الأوروبيون يحذّرون إسرائيل: النار لا تحتاج إلى قطع الحدود! بروكسل – وسيم ابراهيم
أينما يحل ممثلو حكومة الاحتلال الاسرائيلي، فهم لا يَكفون عن تصدير الانطباع بأن «كل شيء تحت السيطرة». هذه «المنتجات الديبلوماسية» تصل إلى الأوروبيين بشحنات زائدة. تقول مصادر أوروبية إن الإسرائيليين يشعرون بأنهم بمنأى عن النيران المشتعلة من حولهم. يستثمرونها، يتعايشون معها. يستشرفون لسوريا سنواتٍ من التقسيم. يكتفون برسم وتطبيق خطوط حمراء، هنا وهناك. أما القلق المباشر على لبنان، وفق المصادر، فيأتي الآن مباشرة من جهة أخرى، من الرسائل الخطيرة للرياض.
لكن مسؤولين أوروبيين يقولون إن النيران التي يمكنها إيذاء تل أبيب لا تحتاج قطع الحدود، فهي هناك تحت رماد الصراع المزمن مع الفلسطينيين.
الأوروبيون معنيون مباشرة بالصراع الأمّ في المنطقة. أولوياتهم، كما بيّنوا مراراً، أمن إسرائيل والتحرك لاستخدام «المكابح» لمنع الانفجارات. بمعنى آخر، لا يحبذون القول بفجاجة: حماية إسرائيل من نفسها، حتى لو باستخدام الضغط الديبلوماسي المزعج لها، بحسب خلاصة توضيحات قدمها لـ «السفير» مسؤول أوروبي يعمل على ملف العلاقات مع حكومة الاحتلال.
مستعرضاً سلسلة أحداث الهبّة الفلسطينية، يقول إنه «من الوهم الاعتقاد أن التوترات ستزول من تلقاء نفسها، إنها مؤشرات يأس حقيقي»، قبل أن يضيف «الأوضاع الإنسانية صعبة جداً، غير محتملة في قطاع غزة، عملية السلام معطلة تماماً، والسلطة الفلسطينية عاجزة عن تقديم أي أمل، إغماض العين والتصرف على أساس أن كل شيء تحت السيطرة هو نزعة انتحارية لحكومة نتنياهو».
لا تحرك الأوروبيين الخشيةُ على مستقبل نتنياهو السياسي، معظمهم سيكون في مقدمة المهنئين بنهايته. ما يقلقهم هو مصير حلّ الدولتين، لكونه الرصيد الوحيد في «بنك» الممكن لدى «المجتمع الدولي». لذلك بالضبط، لم يعد الأوروبيون يتوقفون عن التحذير من أن سياسة التمدد الاستيطاني تهدد بجعل «حل الدولتين غير قابل للحياة».
يفترض أن تلك عبارةٌ ديبلوماسية، شيء يقوله لإسرائيل حلفاء مخلصون جداً أمام العامة، لذا ينبغي مضاعفة عيارها لمعرفة كيف هو الحال فعلاً. هنا ينفع تكرار التحذير من «النزعة الانتحارية». ينفع أيضاً استحضار التوتر المتزايد في علاقة نتنياهو بالخارجية الأوروبية. هذا التوتر فجّره القرار الأخير بمعاقبة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، بعدما دفعت له غالبية أوروبية ما كانت لتتخذه لولا وصولها إلى حالة يأس.
في هذه الأجواء، ولدت المبادرة الفرنسية لتحريك عملية السلام، لتسير بوقود اختزنته باريس خلال محاولات سابقة للتحرك على صعيد مجلس الأمن. لا أفكار مهمة رشحت عن مبادرتها، سوى محاولة عقد مؤتمر دولي للسلام الصيف المقبل، يسبقه جمع الدول «الداعمة لعملية السلام» في باريس.
حينما كان بيير فيمون، موفد باريس الجديد لتطبيق المبادرة، يجول في فلسطين المحتلة، كان وزير خارجيتها جان مارك آيرلوت يعرض خطوط المبادرة أمام نظرائه الأوروبيين يوم الاثنين الماضي.
في طريقها إلى الاجتماع، ذكرت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني أنهم سيناقشون عملية السلام، لكنها لم تذكر المبادرة الفرنسية. اكتفت بالحديث عن «عمل جاهد» مع اللجنة الرباعية الدولية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة)، ومع الشركاء الدوليين «بدءاً بالدول العربية».
حينما سألتها «السفير» عن إغفالها المبادرة الفرنسية، تداركت الموقف بالقول «نعمل عملاً ممتازاً مع أصدقائنا الفرنسيين، أعني بذلك أننا في حاجة لخلق التآزر بين مختلف المسارات الممكنة، فهدفنا هو ذاته، لذا فالتنسيق بيننا كامل وجيد». في محاولة لإبعاد أي إيحاء سلبي، لفتت إلى أن المبعوث الفرنسي «بيير فيمون شخص معروف في المؤسسات الأوروبية، ولديه تقليد العمل في إطار البعد الأوروبي».
ينتمي العمل الأوروبي للديبلوماسي المخضرم إلى فترة كاثرين آشتون، ليبقى منذ 2010 حتى عام مضى الرجل الثاني في الخارجية الأوروبية. كان على احتكاك كبير ومباشر بقضية العلاقات مع فلسطين واسرائيل، ففي تلك السنوات أوقفت آشتون تعيين مبعوث أوروبي لعملية السلام، واضعةً الملف تحت الإشراف المباشر للخارجية الأوروبية. تقريباً، تزامن تقاعده مع إحياء موغيريني لمنصب المبعوث الأوروبي، مع تكليفها به الديبلوماسي الايطالي فرناندو جنتليني.
