مقالات مختارة

عقارب الساعة الاقليمية بتوقيت بوتين اصداؤها تثبِّت معادلة تعدد القطبية د.منذر سليمان

 

     اجمعت كافة الاوساط الاميركية والاوروبية على انها اخذت على حين غرة بقرار الرئيس الروسي سحب قواته الجوية العاملة في سوريا “لتصادف الذكرى الخامسة” للأزمة السورية، باستثناء الاردن الذي اعلن انه “اخذ علما مسبقا بخطط الرئيس بوتين .. منذ مطلع العام الجاري،” حسبما افاد “مسؤول اردني رفيع” لاحدى وكالات الانباء الاميركية .

     ابرزت الصحف الاميركية “صدمة” المسؤولين الاميركيين من قرار الرئيس بوتين، ووصفته يومية واشنطن بوست بأنه “انسحاب مفاجيء .. اعاد ترتيب خطوط الصراع الطاحن، ووطد نفوذ موسكو ليس في ساحة المعركة فحسب، بل على طاولة المفاوضات ايضا.” واستطردت ان القرار “حظي باهتمام ديبلوماسي فوري من الولايات المتحدة .. وترتب عليه الاعداد لزيارة وزير الخارجية جون كيري لموسكو، الاسبوع المقبل، لبحث (ترتيبات) الانسحاب وخيارات المرحلة السياسية الانتقالية في سوريا.” (15 آذار 2016).

     الناطق الرسمي باسم البنتاغون، بيتر كوك، علق فور اعلان الرئيس بوتين، 14 آذار، ان وزارة الدفاع “تنتظر لترى، مثل الآخرين، ما بوسع الروس فعله فيما يخص الاشارة الى انسحاب جزئي .. كما جرت العادة على امتداد الاشهر الستة الماضية، سنقوم بتقييم (الخطوة) الروسية استنادا الى الافعال، وليس الاقوال.” واستدرك بالقول ان البنتاغون “سترحب” بقرار الرئيس بوتين سحب قواته ان كانت بهدف تعزيز وقف اطلاق النار.

     وسرعان ما اوضحت الاوساط الاميركية ان اعلان الانسحاب الروسي من سوريا “ليس انسحابا تاما، فروسيا ستبقي على منشآتها البحرية والقواعد الجوية هناك، مما سيتيح لها العودة سريعا ان تطلبت المتغيرات الميدانية ذلك .. بل لا تنوي روسيا سحب النظام الصاروخي للدفاع الجوي القوي اس-400، كوسيلة ردع لعدد من الدول مثل تركيا والسعودية وحتى الولايات المتحدة، التي قد تراودها فكرة انشاء مناطق حظر للطيران فوق بعض الاراضي السورية.”

     حرصت الدوائر الاميركية المعنية بالصراع في سوريا، سياسيا وعسكريا، الاشارة الى بُعد توقيت الانسحاب للتأثير على سير المفاوضات السياسية في جنيف، من ناحية، واتاحة الفرصة الميدانية لقوات الجيش العربي السوري استعادة السيطرة على “كافة الاراضي الخاضعة للمسلحين ..”

     وعزت تلك الاوساط دوافع الرئيس الروسي لاتخاذ قراره الذي يعد “انقلابا استراتيجيا” بأنه “ادرك متى يتعين عليه الانسحاب قبل الانغماس والتورط في أزمة اخرى .. وقد اوضح الرئيس اوباما ان ذلك عينه يشكل مسار التدخل الروسي.” ووصف احد الخبراء العسكريين قرار روسيا بأنه “في واحدة من المرات القليلة في التاريخ، يقدم زعيم سياسي على سحب قواته العسكرية في الوقت المناسب عوضا عن الخروج المتأخر جدا.”

     واشد ما تخشاه واشنطن وحلفاءها ان انسحاب روسيا لن يؤدي الى ممارستها ضغوطا اضافية على الرئيس الاسد ووفده المفاوض في جنيف، بل ترجمة الصمود الميداني بمواقف صلبة في مسار المفاوضات.

