من «قيزيل آي» إلى «روج آفا».. مروراً بحميميم! محمد نور الدين
في الظاهر كانت خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانسحاب الجزئي أو التكتيكي من سوريا مفاجأة للجميع، من أصدقاء وحلفاء وأعداء. تماماً كما كانت مفاجأة التدخل العسكري الروسي في سوريا في نهاية أيلول الماضي.
لكن السياق الذي انتهى في إحدى محطاته إلى الانسحاب الروسي الجزئي، لا يفضي في العقل والمنطق إلى أن تكون خطوة بوتين أحادية أو أن تكون مفاجئة للشريك في التفاهم حول سوريا، أي الولايات المتحدة.
في السياق الاستراتيجي شكّلت سوريا لروسيا أهمية استثنائية وصلت إلى حد اعتبار الروس أنفسهم أن سوريا جزء من الأمن القومي الروسي.
1ـ بعد الخديعة الغربية لروسيا في ليبيا لم يتبق لموسكو على امتداد السواحل المتوسطية، أي في المياه الدافئة العزيزة على قلب الروس ومصالحهم وأمنهم سوى سوريا. فإن خرجت روسيا من سوريا خرجت من كل حوض المتوسط.
2 ـ وفي الشرق الأوسط، فإن سوريا هي القاعدة الأخيرة لروسيا. العراق ينتمي إلى الفضاء الغربي الأميركي تحديداً، أما إيران فلا يمكن احتسابها ساحة نفوذ روسية ولا ساحة نفوذ لأي قوة عالمية.
3 ـ وتزداد سوريا أهمية لأنها على حدود فلسطين المحتلة، وهذا عامل له اعتباره في الدور الروسي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
4 ـ والصراع في سوريا جلب كل الإرهابيين من كل العالم، وكانت بيئتهم الحاضنة الأساسية تركيا. حتى إذا سقطت سوريا بيد الإرهابيين انتقلوا تلقائياً إلى محطتهم الأخيرة، أي إلى الداخل الروسي عبر تركيا والقوقاز.
5 ـ وجانب مهم جداً من الصراع أن سوريا تشكل خطاً جغرافياً إلزامياً لخطوط الطاقة من الخليج إلى تركيا والمتوسط، وصولاً إلى أوروبا، حتى إذا سقطت سوريا في اليد الخليجية ـ التركية كانت البديل القاتل لخطوط الغاز الروسية الموصلة مباشرة من روسيا إلى أوروبا.
لا تنحصر أهمية سوريا الاستراتيجية لروسيا في هذه العناوين لكنها الأكثر بروزا ومركزية. لذلك فإن الموقف الروسي الحاسم في تأييد دمشق والرئيس بشار الأسد بدأ منذ اللحظة الأولى لانفجار الأزمة.
وعلى امتداد الأزمة السورية وقفت روسيا ضد محاولات تحويل سوريا إلى ليبيا ثانية، ورفعت ومعها الصين الفيتو في مجلس الأمن لتشكّل درع وقاية دولية للدولة السورية. ولم تنفع كل المحاولات والإغراءات التركية والخليجية مع موسكو لتغيير موقفها.
ذروة الدفاع الروسي عن دمشق كانت في نهاية أيلول، عندما جاءت بقضّها وقضيضها، وبأحدث الأسلحة الجوية والصاروخية والبرية والبحرية إلى الميدان السوري.
إلى لحظة إعلان الخطوة الروسية في الانسحاب الجزئي، فإن التدخل الروسي حقق الأهداف التالية، وكلها من الصنف الاستراتيجي:
على الصعيد السوري
1ـ فَرَضَ التدخل الروسي الأسد جزءاً من مفاوضات التسوية على ما نصت عليه مقررات فيينا وقرار مجلس الأمن 2254، بعدما كان مطلب تنحية الأسد في رأس مطالب المعارضة والدول الحامية لها.
2 ـ حدث تحول ميداني جذري لصالح النظام وحلفائه، بحيث بلغ حد الحديث، كما جاء على لسان الأسد عن استكمال تحرير باقي الأراضي السورية الواقعة خارج سيطرة النظام.
3 ـ كَسَرَ التدخل الروسي الدور التركي في سوريا، فهو هزم المجموعات المسلحة المحاذية للحدود التركية في ريف اللاذقية وقطع خط إمداد المسلحين من الحدود التركية إلى حلب، حتى بدا في لحظة أن الهدف المركزي للتدخل الروسي هو خنق تركيا في سوريا وتأديب الرئيس رجب طيب أردوغان. وليس من احد أهداف إبقاء منظومة «أس 400» سوى استمرار إغلاق المجال الجوي السوري أمام الطائرات التركية.
