لبنان بين رفض سياسة المحاور وسياسة النأي بالنفس الدكتور خالد الخير
مرة أخرى يعود لبنان ساحة يدار فوقها الصراع العربي _ الإقليمي والدولي، وما يحدث فيه على مستوى الحكم يرتبط بمجمله بما يدور في المنطقة، والخطير في الأمر أنّ بعض من يقود هذه الصراعات يعمل على تحقيق أهداف لا تأتلف مطلقاً وصيغة النظام السياسي في لبنان. والمقلق في المشهد السياسي على الساحة الوطنية أنّ الصراع في سبيل ذلك متواصل ومتعدّد الأشكال، وهو يتصاعد أكثر فأكثر تبعاً لتصاعد التطورات والأحداث في لبنان والمنطقة منذ عام 2005، مروراً بحالات الفوضى المتلاحقة في الدول العربية، وصولاً الى حالات التأزم المتصاعدة بين دول عربية عربية، وعربية إقليمية ودولية .
ولبنان منذ استقلاله لم يقوَ على تجنّب التجاذبات العربية والإقليمية والدولية التي تستخدمه من أجل مصالحها، فيتعرض للخطر بين هذه القوى ونفوذها لعلة ارتباط مكوناته مع دول محورية بعلاقات عضوية ومتجذرة ذات طابع مادي وثقافي وسياسي ومذهبي، وأحياناً عسكري، كما أنّ أخطر الأزمات التي هدّدت لبنان الدولة، كانت بسبب ارتباط مكوّناته السياسية والطائفية بهذه الدولة أو تلك، والشواهد على ذلك كثيرة، وأهمها ما حدث في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون الذي قرّر الانضمام الى حلف بغداد مع العراق ضد السياسة المصرية الناصرية، وقبول لبنان مشروع إيزنهاور، وكانت النتائج إرهاصات خطيرة هدّدت الدولة تمثلت بثورة 1958، وكذلك اتفاق القاهرة عام 1969 وما أنتج من انقسامات بين المكونات اللبنانية بين مؤيّدٍ ومعارضٍ، وكادت حرب 1975 أن تؤدي إلى زوال لبنان الدولة والكيان، والتي استمرت لعام 1989 وتوقفت مع اتفاق الطائف الذي شكّل خطوة أولية بخروج لبنان من نفق الاقتتال ودخوله رحاب السلام، وكانت هذه الحرب الطويلة حرب الآخرين على أرض لبنان، وعلى أثر اندلاع أحداث سوريا بداية عام 2011، برزت من جديد على الساحة اللبنانية الانقسامات بين مكوّناته السياسية والطائفية والمذهبية، فأحدثت خلافات خطيرة وانقسامات عمودية. وإذا كانت النتيجة الظاهرة لغاية الآن تأزّم وضع الحكم الحالي إلى حدّ انشغاله بنفسه انشغالاً أدى الى شلل سياسي، فإنّ النتيجة المتوقعة لهذا الصراع قد تكون أخطر وأشمل من النتيجة الحالية، بسبب ارتفاع منسوب الصراع، لأنّ الوضع الحالي يجد صعوبة فائقة في الإمساك بالخيوط الضرورية لجوانب الصراعات على الساحة السورية، مما يهدّد باندلاع أحداث داخلية، وربما فتنة مذهبية في لبنان.
في ظلّ الأخطار المحدقة بلبنان، على أهل الحكم أن ينجوا ببلدهم وشعبهم باختيارهم حسن التقويم بين هذه القوى وحسن التوقيت المناسب لإعلان مواقفهم منها. ولتحقيق ذلك لا بد من تبنّي ما أرساه كل من الرئيس المرحوم رياض الصلح والرئيس نجيب ميقاتي اللذين أحسنا التقويم والتوقيت للمواءمة بين مصلحة لبنان وعلاقاته الخارجية العربية والإقليمية، فالأول ووفقاً لمضمون الميثاق الوطني عام 1943، أعلن رفض لبنان سياسة المحاور والمحافظة على التوازن في علاقات لبنان الخارجية، وأن لا يميل مع فريق ضد آخر، وشكّلت هذه السياسة إزاء الخلافات العربية العربية، إحدى أهم قواعد السياسة الخارجية اللبنانية، والتي أرست استقراراً جنّب لبنان الأزمات وحقّق الوحدة بين مكوناته السياسية والطائفية حول الدولة ومؤسساتها.
والثاني الرئيس ميقاتي إبّان ترؤسه الحكومة عام 2011، أي بداية الأحداث في سوريا، والتي اتخذت شعارات متعدّدة وبرزت بسببها من جديد على الساحة اللبنانية انقسامات عمودية خطيرة بين مكوناته السياسية من جهة، ومع التدخل الإقليمي والتدخل المتعدد الجوانب المباشر في الساحة السورية من جهة ثانية، برزت انقسامات طائفية أحدثت خلافات خطيرة. هذا الوضع المتأزم أدخل لبنان في نفق مظلم ووضعه في عنق الزجاجة وأظهر خوفاً كبيراً من اندلاع حرب داخلية وفتنة مذهبية. أمام هذا الوضع السياسي والطائفي الخطير في لبنان الذي هدّد الصيغة اللبنانية، بادر الرئيس ميقاتي إلى إعلان مضمون سياسة حكومته الخارجية “النأي بالنفس وبلبنان” عمّا يدور في الخارج العربي، وخصوصاً في سوريا، للمحافظة على وحدة لبنان الداخلية وإبعاد نتائج الحروب السورية عن الساحة الداخلية والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
وتجنيب الوطن الصغير من الحروب الكبرى لا يكون إلاّ بتبنّي ما أطلقه الرئيسان الصلح وميقاتي، فننهي حروبنا الداخلية الصغرى، وإلاّ ستتلاحق التطورات الخطيرة ويكون بعدها كل شيء جديداً من الجميع وعلى الجميع.
باحث في القانون الدستوري