السعودية توسع رقعة حضورها

     اقطاب معسكر الحرب والتدخل العسكري في واشنطن اعربت عن اعتقادها بأن “انسحاب روسيا المفاجيء قد يفتح الابواب امام تدخل تقوده الدول العربية ضد هدف مزدوج: الدولة الاسلامية وبشار الاسد.” (نشرة “فورين بوليسي،” 15 آذار)

     واوضحت النشرة ان مناورات “رعد الشمال” المشتركة التي جرت على الاراضي السعودية الاسبوع المنصرم شكلت “اضخم مناورات عسكرية اقيمت في الشرق الاوسط على الاطلاق،” من بين اهدافها “ارسال رسالة قوية لايران .. وتعزيز قدرات القوات السعودية لتنسيق مناوراتها مع الدول المتعددة المشاركة.” شاركت 20 دولة بقوات بلغ حجمها 350 ألف جندي و 20 ألف دبابة ومدرعة وعشرات السفن الحربية ونحو 2500 طائرة مقاتلة.

     واستطردت النشرة نقلا عن الاوساط العسكرية الاميركية ان “المسرح الرئيس للصراع في المنطقة هو سوريا،” ورمت المناورات الى تسجيل سلسلة مواقف متشددة في هذا الصدد “لكل من روسيا وايران وسوريا .. وعزم (السعودية) ارسال قوات برية للقتال هناك، التي ستشكل قواتها ضمانة أمنية للاراضي السنية في سوريا.”

     بعض الخبراء الاميركيين اعربوا بوضوح عن اعتقادهم بأن مناورات “رعد الشمال” ربما أتت أُكلها من حيث انها كانت “حربا وهمية .. بيد ان الهدف هو الاعداد لتدخل عسكري في سوريا .. بانفراد وبمعزل عن مشاركة اميركية،” يعززه تحول مسار السياسة السعودية الى “توسيع آفاقها الجيوستراتيجية” في الاقليم.

     حمية التدخل العسكري حفزت بعض القيادات العسكرية الاميركية، حسبما ورد في تقرير فورين بوليسي المذكور، الى الدعوة لانشاء حلف جديد في الاقليم قوامه “القيادات السنية (السعودية) واسرائيل وحلف الناتو .. كمنصة انطلاق متقدمة للاستراتيجة الاميركية – على الرغم من العقبات المواكبة له.” الهدف النهائي للحلف “احتواء ايران، طمأنة اسرائيل، وانشاء منطقة مستقرة ومزدهرة في الشرق الاوسط مع مرور الزمن.”

     عودة لادعاء الاردن بعلمه المسبق بقرار الانسحاب الروسي، اوردت يومية ديفينس نيوز، 15 آذار، المختصة بالشؤون الدفاعية واخبار البنتاغون، على لسان المسؤول الاردني الرفيع قوله ان خطة الانسحاب تم تداولها في موسكو، كانون2/يناير 2016، مع وفد عسكري اردني سوري مشترك، ضم قائد الاركان مشعل الزبن ونظيره السوري فهد جاسم الفريج، مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لبحث “التطورات العسكرية على الحدود السورية الاردنية المشتركة.” واضاف المصدر الاردني ان مدير مكتب الأمن الوطني السوري، علي مملوك، عقد سلسلة لقاءات مع المسؤولين الاردنيين في الاشهر القليلة الماضية “لبحث تداعيات الغارات الجوية الروسية على المسلحين في المنطقة الحدودية المشتركة.”

     ما تجمع عليه الاوساط العسكرية الاميركية ان التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ شهر ايلول / سبتمبر الماضي “انجز معظم الاهداف المرسومة، ليس في بُعد تعديل الحسابات الميدانية فحسب، بل اعاد التوازن والثقة القتالية للجيش العربي السوري وتمكينه من استعادة المبادرة والسيطرة.” كما ان خطوط امداد المسلحين من تركيا “قد قطعت” نتيجة الغارات الروسية.

الانسحاب في الداخل الروسي    

     شكلت تجربة التدخل العسكري السوفييتي في افغانستان، 1979، درسا ملازما للسياسة الروسية وادراك القيادات الروسية، لا سيما الرئيس بوتين، للضرر طويل الأمد الناجم عنه. قرار الانسحاب من سوريا، وما رافقه من انجازات ميدانية ملموسة، اسهم مباشرة في استقرار الاوضاع الأمنية، من ناحية، ووضع حدٍ للمخاوف السابقة من التورط والتحول للشأن الداخلي.