4 ـ إضعاف ادوار الدول الأخرى المؤيدة للمعارضة من خلال إلحاق هزائم عسكرية في أكثر من محور في ريف حلب وحماه ودرعا والغوطة، وصولاً إلى اغتيال قائد «جيش الإسلام» زهران علوش بمعزل عن الجهة التي قامت بعملية الاغتيال.
على الصعيد الروسي
انتهى التدخل العسكري الروسي حتى الآن إلى مكاسب روسية كبيرة:
1ـ أعاد الدور الروسي قوياً وراسخاً إلى سوريا والمنطقة.
2 ـ كسر عبر دمشق محاصرة الغرب للدور الروسي في العالم عبر أوكرانيا.
3 ـ وضع روسيا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، بل ربما تقدم عليه، في ملف دولي، وهذا يحدث للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة.
4 ـ أبعدت الخطوة الروسية في الانسحاب الجزئي شبح تحول سوريا إلى أفغانستان جديدة لروسيا.
5 ـ تخفف خطوة الانسحاب من الأعباء الاقتصادية المترتبة على التدخل العسكري، والتفكير بهذه الطريقة أمر مبرر ومشروع لبلد ووجه بمؤامرة تخفيض أسعار النفط لتركيعه هو وإيران.
وربطاً بالسياق العام لمسار التسوية، فإن التدخل الروسي أضعف المعارضة عسكرياً، فيما خطوة الانسحاب الجزئي أحرج المعارضة سياسياً، بحيث وضع كرة عرقلة التوصل إلى حل في ملعبها وملعب الدول التي تدعمها.
كذلك فتحت خطوة الانسحاب الباب أمام توسيع أفق التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وهو أيضاً مطلب لمحور روسيا وإيران وسوريا، إذ إن أية عمليات عسكرية تصبح عبثية إن لم تنشد استثمارها في حل سياسي يوقف نزيف الدم ويعيد الاستقرار والسلام إلى هذا البلد. ولا تنفصل الخطوة الروسية في هذا السياق عن «خطوة» الرئيس باراك أوباما في رفع الغطاء عن السعودية وتركيا في حديثه الشهير إلى «ذي أتلانتيك» والذي يسهل مفاوضات التسوية.
تحالف رباعي
فيما تَقَدم فإن خطوة الانسحاب الروسية لا يمكن قراءاتها بشكل منطقي وعقلاني إلا في إطار التحالف الرباعي بين روسيا وسوريا وإيران و «حزب الله».
فكل هذه الانجازات ما كان لها أن تتحقق لولا التنسيق الكامل والتعاون الكامل، على كل الأصعدة، بين هذه الأطراف، ولم يكن ذلك حكراً على طرف من دون آخر، وإن كان الدور الروسي في هذه الشراكة أكثر وزناً، وهذا طبيعي جداً.
الإنجازات التي تحققت لكل أطراف التحالف الرباعي كانت نتيجة شراكة الدم والديبلوماسية. وكما كان التدخل العسكري نتيجة حسابات استراتيجية دقيقة، وما كان له تحقيق نتائج ايجابية من دون التنسيق المسبق الكامل مع الحلفاء، وصولاً إلى اللقاء التاريخي بين بوتين ومرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، فإن خطوة الانسحاب الجزئية والتكتيكية كانت نتيجة حسابات استراتيجية دقيقة وبالتنسيق الكامل المسبق مع الحلفاء، والتي لا يمكن أن تكون غير ذلك. وحسم بوتين الشائعات بالقول إن قواته مستعدة للعودة خلال ساعات إلى سوريا في حال اقتضت الضرورة ذلك.
فمن غير المنطقي أن يترك بوتين كل جهوده السابقة الجبارة والاستثنائية وعلى مدى سنين، والتي أذهلت الجميع أن تذهب هباء، ويفرّط بكل المكاسب بالتخلي عن حلفائه أو بإضعاف حلفائه من أجل بديل مستقبلي، أو صيغة غير مؤتمن عليها في سوريا يشارك فيها، أو يسيطر عليها من هم غير ذي ثقة بل على عداوة لروسيا، ولكل ما قامت به في سوريا والمنطقة.
