً لوقف دعم تركيا والسعودية بعض تنظيمات «المعارضة المعتدلة» التي ثبت تعاونها مع «النصرة»، وذلك لعدائها لحكومة الرئيس بشار الأسد.
اللافت والمريب أنّ الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لا تنفك تعلن بلا كلل «أن لا دور للأسد في مستقبل سورية»، متجاهلةً الانعكاسات السلبية لهذا الموقف على وقف الأعمال العدائية أو حتى الهدنة القائمة في سورية، ولا على المفاوضات غير المباشرة التي يرعاها مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا في جنيف.
كلّ ذلك يطرح أسئلة مفتاحية: هل يمكن فعلاً التوصل إلى حلّ سياسي للنزاع إذا ما ثابر قادة نافذون في أميركا وفرنسا وبريطانيا على الإعلان بأن لا دور للأسد في الفترة الانتقالية؟ ألا يشجع هذا الموقف بعض فئات المعارضة السورية على عدم المشاركة في مفاوضات جنيف أو عرقلتها، في الأقلّ؟ ألا يؤدّي ذلك، تالياً، إلى تلغيم الوضع الميداني القائم وربما إلى تفجير الحرب مجدّداً ومحاولة تدويمها؟
من الواضح أنّ استمرار المسؤولين في واشنطن وباريس ولندن بموقفهم السلبي من الأسد لا ينبع من مشاعر شخصية بقدْر ما يعبّر عن مقاربة سياسية، يظنّ أهل القرار في الغرب الأطلسي بأنّ من شأنها التأثير في محور طهران دمشق – قوى المقاومة العربية لحمل قادته على القبول بتنازلات سياسية أو ميدانية معينة لمصلحة حلفائهم الإقليميين.
هذه المقاربة الأطلسية الملتبسة لن تحمل الأسد وحلفاءه على التراجع عن سياسته المعلنة بمتابعة الحرب لغاية تنظيف مناطق البلاد جميعاً من التنظيمات الإرهابية، كما لن تدفعه إلى التخلي عن سلطته ودوره أثناء المفاوضات لإصراره على أنّ معنى الانتقال من الوضع السياسي القائم إلى وضع جديد يكون بمتابعة العمل بالدستور الحالي لحين الاتفاق بين الأطراف السوريين المتفاوضين على دستور مغاير.
كذلك لن تضير هذه المقاربة تنظيم «داعش» الذي، وإنْ يشعر بتضافر قوى معادية عديدة ضدّه لاقتلاعه من مناطق دير الزور والرقة والموصل، إلاّ أنه وضع هذا الاحتمال الراجح في حسبانه باعتماد استراتيجيا معدّلة لنشاطه الإرهابي. فقد نسبت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية إلى اثنين من أعضاء «داعش» كانا شاركا في اجتماع مركزي ضمّ نحو 200 من قادته في بلدة الطبقة السورية أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قولهما إنّ الاجتماع المذكور قرّر أمرين: الأول، إعطاء السيطرة على السكان الأولوية على السيطرة على الجغرافيا. الثاني، تصعيد تصدير الفوضى إلى أوروبا.
هذه الاستراتيجيا المعدّلة باشرها «داعش» بسرعة قياسية بدليل عملية باريس الإرهابية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ومن ثم عملية بروكسل الأخيرة، كما يُفترض أن يكون قد قرّر «تعويض» أيّ خسارةٍ محتملة في دير الزور والرقة والموصل بتصدير مزيد من الإرهابيين إلى أوروبا علاوةً على عديد الخلايا النائمة المنتشرة فيها أصلاً.
في ضوء هذه الواقعات المعززة بأدلة وشواهد عدّة، يمكن الاستنتاج أنّ سياسة التوطين الأطلسية تتكامل، مباشرةً أو مداورةً، مع سياسة تصدير الإرهابيين الداعشية.
فهل بمثل هذه المقاربة الملتبسة والمتناقضة يستطيع الغرب الأطلسي، حتى لو كان جادّاً، محاربة الإرهاب وقهره؟
(البناء)