«بازار» تركي في بروكسل: ثمن كبير لوقف اللجوء! بروكسل – وسيم ابراهيم
كثيرون وصفوا ما شهدته بروكسل بأنه «بازار» تركي، لا خيارات كثيرة للأوروبيين فيه. قضية «أزمة اللاجئين» هي بضاعة أنقرة، معروف حجم الطلب عليها وتفاصيلها، لكن الصفقة التي عرضتها كانت مفاجئة للجميع، شكلاً ومضموناً وتوقيتاً. قالت لهم: تريدون تقليل تدفقات اللاجئين، حسناً، نحن يمكننا أن نغلق لكم طريق البلقان مرة واحدة. اللاجئون السوريون داخل دوامة الاتفاق. الصفقة قيد الاستكمال القانوني والفني، أما الثمن فليس قليلاً: مضاعفة المساعدات المالية، مكاسب سياسية استراتيجية لتقريب تركيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى انتزاع دعم سياسي أوروبي غير مسبوق لإقامة «منطقة آمنة» في سوريا.
كان يفترض أن يعود رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو من القمة مع الزعماء الأوروبيين في وقت أبكر. رئيسه رجب طيب أردوغان قال إنه ينتظر عودته بـ «المال الأوروبي». انطبق على الأتراك المثل القائل إن «من أطال الغياب عاد بالغنائم»، خصوصاً إذا كان ذلك مخططاً سلفاً. رجع داود أوغلو بالمال مضاعفاً، وبحقيبة مليئة بالمكاسب السياسية، إذا تمت المصادقة على الاتفاق وتنفيذه كما تم التعهد.
عناوين القمة كانت معروفة سلفاً، قبل أن تقلب تركيا جدولها. زعماء أوروبيون، بلادهم متأثرة بتدفقات اللاجئين وبصعود اليمين المتطرف، على رأسهم النمسا، جاؤوا بعنوان وحيد: يجب الخروج بإعلان عريض يقول للجميع إن طريق البلقان باتت مغلقة.
لكن ما أن دخلوا إلى الغداء مع داود أوغلو حتى خرجت الاخبار العاجلة بأن كل شيء اختلف الآن. أنقرة تحمل مقترحاً طازجاً، مفاجئاً ومحكماً، تفرّغ الديبلوماسيون الأوروبيون لدراسته.
لم تكن الخطة تركية تماماً. عشية القمة، دعا داود أوغلو المستشارة الألمانية ورئيس الوزراء الهولندي للعشاء في السفارة التركية. من داخل ذلك التفاعل خرجت الخطة الجديدة، من دون أن يكون واضحاً تماماً من بادر إليها. هل كانت معدّة سلفاً، بين برلين وأنقرة، أم أن الاتراك تقصدوا إرباك زبائنهم المتحرقّين؟
على كل حال، الخطة خضعت لصياغة واختزال. خطوطها العريضة خرجت مصقولة ودقيقة، بالنسبة لقضية اللاجئين، لكنها اعتمدت الغموض تجاه جوانب المنطقة العازلة.
قبلت أنقرة باستعادة جميع اللاجئين «الجدد» الذين سيصلون إلى الجزر اليونانية. على الأوروبيين تحمّل تكاليف الشحن. المقصود جميع اللاجئين بلا استثناء، سوريون وعراقيون وأفغان وغيرهم. المسألة لا تخصّ ولا تعني من وصلوا إلى اليونان، وحتى من يصلون الآن. قبل كل شيء يجب إتمام الصفقة، وفق سلسلة خطوات.
يجب أولاً المصادقة على الخطة، إذا تمّ ذلك كما هو مجدول في القمة الأوروبية المقبلة يومي 17 و18 من الشهر الحالي.
رئيس الوزراء اليوناني اليكس تسيبراس أبدى إعجابه بالمقترح التركي، معتبراً العرض «جذاباً». لم يعد تسيبراس إلى أثينا، بل طار مباشرة إلى إزمير، لاجتماع حكومي مع الأتراك. هناك اتفاقية ثنائية بين أنقرة وأثينا حول «استعادة» اللاجئين «غير الشرعيين»، والجانبان يعملان الآن على توليفها بما يمكن من تطبيق الاتفاق الجديد.