& & &
ليس من حدث منفصل عن الآخر في المنطقة ومعزول عن بقية الأحداث. تتسارع التطورات في المنطقة ومنها تركيا. والتفجير الكبير والخطير الذي شهدته أنقرة الأحد الماضي يأتي في هذا الإطار، وكان مقدرا له أن يستمر في رأس اهتمامات المنطقة والعالم لولا خطوة الانسحاب الروسي وخطفها أنظار اللاعبين والمراقبين.
لكن تفجير أنقرة لا يزال يثقل على القيادة التركية ويربك حساباتها، ويرمي بكل تداعياته على الداخل التركي، وربما خارجه أيضاً.
تفجير أنقرة هو الثاني خلال اقل من شهر. السابق في 17 شباط أفضى إلى مقتل 29 عسكريا في قلب أنقرة، وتفجير الأحد الماضي قتل 37 مواطناً، إضافة إلى عشرات الجرحى.
تكرار التفجير في أقل من شهر وفي ساحة أنقرة الرئيسية، قيزيل آي، طرح مباشرة سؤالاً عن ضعف الاستخبارات التركية. لكن الخبير الأمني متين غورجان يقول إن تغيير «حزب العمال الكردستاني» لآلية اتخاذ القرار والتخلي عن مركزية إصدار الأمر، وترك الحرية لخلاياه كل وفقاً لظروف محيطها جعل قدرة الاستخبارات التركية على التحكم ومراقبة مركزية حركة اتصالات «الكردستاني» أكثر صعوبة، فأفلتت من يديه القدرة على اكتشاف المحاولات أو كل المحاولات قبل حدوثها.
هذا التفصيل التقني المهم يعكس اندفاعة «حزب العمال الكردستاني» إلى أساليب تمكنه من مواجهة الحملة العسكرية التي يتعرض لها الحزب والأكراد عموماً في مناطق الجنوب الشرقي من تركيا. ومن هذه الأساليب استخدام «الكردستاني» للمرة الأولى في عمليات التفجير سيارات مفخخة، بعدما كان يعتمد أسلوب العمليات الانتحارية الشخصية.
من الانتقال من حرب الريف إلى حرب المدن يوسع «حزب العمال الكردستاني» ساحة المواجهة إلى مدن الغرب التركي، وكل تركيا، ليقول للحكومة إن من يريد «إبادة» الشعب الكردي عليه ألا يشعر بالاطمئنان في أي مكان.
تركيا نتيجة لحربها ضد الأكراد، وقمعها للحريات في الداخل، وإفلاس سياساتها في المنطقة، وخلافاتها مع الجميع في العالم، تمر في أسوأ مراحلها من الفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسياسي منذ إعلان الجمهورية في العام 1923.
منذ خمسة أشهر تعلن تركيا رسمياً أن 1220 من مقاتلي «الكردستاني» قد قتلوا، لكن قتل أيضاً من الجيش التركي 300 جندي، وهذا رقم كبير. كما سقط 300 مدني بين كردي وتركي، ونزح أكثر من 400 ألف كردي من أماكن سكناهم وتهدمت آلاف البيوت وتحولت عشرات آلاف الوحدات السكنية إلى أمكنة غير صالحة للسكن.
الجيش التركي والقوات الأمنية الأخرى تشارك بعشرات الآلاف من الجنود وعشرات الطائرات ومئات الدبابات في المعارك المتنقلة من مدينة إلى أخرى. مشاهد دمار وموت لا تختلف عن مشاهد الدمار في أية مدينة سورية. ما أرادته أنقرة لدمشق باتت تتجرعه هي بدورها.
لم تقتصر الحملة التركية على الجانب العسكري. إذ إن طلب الحكومة رفع الحصانة عن بعض نواب «حزب الشعوب الديموقراطي»، وفي رأسهم رئيسا الحزب صلاح الدين ديميرطاش و فيغين يوكسيكداغ، وصل البرلمان. خطوة تشبه ما حدث في العام 1994 مع نواب أكراد. حينها أمسك الأمن من رقاب النواب لدى خروجهم من البرلمان، ومن قبل أن يصدر قرار قضائي بذلك.