بعد مغادرته منصبه، بقي فيمون في بروكسل، ليعمل خبيراً في مركز «كارنيغي أوروبا». تكليفه لعقد مؤتمر دولي للسلام يجعله يصنع مسيرة مهنية الآن كمتعهد عقد مؤتمرات. رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك عينه سابقاً ممثلاً خاصاً لعقد قمة أوروبا وأفريقيا في مالطا أواخر العام الماضي، لإيجاد تفاهمات تحد من تدفقات اللاجئين التي كانت إيطاليا عنوانها الأهم. أنجز المهمة. القمة انعقدت بحضور رسمي كبير، لكن تحوّل التركيز إلى طريق البلقان جعلها تخرج بنتائج متواضعة. لا أوروبا كانت راغبة حينها بتقديم الكثير، ولا زعماء افريقيا مغرمون بالتعاون المجاني.
إذا كان هناك مبعوث أوروبي، بالكاد أنهى فرش مكتبه، فلماذا قفز الفرنسيون إلى الصدارة؟ المسألة تثير إشارات استفهام عن التنافس في الأدوار، خصوصاً أن الخارجية الفرنسية لم توفر فرصاً سابقة للاعتراض على الدور المتنامي للخارجية الأوروبية، خصوصاً تحت قيادة الوزيرة الإيطالية السابقة والطموحة.
ظهر ذلك أحياناً بفظاظة فائقة. في أحد اجتماعات باريس، لدزينة وزراء أوروبيين، أصرّ بروتوكول الوزير الفرنسي السابق لوران فابيوس على تهميش موغيريني. كانت إشارة بمنتهى الفجاجة من «الجنتلمان» تجاه المرأة الوحيدة بينهم. حينما توجهوا لأخذ الصورة الجماعية على درج، فوجئت السيدة الأنيقة بالفرنسيين وقد خصصوا لها مكاناً في الصف الأخير، في الخلف تماماً وعلى الطرف. كانت عابسة، وبالكاد كان يمكن رؤيتها.
لكن ديبلوماسياً أوروبياً، قريباً من الملف، يحاول احتواء إشارات الخلط والتشتت التي أثارتها المبادرة الفرنسية. يقول لـ «السفير» إن الأضرار الكبيرة التي تعرض لها «حل الدولتين» تجعله يعيش على «الإنعاش»، قبل أن يوضح «نريد إبقاء حل الدولتين على قيد الحياة، لذلك فأي مسعى مرحب به». ما الذي يمكن أن يضيفه الفرنسيون ولم يفعله غيرهم، حتى واشنطن مثلاً؟ يرد الديبلوماسي «كل مبادرة أمامها فرصة أن تخلق ديناميكيات جديدة نحن بأمسّ الحاجة لها بغض النظر عمن يخلقها».
لكن مسؤولاً أوروبياً آخر يقول إنهم لا يرون أي إرادة يمكن التعويل عليها من جانب حكومة نتنياهو. يتحدث المصدر عن ذلك ناقلاً خلاصة لقاءاته المتواصلة مع مسؤولين إسرائيليين. يؤكد أنهم لا يشعرون بأي عجالة، وأن ذلك يشمل مجمل ملفات المنطقة.
بالنسبة للملف السوري، يقول المصدر إن «الإسرائيليين يرون أن سوريا ستكون مقسمة خلال ما لا يقل عن خمس سنوات مقبلة، ليس لديهم مشكلة في ذلك»، قبل أن يضيف «لم يكن لديهم مشكلة مع نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد، لا يمانعون في العيش مع أسد أضعف».
لكنهم لا يقفون متفرجين، كما يقول المصدر: «لقد استطاعوا إيجاد حلفاء بين جماعات المعارضة في جنوب سوريا. لقد وضعوا خطوطاً حمراء وجعلوا من الواضح أنهم سيتحركون على أساسها: لا وجود لحزب الله قرب جبهة الجولان، لا نقل لأسلحة استراتيجية لحزب الله، لا استخدام للسلاح الكيميائي قرب الحدود، كما أنهم يصرون على مراعاة وضع المناطق الدرزية لأن لديهم أقلية درزية لا يريدون استفزازها».
الأمر ينسحب على وضع لبنان، مع ترديد الحديث العام، غير المربوط بزمن، عن «الحرب التالية». المصدر يؤكد أن هناك خشية أوروبية حقيقية على الاستقرار «الهش» في بلاد الأرز. لكنه يشدد على أن الرسائل الأوروبية المهمة للحفاظ عليه لا توجه لإسرائيل الآن، بل إلى السعودية. يقول عن ذلك: «مع القيادة السعودية الحالية لا يمكن بالضبط تقديم تقدير دقيق، إنهم متهورون كما رأينا بوضوح. أكثر ما أقلقنا هو إعلان سحب الهبة للجيش اللبناني بوجود (رئيس تيار المستقبل سعد) الحريري في بيروت»، قبل أن يضيف «رأينا ذلك إشارة مقلقة جداً، فالسعوديون كأنهم يقولون إن الحريري ليس الوحيد الذي يمكنهم الاعتماد عليه».
حين سؤاله عن السيناريو الممكن الذي حرك رسائل خشيتهم، يقول من دون تأخير «قلقنا أن رسالة السعودية هي أنهم مستعدون لاستخدام مجموعات متطرفة، هناك مجموعات في طرابلس وأيضاً مجموعات سورية معارضة، لإشعال نزاع، وليجبروا حزب الله على سحب مقاتليه من سوريا، أخبار مصادرة شحنات أسلحة ذاهبة إلى لبنان ليست من دون أهمية، إنهم يبحثون عن إضعاف نظام الأسد بأي وسائل ممكنة».
(السفير)