     الثابت في قرار التدخل الروسي في سوريا انه لم يستند الى كسب الحرب والصراع بنصر مؤزر، اذ من العسير الاعتقاد ان سلسلة غارات جوية مكثفة ومستدامة باستطاعتها حسم الميدان الذي اوكل للجيش العربي السوري. فالقرار جاء لتعزيز قدرة الجيش السوري وامداده بالمعدات الضرورية لتقدمه على الارض.

     واستطاعت روسيا احراز انجازات ديبلوماسية مواكبة للميدان خاصة فيما يتعلق بمراهنتها على كسب القوى الكردية في الشمال السوري، وامدادها بالاسلحة والمعدات، وفي الحسبان اثارة الازعاج لتركيا وتهور قراراتها السياسية، فضلا عن ان خطوتها باتجاه الكرد ارست قدرا اعلى من اطمئنان القوى الاقليمية للمراهنة والاعتماد على الدعم الروسي، مقارنة بتذبذب الموقف الاميركي حيال القوى عينها. فالاهداف الروسية من وراء سوريا لها ابعاد استراتيجية، ليس الا. واضحت روسيا، بعد التدخل والانسحاب، لاعبا اكتسب اهمية اضافية في التأثير على المسار المستقبلي لسوريا مقابل تراجع حدة الاندفاع الاميركي وحلفائه الاقليميين.

     لعل ابرز الانجازات الروسية في هذا الشأن، فيما يتعلق بلعبة الكبار الاستراتيجية، ردع حلفاء اميركا من تركيا والسعودية، والى حد ما الاردن، من ادامة النزيف السوري، وضرب اسفين في علاقة واشنطن ومراهنتها على “الجيش السوري الحر” الذي فقد الجزء الاكبر من “تشكيلاته” نتيجة خسائره الميدانية وانسحاب البعض وانضمام البعض الآخر لتنظيمات متشددة. واعادت موسكو بوصلة الخطر الى تهديد “الدولة الاسلامية” على اوروبا مجتمعة واستغلالها لموجات هروب اللاجئين عبر الذوبان في السيل المتدفق على البلدان الاوروبية.

     الدوائر الاميركية هي اول من يقر بتعزيز روسيا لوجودها العسكري في مياه المتوسط، اذ استطاعت تثبيت حضور اسطولها البحري وادامة تواجدها في القاعدة البحرية في طرطوس، عقب تراجع حضورها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل استعادت موسكو هيبتها البحرية وتحدي الهيمنة الاميركية في مياه البحر المتوسط، مما دفع العديد من الخبراء احياء اجواء الحرب الباردة بينهما.

     الاسلحة المتطورة التي استخدمتها روسيا في سوريا، برا وبحرا وجوا، اثارت انتباه الاوساط الاميركية والاوروبية بالدرجة الاولى، خاصة للقدرة التدميرية الهائلة التي فاقت الترسانة الاميركية في تسديد اصابات محققة للقوى التكفيرية؛ ووفرت لروسيا منفذا اضافيا لبيع افضل منتجاتها العسكرية والتغلب على العقوبات والمقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها منذ استعادة سيادتها على شبه جزيرة القرم.

     من ميزات التدخل الروسي، بالنسبة لموسكو، انها اضحت شريكا مساويا لواشنطن في “ضمان تثبيت وقف اطلاق النار” في سوريا، ومهدت سبل الحوار بينهما لاستعادة مسار المفاوضات بشأن اوكرانيا رغم كل ما اعتراه من تصلب وتشدد القوى المرتبطة بالولايات المتحدة وتفضيلها التصعيد العسكري.

     في الشق الدولي، اضحت موسكو محطة رئيسية تحج اليها الوفود العالمية طالبة ودها ودعمها، ليس في بعد الازمة السورية فحسب، بل لقضايا اقليمية اخرى مرتبطة ومتفرعة عنها، ابرزها قضية ومصير الكرد التي برعت موسكو في لعب ورقتها ضد خصمها التركي، ولما لها من ابعاد اوروبية تتمثل في تأييد مطالب الكرد والاحتفاظ بدور تركيا الاطلسي في الوقت عينه.

     موسكو عززت دورها كشريك فاعل في تقرير وجهة الازمة السورية، وذهب البعض الى القول ان الرئيس بوتين “يمتلك قرار الفيتو على تشكيل اي حكومة سورية في المرحلة المقبلة.”

