مقالات مختارة

بروكسل غارقة في صدمتها: «داعش» قدوة! بروكسل – وسيم ابراهيم

 

لم تفعل تفجيرات بروكسل سوى تأكيد المؤكد: الغرب أمام نموذج جديد من «الإرهابيين»، بعدما صنع له تنظيم «داعش» دولته المزعومة لتكون محميّة للمجرمين.

الهجمات نفذها رجال عصابات، معروفون وملاحقون، ولديهم سجلهم الجنائي المحفوظ. «دولة الخلافة» المزعومة باتت، قولاً وفعلاً، تعلي خصال الإجرام، وتقول لمن يحملها إنه يمكنه أن يفخر بها، وأن يجعلها حتى في خدمة قضية «مقدسة». يقول له «داعش» إنه عندها يمكن لإجرامه أن يكون سامياً. الغرب أمام محمية الإجرام هذه يواجه تهديدات لا يمكن حصرها، حتى يمكن مواجهتها أصلاً. تقديس الإجرام يولّد أبطالاً وقدوات لشبان مهمّشين، في أحياء المعازل، بعدما فشلت دولهم الغربية في جعلهم مواطنيها.

العمل على سرد الرواية الكاملة للاعتداء الجديد لا يزال جارياً. بدأ اليوم التالي لتفجيرات بروكسل الإرهابية بلحظات صمت خاشعة، حداداً على الضحايا، لينتهي بصمت مدوٍ من الأجهزة الأمنية بعد تأكيدات أن أحد الانتحاريين كان سابقاً في متناول يدها.

تمكنت الأجهزة البلجيكية من تحديد هوية ثلاثة من أصل أربعة منفذين. بينهم الأخوان البلجيكيان إبراهيم وخالد البكراوي، في العشرينات، أولهما هو الأكبر وفجّر نفسه في صالة المطار، أما الثاني فكان الانتحاري الذي نسف محطة الميترو قرب المؤسسات الأوروبية. بعد تلك السرعة في تحديد المرتكبين، جاءت الأنباء لتحبط ذلك من تركيا.

تولى رئيسها رجب طيب أردوغان بنفسه الإعلان عن أن إبراهيم تم احتجازه ثم ترحيله إلى بلجيكا، بناءً على طلبه، في حزيران الماضي. المرجح أنه مرتبط بشبكة «الجهاديين» الغربيين في سوريا. قال الأتراك إن بلجيكا تجاهلت تحذيراتهم بأن الرجل انخرط في القتال. ليس معروفاً بدقة كيف ملأ تلك الفترة حتى انتهى في المطار. لكن كان يكفي انتشار صوره، حتى يشير العديد ممن يعرفونه إلى رجل عصابات لم يروه منذ مدة.

التحريات لا تزال جارية لتحديد هوية الانتحاري الثاني في المطار. صور كاميرات المراقبة أظهرت متورطاً ثالثاً كان يجر عربة الحقائب. مصادر الشرطة أبلغت وسائل إعلام محلية أنه نجيم العشراوي، الملاحق بسبب ارتباطه أصلاً بهجمات باريس. هناك رواية تقول إنه تم رصد العشراوي برفقة صلاح عبد السلام، المطلوب الأول الذي ألقي القبض عليه قبل أيام، خلال انتقاله بين دول أوروبية قبل انخراطه في هجمات باريس. تلك الرواية، مع شبهات أخرى تخص من عرف من منفذي هجمات بروكسل، ترسم خيوط تشابك كبير بين منفذي هجومَي العاصمتين الفرنسية والبلجيكية.

نباهة وتعاون سائق سيارة أجرة قادت إلى تفاصيل أخرى، كانت لتجعل الهجوم أكبر وقعاً. الرجل انتبه إلى أنه هو من أقلّ المنفذين إلى مطار بروكسل. روى للشرطة كيف لفته ثقل أمتعتهم، قبل أن يقود رجال المداهمة إلى عنوان الشقة التي انطلق منها المتنكرون بمظهر السياح. عثرت قوات الأمن في الشقة على كمية معتبرة من المتفجرات والمواد الكيميائية، وكلها كانت مجهزة لتكون عبوات. قال السائق إن المنفذين أعلموه بوجود خمس حقائب لديهم، لكنهم لم يأخذوا سوى ثلاث.

رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس كان بين من توافدوا على بروكسل في يوم حدادها الوطني الأول. قال إن البلدين «متحدان أكثر من أي وقت مضى»، مطالباً بتحرك أوروبي لأن «أوروبا هي التي هوجمت».

لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكر رواية الاحتجاز التركي لأحد المتورطين، ثم نجاحه في التواري، لمعرفة مدى تعقيدات قضية «الجهاديين». التحرك بإيقاع بطيء وغير حاسم جعل القضية خارج السيطرة. حين نشرت «السفير» مقالة «من يحوّل سوريا إلى أرض جهاد عالمي» في آذار 2012، كان هناك من يتحدث فيها عن انتشار التجنيد علناً، لدرجة أنه بات مناسبة للتندّر.