لا يتعلم «حزب العدالة والتنمية» من دروس الماضي، ومن أن معالجة القضية الكردية من زاوية أمنية صرف لن تؤدي سوى إلى المزيد من الفوضى والاضطراب والثأر. مع ذلك فإن أردوغان تخطى كل رموز اضطهاد «أتراك الجبال» من مسؤولين سابقين، قائلاً إن الأمن أهم من الحريات والديموقراطية والقانون، داعياً إلى تعريف جديد للإرهاب يطال المتورط والمشجع والمتعاطف. نعم هذا ما يقوله رأس الدولة في بلد يقول إنه يريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فعن أية معايير أوروبية يتحدث مسؤولو «حزب العدالة والتنمية»؟
هذه الفوبيا الكردية المستحكمة بالطبقة السياسية الحاكمة في تركيا وصلت إلى كل مفاصل الحياة الاجتماعية أيضاً. وآخر مثال على ذلك أن فريق «آمد سبور» الكردي من ديار بكر، والذي يلعب في صفوف الدرجة الأولى لكرة القدم سوية مع فرق «غلطه سراي» و «فنار باهتشه» و «بشيكتاش»، ذهب إلى مدينة سيواس ليلعب مباراة في الدوري مع فريق «سيواس سبور». وكم كانت المفاجأة عندما رفضت فنادق المدينة كلها السماح له بالإقامة فيها عشية المباراة. فاضطر الفريق الكردي للمبيت في فندق صغير يبعد 40 كيلومترا عن المدينة!
في هذا المناخ الدموي والقمعي أمكن للرجل الأول في «حزب العمال الكردستاني» جميل باييك أن يقول «إن الحرب كانت أمس في الجبال واليوم في المدن وغداً في كل تركيا، وكل الشعب الكردي ممتلئ بالثأر»، بل يطلق شعاراً هو الأول وهو «إننا نريد إطاحة أردوغان».
إنها اللعبة التي اختارت سلطة «حزب العدالة والتنمية» بكامل قواها وتصميمها وعزمها أن تنخرط فيها، بل أن تتورط فيها عندما تخلت عن الإصلاح وعن السير على الطريق الأوروبي لتسعى إلى زعامة واهمة في الجغرافيا الإسلامية، فابتعدت عن معايير العدالة والمواطنية والحقوق لتعطي أسوأ مثال عن نموذج إسلامي في التاريخ الحديث.
إنها اللعبة التي اختارت سلطة «العدالة والتنمية» أن تحترق في أتونها. وكان تورطها في الدم السوري أملاً في تغيير نظام لتهيمن بعده على المنطقة، المدخل الطبيعي لتحصد نتائج مدمرة على استقرارها ونموها وربما على وحدتها في المستقبل.
بعد تجربة «شمال العراق» الكردي ها هي تركيا أمام «شمال كردي» جديد في سوريا. لم يرق لأنقرة أن تنعم بأمن شبه نموذجي على حدودها السورية بعد اتفاقية أضنة في العام 1998 مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومن بعده مع الرئيس بشار الأسد. اندفعت تركيا في ظل الثنائي أردوغان ـ داود اوغلو في سياسات مدمرة ودموية وتهجيرية في سوريا فكانت النتيجة أن النظام السوري لم يسقط، وأن ثلاثة ملايين لاجئ موجودون على أراضيها وأن حدودها باتت مستباحة لكل من هبّ ودبّ من مسلحين وإرهابيين، وأخيراً ها هي تجد أن شمالاً كردياً جديداً نشأ على حدودها اسمه «فدرالية روج آفا وشمال سوريا» على امتداد 600 كيلومتر وأكثر على حدودها.
لم تكتف تركيا برؤية هذا «الكيان» الجديد يولد من رحم أخطائها السياسية، بل إنه يشكل الوجه الآخر من المشكلة الكردية في الداخل التركي.
«روج آفا» الكردية في سوريا هي المقلب الآخر من «آمد» الكردية في تركيا. «روج آفا» ليست شمال عراق آخر، حيث مسعود البرزاني حليف أردوغان. بل هي ساحة ارتكاز أولى لنفوذ عبد الله أوجلان عدو أردوغان. ما كانت تريد تركيا التخلص منه في الداخل خرج عليها من سوريا.
لا يمكن النظر إلى إعلان أكراد سوريا أو غالبيتهم إقامة فدرالية في شمال سوريا على أنها خطوة ذاتية فقط. هي خطوة منطلقها سوريا، لكن مجالها الحيوي خارج الحدود، رأسها في الداخل التركي وجناحها المباشر في شمال العراق وشظاياها في الأبعد في كردستان إيران.
