ماذا بعد تحرير تدمر؟ د. ليلى نقولا
في وقت يعيش العالم أجمع تداعيات الأزمة السورية، بعدما تناثر السوريون في شتى أنحاء العالم، مهاجرين ولاجئين يطلبون الأمن والاستقرار في بلاد الغربة القاتلة، تعيش سورية الوطن على وقع أخبار تقدُّم الجيش السوري وتحريره مدينة تدمر، التي سارعت إيطاليا إلى إعلان أنها مستعدّة لإرسال مجموعة من “القبعات الزرق الثقافية”، والتي كانت قد أسستها في شباط من عام 2016.
لا شكّ أن تحرير تدمر سيكون بمنزلة نقطة فاصلة بين مرحلتين في سورية؛ مرحلة الحرب العالمية المفتوحة على الجيش والنظام السوريين، ومرحلة التفاهم مع الجيش السوري في المعركة المفتوحة ضد الإرهاب، بعدما أثبت أنه “الجهة الوحيدة” المؤهَّلة لهذه المهمة في سورية، وقد تكون مؤشرات بروز هذه القناعة الدولية بضرورة التعاون مع الجيش السوري والقبول بخيار بقاء النظام قد سبقت مرحلة تحرير تدمر، لكنها بالتأكيد ستتخذ من تحرير تدمر نقطة مفصلية لتشجيع تعاون “ظاهر” بشكل أكبر.
واللافت في مسار الحرب السورية الطويلة الممتدة منذ سنوات خمس ولغاية اليوم، أنه ولأول مرة يعيش السوريون الموالون للنظام الأمل، بينما تغرق الجهة المقابلة بالقنوط والإحباط، في ظل توجّه حثيث لجبهة “أصدقاء سورية” للتأقلم مع خيارات أخرى، قد يكون “أهونها” التعاون مع الجيش السوري، لاسيماوهم يشاهدون القاطرة الأميركية قد بدّلت مسارها وانخرطت في مسار إيجابي مع الروس، مخلّفة العديد من المحبطين والشاتمين والمربَكين خلفها، خصوصاً بعدما تمّ الإعلان من موسكو أن الأميركيين اقتنعوا بعدم الحديث عن مصير الأسد في هذه الفترة الراهنة. ومن المفيد النظر إلى حال هؤلاء، وهي على الشكل الآتي:
– تعيش أوروبا هاجس الإرهاب المتغوّل واللجوء غير المسبوق، والذي قد يطيح بالحكومات الأوروبية الحالية، ويؤدي إلى انهيار عقد الاتحاد الاوروبي، وقد يكون صعود اليمين المتطرف واستعداده لاكتساح الانتخابات الأوروبية هو الذي دقّ النفير في أوروبا، لضرورة تغيير حقيقي في السياسة الخارجية الأوروبية، والذي ستتبدى معالمه حتماً في التنسيق مع الجيش السوري؛ كنز المعلومات الاستخبارية، وستكون لهذا التغيير مسارات خجولة في البداية انطلاقاً من الترحيب بتحرير تدمر، تمهيداً لتعامل “واقعي” مع النظام السوري في جنيف، إلى أن يختفي الحديث كلياً عن “نظام ديكتاتوري فقد شرعيته”، فتغيب “المزايدات الإنسانية” عن ألسنة المسؤولين الأوروبيين، وتتحول إلى “حرص على مصير الشعب السوري وحقناً لدمائه”، ولولا خوف هؤلاء على خسارة السلطة لصالح اليمين وانهيار الاتحاد برمته نتيجة اللجوء والإرهاب، لما توانى الأوروبيون عن الاستمرار في سياسة حرق الشرق الأوسط وأهله وحضارته، خدمة لزبائنية يقيمونها مع السعودية وتركيا وقطر.
– أما في الإقليم، فليس حال تركيا بأفضل بكثير من السعودية، التي تعاني من فشل حربها في اليمن واستعدادها للتفاوض مع “الحوثيين” ومبادلة مئات الأسرى، تمهيداً لوقف آلة الحرب العسكرية التي باتت تُرهق المملكة وتزيد في تركيز الأضواء العالمية على سجلّها في حقوق الإنسان، وقد يكون من المؤشرات المقلقة للمملكة، تزايد التركيز الإعلامي والسياسي في أوروبا على دور السعودية في تغذية الإرهاب، واتساع مساحة الانتقادات، وقد يكون أبرزها الوثائقي الذي عُرض في بريطانيا عن الحياة داخل المملكة وسجلها في حقوق الإنسان، والتعييب على حكومة كاميرون الصامتة، كما الحديث عن دور السعودية في بروز “التطرف الإسلامي” في أوروبا، وتزايد الدعوات إلى إغلاق المساجد المموَّلة سعودياً، والتي تسوِّق نسخة راديكالية للإسلام، والتي يلجأ إليها المهاجرون من أصول عربية ومسلمة غير القادرين على الاندماج، فتأخذهم إلى التطرف والعنف وتكفير الآخر، في ظلّ غض نظر واضح من السلطات الأوروبية لم يعد مقبولاً من شعوبهم.
وبالعودة إلى تركيا التي انتشر فيها الإرهاب وتعيش حرباً أهلية حقيقية في بعض مناطقها، بينما تنتشر الفوضى الأمنية على طول الحدود المشتركة مع سورية والعراق، وتدهور الاقتصاد وانتشار البطالة، وتقلُّص السياحة بعد موجة العمليات الانتحارية، وامتناع السيّاح الروس الذين يشكّلون النسبة الأهم من السياحة التركية، وعلى الرغم من مراهنة الإيرانيين على تحوّل ما في السياسة التركية تجاه سورية، عكسته تصريحات أحمد داود أوغلو فيإيران، إلا أن التقارير تشير إلى أن الأتراك لم يستسلموا، وأن ما قاله أوغلو هو للاستهلاك الإعلامي، وأنهم مستمرون في حشد المسلحين وإدخالهم إلى الداخل السوري للقتال.
في المحصلة، تبدو استدارة الأميركيين واضحة في سورية، والحل السياسي الروسي – الأميركي سيفرض نفسه على الجميع، وبناء عليه سيستدير الآخرون تلقائياً، ومن لا يكون قادراً على التكيّف مع المرحلة المقبلة سيدفع الثمن غالياً.. استدارة الأوروبيين قد تكون سهلة،ولهم تاريخهم في البيع والشراء، لكن ماذا عن تركيا والسعودية؟ سلوك أصحاب القرار لا يدفع إلى التفاؤل، لذا ما على العالم سوى أن يتفرج على مشهد جديد بعد تدمر؛ صعود سورية مجدداً، وانهيار أعدائها.