السلطات لم تلاحق المسألة بحزم، كما هو الحال في معظم الدول الأوروبية المعنية. الآن وُضعت التشريعات اللازمة، تم تشديد الإجراءات الأمنية والقانونية بما يمكّن من اعتقال من تظهر عليه نيات «الجهادي»، لكنها لأشهر لم تطبق كما يُفترض بها. وكالة الشرطة الأوروبية «يوروبول» لطالما اشتكت من التقصير: هناك فريق عمل خاص بـ «المقاتلين الأجانب»، لكن الأجهزة الأوروبية لا تضخ إليه المعلومات التي بحوزتها إلا بقدر ضئيل. لزم الأمر حصول هجمات باريس حتى تزيد الأجهزة ضخ المعلومات الاستخبارية، ولكن لم يكن بالشكل المرضي لمن ينتظرونها.

سيقال الآن ما قيل سابقاً. المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب ردد بعد هجمات باريس أنه لا يمكن اختراع إجراءات جديدة، بل ينبغي تطبيق القرارات والآليات المتخذة بشكل أفضل. ربما سيكرر الشيء نفسه خلال الاجتماع الوزاري الطارئ اليوم، حينما يلتقي المسؤولون الأوروبيون عن شؤون العدل والأمن.

إعلان هويات بعض من نفذوا هجمات بروكسل يعيد التأكيد على سجل مشابه يجمع كثيرين من مريدي «داعش» الغربيين، أو على الأقل أولئك الذين انخرطوا في هجمات إرهابية. إنهم يحققون للتنظيم الإرهابي أفضل ما يتمناه، ناقلين رسائل وحشيته لتكون مدوية. الهجمات باتت الحدث الأول في العالم، وكل ما يتصل بها يعود ليقفز خبراً أول. هؤلاء «الجهاديين» المرشحين، أصحاب السجلات الجنائية، لديهم كل المهارات اللازمة للمهمات «الداعشية».

إنهم يجيدون التخفي والانسلال، لا يخشون مداهمات الشرطة ولا تصدمهم، يهربون ويختفون حتى يكاد لا يظهر لهم أثر. لديهم بنية تحتية للإجرام، يمكن لها أن تمضي بحمولات ناسفة أيضاً. لا يجدون ضالتهم في «دولة الخلافة» للاشيء. إعلاناتهم المنتشرة عن الجرائم الوحشية التي تصورها تؤكد لهم، كل مرة، إنهم قصدوا العنوان الصحيح. إنهم مجرمون، هذا قبل كل شيء، وهي لا تطلب منهم التخلي عن ذلك. إنها تحتاجه أكثر من أي شيء آخر، لتصنع لهم محمية للمجرمين، جاعلة ما كان يلطخ حياتهم عنواناً للمباهاة. هل هناك ما يجعلهم يحسون بسمو هذا الإجرام أكثر من تغليفه بأسماء الدين والتقوى؟!

القلق ليس فقط من المجرمين في ملاذهم «الداعشي». الخوف من شباب مهمّش في الأحياء المعزولة، تلك الموصومة بكونها ذات غالبية مهاجرة ترفض الاندماج. حينما تم اعتقال المطلوب الأول عبد السلام، لم يتردد بعض الفتية في القول إنه ليس إرهابياً بل بطل بالنسبة لهم. هؤلاء ليس لديهم سوى الحنق على مجتمع لم يجعلهم يصدقون أنهم مواطنون فيه، متساوون مثل غيرهم، بل تثبت لهم أنهم مهما فعلوا لن يكونوا سوى أولئك «من أصول» ما، وبنية سلبية معظم الأحيان.

ليس أدلّ على ذلك مما ذكره مرة لاعب كرة القدم الفرنسي الشهير كريم بن زيما: حينما أسجل هدفاً أكون الفرنسي الرائع، وحينما أضيّع ضربة جزاء أعود ذلك الجزائري اللعين. في فرنسا كما في بلجيكا ينمو التطرف في هوامش أحياء المعازل، ولا شيء يوقفه. الدول التي صممت برامج الإدماج، دفعت عليها الأموال علامة لعقود، لم تجد نفسها مضطرة لإنجاحها، كما هو الحال مع أي مشاريع عامة تتعرض للمراجعة وليس مسموحاً بفشلها. في دائرة الخطر تلك شبان، فتية، يتجرعون التطرف في البطالة واليأس. مخاطر انزلاق هؤلاء إلى مستنقع «داعشي» أو ما شابه، كما حصل مع بعضهم، تجعل التهديد خارج أي إمكانية للسيطرة.

يعرف ذلك جيداً من يخرج الآن على الإعلام ليخبر بالجديد حول هجمات بروكسل. حينما قابلت «السفير» المدّعي العام الفيدرالي فردريك فان ليو، خلال منتدى حول مواجهة التطرف ومخاطر «الجهاديين»، كان موافقاً على حديث خبراء قالوا إن الخطورة حين يشعر شبان أوروبيون، مهما كانت أصولهم، أن «لا مصلحة ولا مكان لهم في المجتمع الأوروبي».

قال فان ليو، في تلك المقابلة، إن النزاهة تقضي القيام باعتراف جماعي ومؤلم. مُقراً بـ «الفشل» في تحجيم ظاهرة «الجهاديين»، لفت إلى أنه «سؤال كبير لمجتمعنا، فعلينا طرح السؤال: لماذا كل هؤلاء يريدون السفر للقتال هناك. المجتمع بأسره عليه مواجهة هذا السؤال»، قبل أن يخلص إلى أنه «علينا القيام بمساءلة حقيقية، فالواقع أن هؤلاء الشباب تربوا هنا، ضمن ثقافتهم لكن ضمن الثقافة الأوروبية، وبالنسبة لي هم أوروبيون حقيقيون».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى