مواجهة الإرهاب بالعنف فقط تستولد إرهاباً مضاداً… د. عصام نعمان
بات الإرهاب طبقاً يومياً كريهاً على «موائد» مواطني دول العالم. مَن لم «يتذوّقه» حتى اليوم سيفعل في غدٍ قريب. إنه طبق كريه يُعَدُّ في مطابخ محلّية «ويؤكل»، غالباً، في جوارها. قد تُوضَع وصفته تركيبته وبعض مواده في الخارج، لكن تقديمه وتناوله يجريان على «موائد» بلدية في الشوارع والساحات العامة وفي الأمكنة المكتظة خصوصاً.
حتى أمسٍ قريب كانت دول كبرى وإقليمية تزوّد مطابخ إرهابية في سورية والعراق واليمن وليبيا وتونس ومصر موادَّ طازجة وأخرى بائتة لإعداد أطباق إرهابية كريهة جداً بغية تقديمها في «مطاعم» عربية وأوروبية. فعلت ذلك سراً وحذّرت من خطورة تناولها علناً.
ليس ما رسمناه مشهداً سوريالياً. إنه مشهد يومي بالغ الواقعية يعانيه أفراد وجماعات وشعوب في دول المشرق كما في دول الغرب. قادة أميركا وأوروبا أدركوا أخيراً خطورة أطباق الإرهاب على صحة مجتمعاتهم. قرّروا وقف تصدير موادّ طازجة لمطابخ الإرهاب. لعلهم اتفقوا أيضاً على ضرورة تدمير مطابخ الإرهاب لوقف إعداد «وجبات» ملغومة وترويجها. بصريح العبارة: لولا مجازر باريس ثم بروكسل الإرهابية لما تنبّه قادة أوروبا وأميركا إلى مخاطر استشراء الإرهاب في عقر بلدانهم واحتمال تحوّله نووياً. لذا أخذوا يرفعون شعاراً موحداً: «الإرهاب خطر عالمي». ولأنه عالمي فإنّ مواجهته يجب أن تكون عالمية.
ما العمل لمواجهة الإرهاب محلياً وعالمياً؟
دول أوروبا جادّة في مواجهته داخلياً ومتردّدة خارجياً. أميركا وروسيا تبدوان أكثر جدّية في هذا المجال. جون كيري، بتفويضٍ من رئيسه، ناقش في موسكو مع فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف مفردات برنامج متكامل لمواجهة الإرهاب عالمياً. الدولتان العظميان اتفقتا في قضايا واختلفتا في أخرى.
اتفقتا على هدف استراتيجي مركزي: منع تنظيمات الإرهاب من التمركز في أيّ بلد كي لا يصبح لها مقراً ومنطلقاً، وللإرهابيين مغناطيساً جاذباً ومأوى وساحة تدريب وإعداد. يترتّب على ذلك استئصال «الدولة الإسلامية داعش» من سورية والعراق عاجلاً ومن ليبيا واليمن لاحقاً. لا قيد على الجيش السوري في حملته المتصاعدة لاقتلاع «داعش» من تدمر ودير الزور والرقة. لا تحفّظ على مشاركة «الحشد الشعبي» في معركة تحرير الموصل من «داعش» وحلفائه. باختصار، لن يكون لـِ «داعش» أيّ مقر أرضي ثابت محصّن في أيّ مكان.
إلى ذلك، ثمة اتفاق على تعاون وتنسيق أوسع في ميادين الاستخبارات والاستقصاءات للوقاية المسبقة من أفعال الإرهاب ومفاعيلها قبل حصولها. وثمة اتفاق أيضاً على أمور تكتيّة مهمة:
ـ إطلاق يدّ روسيا في دعم سورية لتنظيف مناطقها من «داعش».
ـ إطلاق يد أوروبا في ليبيا لتخليصها من «داعش» في سياق دعم حكومة وطنية جامعة تعمل لاستعادة وحدتها.
ـ لجم تركيا الساعية لإقامة «منطقة آمنة» في شمال سورية في سياق خطةٍ لإضعاف حكومة دمشق، كما حركة الكرد الرامية إلى إقامة مناطق حكم ذاتي في سورية وتركيا.
غير أنّ ثمة قضايا خلافية بين واشنطن وموسكو تتطلّب حلاً أو تسوية:
ـ مستقبل الرئيس بشار الأسد. واشنطن تريد أن يكون بقاؤه في السلطة مقيّداً بمرحلة انتقالية لها بداية ونهاية. موسكو تريد أن يبقى هذا الأمر من صلاحية السوريين أنفسهم، سواء في مفاوضات أو انتخابات.
ـ تحديد مستوى الحضور والنفوذ الروسيّيْن في سورية ومثيلهما الأميركيّيْن في العراق.
ـ مناهج وطرائق التعامل مع كلّ من تركيا والسعودية وإيران لتقليص حضورها في سورية والعراق واليمن، وبالتالي نفوذها فيها.
غير أنّ تعاون واشنطن وموسكو لإطفاء الحرائق في دول غرب آسيا يتطلّب تفاهماً على إنهاء الأزمة المستفحلة في كلّ من سورية والعراق واليمن. واشنطن تبدو مستعدّة للتسليم بدور واسع لموسكو في دول غرب آسيا. فالنفط لم يعد هاجساً ولا دافعاً لها إلى احتكار دور الشرطي والحامي والوصي على مقدرات المنطقة. ثمة مصالح وموارد ومخاطر أهمّ وأخطر في شرق آسيا تتطلّب حضوراً ودوراً أميركيّيْن وازنَيْن ما يدفع واشنطن إلى التساهل في شأن ما تبقّى لها في غرب آسيا لتكسب الكثير مما ينتظرها في شرقها.
يتزامن انحسار نفوذ أميركا المتدرّج في الشرق الأوسط مع صعود مضطرد في دور كلّ من إيران وقوى المقاومة التي ترعاها وتركيا و»إسرائيل». إيران أضحت بفضل اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات من جهة وتنامي قدراتها العسكرية، ولا سيما الصاروخية، من جهة أخرى دولةً إقليمية مركزية، محكوم على واشنطن وموسكو أن تحسبا لها حساباً.
تركيا لها مطامحها ومطامعها والقدرة أيضاً على ممارسة دور مؤثر إزاء اللاعبين الآخرين في المنطقة، رغم تقلّص هامش المناورة أمامها عقب اندلاع اضطراباتها الأمنية الداخلية.
«إسرائيل» تبقى أسيرة ثنائية مربكة: أمنها القومي المهدّد بصعود إيران وقوى المقاومة العربية المتحالفة معها من جهة ومفاعيل سياستها الاستيطانية التوسعية من جهة أخرى. وهي إذ تشعر باهتمام أميركي متراجع بهواجسها ومطامعها، تسعى إلى الانفتاح على دول الخليج وإيجاد أرضية مشتركة لتحالف استراتيجي معها في وجه كبريات الدول الإقليمية الصاعدة.
غير أنّ تحدّياً استراتيجياً وازناً يبقى ماثلاً في وجه كلّ الدول، كبيرها وصغيرها، المعنية بمواجهة الإرهاب. إنه محدودية مردود العنف في مواجهة الإرهاب على المدى الطويل. فمواجهة الإرهاب بالعنف فقط تُنتج، غالباً، إرهاباً مضادّاً وتستولد تالياً حلقة مفرَغة مستدامة من العنف والعنف المضادّ.
من هنا تستبين الحاجة إلى ابتداع برنامج سياسي وثقافي متكامل لمكافحة الإرهاب على الصعيدين الاقتصادي الاجتماعي، والفكري – الثقافي. ذلك أنّ مجتمعات وجماعات وأفراداً يرتعون في أوضاع البؤس والفقر والمرض والبطالة من جهة وفي مراتب متدنية من الأمية والجهل واضطراب التعليم والتربية والتغذية الروحية من جهة أخرى يصبحون أرضاً خصبة لاستنبات التعصب والعنف وتكوين عناصر بشرية متأهّبة لاعتماد الإرهاب نهجاً وطريقة حياة.
(البناء)