أين الفصائل «المعتدلة»؟ علاء حلبي
أريد للأحداث في سوريا أن تظهر بقالب «ثورة شعبية معتدلة». ومنذ اليوم الأول لاندلاعها سلط الضوء على التظاهرات، وغابت بعض الأحداث الجوهرية عن شاشات التلفزة، من حوادث ذبح في درعا ودير الزور، واغتيالات وتمثيل بالجثث في حمص، وجرى حينها الحديث عن «أياد خارجية» أشعلت الموقف، في حين كان للأيادي الداخلية الأثر الأكبر.
مع استمرار ارتفاع وتيرة العنف، طفت إلى السطح المظاهر المسلحة، وبدأت عملية البحث عن «شرعنة» لهذه الأنشطة. ومثلت عمليات «انشقاق» جنود وضباط، بشكل إفرادي، عن الجيش السوري مظلة إعلامية ملائمة لذلك، فجاء الإعلان الأول عن تشكيل «لواء الضباط الأحرار» بعد وقوع مجزرة جسر الشغور التي راح ضحيتها نحو 120 عنصراً من الأمن العسكري بزعامة المقدم حسين الهرموش، الذي وقع بيد الأمن السوري في وقت لاحق، قبل أن يتم تشكيل «الجيش الحر» بقيادة العقيد المنشق رياض الأسعد نهاية تموز العام 2011، والذي ينشط من تركيا، ليصبح اسم «الجيش الحر» هو المعتمد إعلامياً لنشاط جميع الفصائل المسلحة في سوريا حتى وقت قريب.
قبل ذلك بعدة أشهر، أي في الشهر الأول للأحداث، كان نشاط من نوع آخر ينشط فعليا في القرى البعيدة نسبيا عن مراكز المدن. مجموعة من أصحاب السوابق في الأعمال «الجهادية»، أو الموقوفين سياسياً جرى إطلاق سراحهم من سجن صيدنايا بموجب القانون، والذي يقضي بإطلاق سراح المعتقل في حال قضى ثلاثة أرباع مدة عقوبته، فجرى الإفراج عن أكثر من 200 مسجون، بينهم أشخاص تحولوا خلال أسابيع قليلة إلى قياديين أسسوا، أو شاركوا في تأسيس، الفصائل «الجهادية» التي تقاتل في سوريا الآن، الأمر الذي اعتبرته شخصيات معارضة أنه يهدف إلى «تحويل الثورة من شكلها السلمي إلى المسلح»، قبل أن يتحول خطاب المعارضة إلى تبني توجهات هذه الفصائل واعتبارها «كفاحا من أجل الثورة».
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تحقيق أجرته مجلة «تايم» الأميركية، ونشرته في تموز العام 2012، وتضمن إجراء سلسلة لقاءات مع «جهاديين» في سوريا. ونقلت وقتها عن أحد قياديي «أحرار الشام»، ويدعى «أبو زيد»، أن العمل على تأسيس الفصائل «الجهادية» في سوريا بدأ فعلياً مع اندلاع الثورة المصرية وقبل اندلاع الأحداث في سوريا، الأمر الذي يعتبر بدوره مؤشراً على نوعية العمل المسلح في سوريا وتوجهاته منذ انطلاق الأحداث.
خلال الشهور الخمس الأخيرة من العام 2011 تبلورت في سوريا معظم المشاريع «الجهادية»، فنشأت النواة الأولى لـ «جيش الإسلام» في ريف دمشق، والنواة الأولى لـ «حركة أحرار الشام» في مناطق في ارياف حماه وإدلب وحلب، وبدأت «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا، إصدار تسجيلات صوتية للإعلان عن عملياتها، في وقت فتحت فيه الحدود السورية ـ التركية لتدفق مئات المقاتلين الذين انتشروا بين ريفي حلب وإدلب. وكذلك تسلل مئات المقاتلين من العراق إلى أرياف دير الزور ودرعا، بموجب الاتفاقية الأولى التي جرت بين مؤسس «النصرة» أبو محمد الجولاني وزعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» أبو بكر البغدادي.
بموازاة ذلك، بدأت عشرات الفصائل المحلية تتشكل بشكل مطرد في الأرياف التي بدأت تخرج عن سيطرة الحكومة السورية، قوامها مقاتلون محليون، صفتها العامة «إسلامية»، وهو تطور طبيعي في سوريا ذات البيئة الإسلامية المعتدلة، والأرض الخصبة لنمو التطرف في ظل انخفاض مستويات التعليم في الأرياف وارتفاع معدلات البطالة والفقر، ليسقط الرهان على «الإسلام المعتدل» في أول امتحان حقيقي له في مناطق عديدة من سوريا.
نمت الفصائل «الجهادية» بشكل كبير، وبدأت تقضم الفصائل المحلية، سواء عبر محاربتها، أو عبر انضمام المقاتلين، فانتشرت «جبهة النصرة» في أرياف درعا ودير الزور والحسكة وريفي إدلب وحلب، في حين نما وجود «جيش الإسلام» في منطقة الغوطة، وفي بعض مناطق ريف اللاذقية، كذلك ساهم اندماج «كتائب أحرار الشام» مع فصائل في حلب وإدلب والمنطقة الجنوبية وريف اللاذقية الشمالي بنموها السريع.