ما كان حلماً غير قابل للتوقع أصبح أمراً واقعاً يحتاج إلى كثير من الحنكة، وربما إلى دم أكثر. لم ينظر أحد بجدية كافية إلى إعلان أكراد سوريا، بقيادة «حزب الاتحاد الديموقراطي»، بزعامة صالح مسلم، تأسيس ما سموه كانتونات ثلاثة في الجزيرة وكوباني وعفرين في مطلع العام 2013.
لكن مسار التطورات والتوازنات في المعارك الداخلية في سوريا كان يمنح الأكراد فرصة لتعزيز مواقعهم العسكرية والسياسية. النظام في سوريا كان ينظر بعين مرتاحة ضمنية إلى محاربة الأكراد لـ «داعش» و «جبهة النصرة» إلى درجة كان الآخرون يظنون أن هناك تفاهماً غير مباشر أو حتى تواطوءا بينهما على اعتبار أن إضعاف العدوين المشتركين لهما، تركيا و»داعش»، هو لصالحهما.
لكن المطلعين على التطورات الفعلية كانوا يعرفون أن الأمر مجرد تقاطع مصالح ميداني، في حين أن الأهداف السياسية متناقضة بينهما.
إعلان الأكراد في شمال سوريا، ومعهم بعض المجموعات الأخرى من عرب وتركمان فدرالية «روج آفا» وشمال سوريا ليست منفصلة عن السياق الذي اتخذته المسألة الكردية في سوريا منذ بدء الأحداث. غير أن الدعم الأميركي لها كان مفتاحاً لفهم الكثير من مجرياتها اللاحقة. المنطقة الكردية في شمال سوريا ليست صافية كردياً وعدد الأكراد هناك، ليس كبيراً إلى درجة يمكن أن يشكلوا فيها ثقلاً راجحاً في التوازنات الداخلية. كذلك فإن شمال سوريا ليس متماسكاً جغرافياً، ليكون كياناً له صبغة عرقية بشكل أو بآخر كما هو الحال في شمال العراق.
مع ذلك فقد نجح الأكراد، بدعم أميركي واحتضان روسي، من تشكيل حالة لها دورها وحصانتها في الأزمة السورية وتشكل تقاطع طرق ومصالح في الصراعات السورية الداخلية، وأكثر من ذلك الإقليمية.
قد تكون الخطوة الكردية في سوريا أمس الأول لها علاقة بمفاوضات جنيف، وبعدم تمثيلهم هناك. فهم يريدون أن يتمثلوا ويريدون أن ينالوا حقوقاً في هويتهم الثقافية والإدارية، وهذه أمور بديهية. إذ إن أي مكون لا يستطيع التعبير عن هويته القومية والثقافية يبقى عنصر عدم استقرار.
لكن في المقابل فإن أي خطوة كيانية لا تكون ضمن تفاهمات وطنية شاملة، لا يمكن أن تكون أيضاً عنصر استقرار. للأكراد الحق في أن يرفعوا المطالب التي يريدون، وهم قوم ظلموا عبر التاريخ أينما تواجدوا، وعاملتهم الأنظمة التي عاشوا بين ظهرانيها معاملة العبيد كما في تركيا، ومعاملة الكيميائي كما في العراق. ومع أن معاملة إيران وسوريا كانت مختلفة، وعلى الأقل غير دموية، لكنها لم ترق أيضا إلى مستوى يبعث على اطمئنان الأكراد وإحساسهم بهويتهم.
يخطئ الأكراد في سوريا إذا ظنّوا ان بإمكانهم أن ينتزعوا حقوقهم ويعيشوا بسلام وطمأنينة بمعزل عن التفاهم مع المكونات الأخرى في سوريا. لقد انتزع أكراد العراق فدراليتهم فقط بالتفاهم مع المكونات العراقية الأخرى جميعها، الشيعية والسنية. ولولا ذلك لما كان هناك فدرالية، ولا من يحزنون.
اليوم بإمكان أكراد سوريا أن يعلنوا أمراً واقعاً أسموه «فدرالية روج آفا» وشمال سوريا. لكنها خطوة آحادية الجانب يمكن أن تشكل مدخلا لتصويب كيديات مارستها القوى المعادية لهم مثل تركيا، ومنع تمثيلهم في جنيف. ولعل نزع فتيل النتائج السلبية لإعلان الفدرالية يكون بتمثيل الأكراد في جنيف أولاً، ومن ثم التفاهم مع كل الآخرين حول المطالب ضمن سلة سورية متكاملة، قد تلحظ صيغا مرنة. خلا ذلك فإن النتائج ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات عشية الذكرى المئوية الأولى لسايكس ـ بيكو.
(السفير)