     وجدد الجدل داخل اروقة حلف الاطلسي لاعادة النظر بالمسلمات السابقة التي “قللت من شأن” القوة العسكرية الروسية، وارتفعت المطالب المنادية بضرورية زيادة نوعية في ميزانيات الانفاق العسكري على الرغم من الاوضاع الاقتصادية الحرجة لعدد من الدول الاوروبية الرئيسة.

     في ظل مناخ المنافسات والمزايدات الانتخابية في الولايات المتحدة، التزمت الادارة الاميركي خيار “الانتظار” وابقاء ازمات المنطقة في سياق السيطرة والحيلولة دون اندلاعها لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية. وتعول الدوائر الاميركية المتضررة من سياسة التقارب مع موسكو على توجه رئاسي مغاير يعيد المبادرة للولايات المتحدة وحلف الاطلسي في الشؤون العالمية، ويتيح لها لعب دور اكبر واشد قوة في ترسيم نهاية الصراع الجاري في سوريا.

البعد الكردي في الازمة السورية

     عولت بعض القوى الكردية على استغلال انشغال الدولة السورية بالصراع مع القوى التكفيرية والاتجاه خطوة اضافية نحو نزعة الاستقلال، بصرف النظر عن صوابيتها او امكانية تحقيقها ضمن الموازين الاقليمية الراهنة.

     واثارت تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريباكوف، بترحيب بلاده بصيغة حل فيدرالي في سوريا، جدلا واسعا وانتقادات شديدة حتى من داخل واشنطن. وسرعان ما “تراجعت” موسكو عن تلك التصريحات جاءت على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، معززة بذلك الرؤى الاولية بأن “الفيدرالية” كانت مجرد بالون اختبار للتعرف على ردود فعل القوى السورية المعارضة وداعميها الدوليين.

     كما جاءت تصريحات نائب وزير الخارجية في مناخ سياسي اميركي رفع درجة التوتر بينهما لتشديد وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن توفر “خطة بديلة” لبلاده في سوريا ترمي الى تقسيمها وفق اسس طائفية “في حال فشلت الهدنة في سوريا.”

     بعض القوى الكردية في الشمال السوري، والتي تلقت دعما اميركيا وروسيا، ذهبت الى حد عقد مؤتمر لها للاعلان عن “جمهورية فيدرالية،” عقب استثناء “محور السعودية” لها بتمثيلها في مفاوضات جنيف. وسارعت واشنطن لابداء اعتراضها وعدم دعمها لتوجهات “انفصالية” مشددة في الوقت عينه على “ثوابت” استراتيجيتها التي تنظر الى سوريا كدولة موحدة، علمانية، ذات سيادة وحكومة تمثل مختلف “المكونات” الاجتماعية.

     موسكو لا تزال متمسكة بحضور الكرد في مفاوضات جنيف، عبر عنه وزير خارجيتها سيرغي لافروف قائلا ان اقصاء الكرد من المشاركة في تحديد مستقبل سوريا سيدفعهم للخروج عنها. حضور الكرد من شأنه تسديد هدف في مرمى السعودية وتركيا وراعيتهما الاميركية التى لا تنوي اغضاب انقرة راهنا على الاقل.

     لا يسع المرء الا الاشارة الى تجدد الاشتبكات والانفجارات داخل المدن التركية الكبرى، انقرة واسطانبول، نتيجة السياسة التركية الاقصائية وتفضيلها الخيار العسكري في تطويع المناطق الكردية لسيطرتها وحرمانها من احقية المطالبة بنمط من الحكم الذاتي.

     وبلغ التهور بالرئيس التركي اردوغان بشن هجمات مسلحة على مناطق كردية داخل الاراضي السورية، ضاربا بعرض الحائط تحذيرات موسكو له ونصائح واشنطن بعدم الانجرار للتصعيد. مصير المفاوضات الجارية في جنيف لن يتأثر سلبا على الارجح بما يجري بين الكرد وحكومة انقرة، بيد ان تداعياتها المرئية لن تعود لصالح انقرة في ظل التفاهمات الدولية بين موسكو وواشنطن، خاصة لحرص الاخيرة على “تأمين” الساحة السورية وتسليم الرئيس المقبل ساحة دولية تراجعت فيها الازمات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى