يسألونك عن الأوطان!! بنت الأرض
في كلّ ما تمخّض عن «الجحيم العربيّ»، والذي طال بلداناً عربية عدّة، وسعى إلى تشظيها وتدميرها، وإلغاء إرثها الحضاري، تبلورت مسألة غاية في الأهمية، وهي تعريف «الوطن»، ومستوى فهم وتقييم العرب لـ «أوطانهم»، ومدى استيعابهم لقصة «المواطنة»، وأهمية الأرض التي أنجبت واحتضنت، فكانت أساس عزّتهم وحضارتهم على مرّ العصور. علّ الذلّ الذي لحق باللاجئين الذين غادروا أوطانهم طوعاً أو كراهية – علّ ذاك الذلّ هو أكبر شاهد على أهمية الأوطان، وضرورة أن تكون عزيزة وكريمة ومُصانة. إذ لا مجد ولا عزّة ولا كرامة لمن ليس لديه وطن، مهما ظنّ أنّه محصن بالثروات، علا شأنها أو صَغُرْ. وعلّ أهمّ درس يمكن أن يتعلّمه العرب، على وجه الخصوص، بعد كلّ هذا المخاض المرير، والذي كلّفهم الكثير، هو أن يعيدوا النظر بتعاملهم مع أوطانهم، بإجراءات صيانة هذه الأوطان، والطرق التي كانت متّبعة للحفاظ عليها، وأين أخطأوا وأين أصابوا، وما هي مواقع الخلل التي أوصلت الأمور إلى هذا الدرك المرعب!!
وإذا أردنا أن نبدأ من أشدّ الظواهر وضوحاً للعيان، فلنبدأ بجولة الحوار الثالثة التي انتهت الأسبوع الماضي في جنيف، لنتأمّل في سلوك مجموعة تدّعي الحرص على وطنها وتطالب بالحقّ في تمثيل أهله، فنجد أنها قادمة للحوار حول مصير الوطن وهي محاطة بشركات أمريكية وبريطانية وفرنسية يبلغ تعدادها العشرات، مموّلة من قبل أعداء سورية وممولي الإرهاب. كلٌّ حسب اختصاصه، وهؤلاء يوجّهون من يدّعون الحرص على سورية بكلمة ينبسون بها، وبكلّ فكرة توضع على الطاولة وتخصّ مستقبل سورية، ومستقبل أطفالها وشبابها ونسائها، لا بل وترى ممثلين عن مكاتب هؤلاء يظهرون في الإعلام، ويتحدّثون عن واجبات الوفد الحكومي من إبداء المرونة إلى الاستجابة لرؤاهم التي تنبثق من النظرة الاستعمارية التي أعدّتها الشركات، والتي لم تمتْ يوماً في ضمائرهم وأنفسهم وعقولهم، بل تحولّت من استعمار مباشر إلى استعمار غير مباشر يستخدم أدواتٍ وأموالاً محلّيةً لينفّذ كلّ أهدافه من امتصاص خيرات البلاد، إلى إيقاف عجلة التقدّم، إلى الحكم بالموت على العلم والعلماء وعلى الوطنيين والقوميين والشرفاء والحريصين فعلاً على عزّة الوطن ورفعته وسُؤدده.
ولهذا فإنّ وفد الجمهورية العربية السورية الذي مثّل بلاده خير تمثيل في جنيف، لم يكن يحاور الأشخاص الذين ظهروا في الواجهة بذريعة أنهم سوريون، بل كان يحاور الدول التي تقف وراءهم والتي، ومنذ بداية الحرب على سورية، دأبت على تدمير بلد عربي تلو الآخر وبأموال عربية من أجل تحقيق مصالحها فيه، وتحويل البلدان العربية إلى مستعمرات تابعة لهم بغطاء يلبس لبوس الحرّية والديمقراطية، ولكنّه يمثّل في جوهره اغتصاب الإرادة واحتلال الأرض والأنفس والقرار. ولذلك فإنّ الجهود المستميتة التي تبذلها تلك الدول، إقليمية كانت أم دولية، تهدف إلى تنصيب بعض هؤلاء في مراكز اتخاذ القرار، لأنها تعلم أنهم يأتمرون بأوامرها ويتّخذون من الشعب السوري غطاء لتنفيذ مخططاتهم التدميرية لبلد عربي شامخ ومستقلّ. منذ البداية إذاً وحتى اليوم، في الميدان وفي الحوار، يخوض الشعب السوري وممثلوه معركة الاستقلال الحقيقي، ومعركة الدفاع عن استقلالية القرار والرأي والموقف، وهذا هو جوهر الاستقلال اليوم وكنهه ومبتغاه.
وإذا ما استذكرنا واستعرضنا تجارب دول أخرى في العالم من منطقتنا إلى آسيا إلى أمريكا اللاتينية، نكتشف أنّ الحراك السياسي اليوم في العالم من قبل الدول الاستعمارية يهدف إلى تنصيب حكومات عميلة للأجنبيّ الغربي، لا تقيم وزناً لرأي الشعب، ولا لمصلحة البلد، أو مستقبل أبنائه. وقد بدؤوا هذه التجربة في أفغانستان، عندما أوجدوا القاعدة ودعموا طالبان، وهم يبذلون قصارى جهدهم اليوم في أمريكا الجنوبية لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء ومعاقبة الحكومات الوطنية المستقلّة التي فرضت وجودها في العقدين الأخيرين هناك، واستبدالها برجالات يستمدّون شرعيتهم ونفوذهم من الأجنبيّ المتربّص خارج حدود الأوطان. ومن هذا المنظور يمكن أيضاً قراءة أوضاع دول عربية وقراراتها التي تتخذ ضدّ مصلحة العرب ولغتهم وتاريخهم وكرامتهم ومستقبل أجيالهم. إذ لم يعد كافٍ للأوطان اليوم أن يكون حكّامها قد ولدوا على أرضها ويتعلمون لغتها، بل لا بدّ أن يكونوا منتمين انتماءاً خالصاً لمصلحة هذه الأرض ومستقبل أجيالها. بعيداً عن أطماع المحتلين ومخططات المتربّصين.
«الأوطان» إذاً ليست شعارات يحملها أبناؤها ليتنعموا بثروات من يستهدفها، وينفّذوا أوامر من يسعى إلى خرابها بحثاً عن ثروات وسلطة وهمية، بل «الأوطان» هي التي تعيش في الضمائر وتملي على ساكنيها التضحية والعناء والعطاء من أجل استمرارها وعزّتها وكرامتها. لقد فهمت أمهات الشهداء والجرحى هذه المعادلة بفطرتهنّ وأحاسيسهنّ التي لا تخطئ، بينما عجز مدّعو الثقافة والعلم والمعرفة عن ملامسة هذه المعادلة وتاهوا في غياهب المال الحرام والانسياق وراء ذلّ الاستعباد. وقد نكون اليوم نشهد نهاية معركة، ولكنّ معركةً أخرى أكبر وأهمّ تقرع أبوابنا، وقد تكون حاسمة، ولا بدّ أن يكون عنوانها: «استقلال الرأي والفكر والموقف شرطٌ جوهريّ للاستقلال الحقيقي والدائم للوطن العربي والسوري».