وحتى نيسان العام 2013، استفادت «جبهة النصرة» من المقاتلين العراقيين، وأولئك الذين قام «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق» بإرسالهم للقتال في صفوف «النصرة»، قبل أن يقرر البغدادي توسيع نطاق «دولته» لتشمل سوريا أيضاً، الأمر الذي رفضه الجولاني، فانشق عدد كبير من مقاتلي «النصرة»، وتم رفد مقاتلين آخرين من العراق، ليتوسع نشاط جماعة البغدادي التي سميت لاحقا «داعش»، وجذبت أنظار العالم كله بعد انتشار عمليات القتل والذبح التي طالت صحافيين أجانب، كذلك تحول هذا التنظيم إلى أحد أبرز نقاط استقطاب «الجهاديين» في العالم.
الفصائل الأربعة السابقة، وإلى جانبها عدة فصائل «جهادية» أخرى، استطاعت البقاء والنمو والتطور، في حين اضمحلت الفصائل المحلية، رغم أن بعضها كان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجماعة «الإخوان المسلمين»، مثل «لواء التوحيد»، في ريف حلب الشمالي الذي ساهم باقتحام مدينة حلب والسيطرة على نصفها الشرقي، إلا أنه تفكك بعد مقتل زعيمه عبد القادر الصالح بغارة جوية، طالت اجتماعاً كان يشارك فيه في مدرسة المشاة شمال حلب في تشرين الثاني العام 2011.
كذلك، وفد آلاف المقاتلين من الشيشان وتركستان وعدة دول آسيوية أخرى، بعضهم عمل ضمن صفوف فصائل مستقلة، والبعض الآخر انضم إلى «النصرة» أو «داعش» أو «أحرار الشام»، التي تعتبر من أولى الفصائل التي فتحت الباب لـ «المهاجرين» لينضموا إلى صفوفها.
مجمل عمليات الاقتحام التي شهدتها سوريا طيلة سنوات الحرب نفذتها الفصائل «الجهادية»، خصوصاً حرب المطارات، التي شملت الهجوم على عدة مطارات عسكرية شمال وشرق سوريا، كذلك عملية اقتحام محافظة الرقة، وحتى محافظة إدلب، جميعها نفذتها الفصائل «الجهادية» في ظل غياب شبه تام للفصائل الأخرى التي اقتصر نشاطها على النطاق المحلي الضيق.
في الوقت الحالي، تنتشر في سوريا مئات الفصائل المسلحة، إلا أن معظمها ذو طابع محلي، الأمر الذي يجعلها رقما سهلاً في المعادلة السورية مقارنة بالفصائل «الجهادية» الكبيرة.
الانجراف السريع نحو التشدد والحالة «الجهادية» في سوريا لم يكن وليد الصدفة، أو بسبب التدخل الخارجي فقط، فالأرض السورية كانت خصبة لنمو التطرف بشكل سريع، خصوصاً أن عدداً كبيراً من السوريين شاركوا في حرب أفغانستان، بينهم على سبيل المثال «أبو خالد السوري» الصديق المقرب من مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن، والذي ساهم بشكل كبير في تطور «حركة أحرار الشام» وفي ترسيخ آلية «العمل الجهادي» في سوريا، قبل أن يقتل إثر تفجير انتحاري نفذه تنظيم «داعش» طال مقراً كان بداخله في حلب في شباط العام 2014، إضافة إلى مشاركة عدد كبير من السوريين في حرب العراق، وانخراط قسم كبير منهم في الجماعات «الجهادية» قبل سنوات من اندلاع الأحداث في سوريا. يضاف إليها المد السلفي الذي غزا سوريا بعد العام 2000 عبر الإصدارات المرئية والصوتية القادمة من السعودية خصوصاً. وهي ظروف تضافرت جميعها لتشكل بيئة خصبة للجموح نحو التطرف.
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، نما جيل جديد في سوريا في كنف الفصائل «الجهادية»، حيث أقامت هذه الفصائل على اختلاف أسمائها عشرات المراكز الشرعية والمعسكرات التدريبية، التي وفرت مصدراً مستداماً للكوادر البشرية، ما ساهم أيضا بتعاظم دور هذه القوى، وسقوط القناع العلماني لـ «الثورة» لتظهر بوجهها الحقيقي كعمليات قتال مؤدلجة ذات طابع سلفي «جهادي»، الأمر الذي لن يوقف الحرب في سوريا حتى في حال تمت عملية التوافق السياسي، والتي تعول عليها القيادة السورية ربما في عملية إغلاق الحدود وتجفيف منابع الأسلحة ودخول «الجهاديين» وإضفاء شرعية دولية للحرب على تلك الفصائل، التي مازال معظمها يوصف بـ«الاعتدال».
(السفير)