حين اتمام تلك التحضيرات، سيجري إعلان ساعة صفر، تكون اليونان قبلها قامت بإخلاء اللاجئين من كل جزرها المعنيّة بالقضية.
يريد الأتراك تلك الجزر صفحة بيضاء، كي يبدأ حساب من يصل إليها. فالخطة وضعت مبدأ «واحد مقابل واحد» للاجئين السوريين. مقابل عدد السوريين الذين يعبرون من تركيا إلى الجزر اليونانية، سيقوم الأوروبيون بإعادة توطين عدد مماثل من السوريين الموجودين في تركيا بنقلهم إلى دول أوروبية.
مصادر أوروبية معنية بالقضية أوضحت لـ «السفير» أن تلك المعادلة الحسابية هي «رمزية ومبدئية». هناك توقعات بأن يجري «الاتفاق على توطين حصص محددة من اللاجئين السوريين في دول تنخرط لاحقاً في خطة ملزمة حول ذلك». المصادر لفتت إلى أن فحوى العرض التركي هنا هو «أن تعيد أوروبا استقبال قسم معتبر من اللاجئين في تركيا ليمكن إقناع الجميع بعدم محاولة التوجه إلى أوروبا عبر شبكات التهريب».
المبدأ الذي سوّقه الأوروبيون، وتحديداً ألمانيا هو التالي: إيقاف مسارات اللجوء «غير الشرعية» عبر استبدالها بأخرى «شرعية». لكن عبر ذلك، كما جاء في البيان المشترك للقمة، يعلنون أن «التدفقات غير الشرعية عبر طريق البلقان وصلت إلى نقطة النهاية»، على اعتبار أن الاتفاق سوف «يقطع الرابط» الذي يقول إن ركوب قارب سيقود إلى التوطين في أوروبا. داود أوغلو قال بدوره إنهم يريدون آلية تضع «طرقاً قانونية وبطريقة منضبطة»، مقابل وقف تدفقات اللاجئين من البرّ التركي.
العناوين السابقة لم تكن الاختراق الوحيد، فالأوروبيون قدموا تنازلات مهمة مقابل العرض التركي بإغلاق بوابة اللجوء. الاتحاد الأوروبي أعلن أنه مستعد لدعم مساعي أنقرة لإقامة منطقة «آمنة»، شمال سوريا، من دون الدخول في تفاصيل ذلك. البيان المشترك أورد أن الاوروبيين يتعهدون بـ«العمل مع تركيا في أي مسعى مشترك (يهدف) لتحسين الأوضاع الانسانية داخل سوريا ويتيح للسكان المحليين واللاجئين العيش في مناطق ستكون أكثر أمنا».
اللافت أن المسألة لم تدخل النقاش هنا فقط برغبة من تركيا، بل إن المانيا شاركت في نقاشها ووضعها داخل مسودة الخطة التي قدمتها أنقرة لاحقاً. في تلك المسودة ورد مقترح المنطقة الآمنة، مكرراً بالصيغة ذاتها، مرتين ضمن 14 نقطة. تمّت الاشارة بشكل أكثر وضوحاً بكثير، للمنطقة «الآمنة»، رغم إعادة تسميتها بما يتناسب مع السياق لتكون «مناطق إنسانية آمنة داخل سوريا».
وردت «المنطقة الآمنة» أول مرة في المسودة باعتبارها أحد «المشاريع الفعالة» التي يمكن تنفيذها، تحت إشراف عمل لجنة مشتركة تنسق التعاون المشترك في قضية اللاجئين. المرة الثانية حين ذكر موضوع ضرورة ملاحقة «توطين السوريين» بمراجعة شهرية، لتجري هنا اعادة التأكيد على التعاون في «أي مسعى لإنشاء مناطق آمنة في سوريا».
مسؤول أوروبي رفيع المستوى، مواكب لهذه المفاوضات، قال لـ «السفير» إن ذلك يمثل «خطوة سياسية كبيرة» تنهي النظر لقضية المنطقة الآمنة بوصفها مقترحاً تركياً يتيماً وشاذاً. معلقاً على مخرجات القمة، قال إن «إنشاء المنطقة الآمنة مطلب معروف، لكنه ينعكس للمرة الأولى في البيانات الأوروبية»، قبل أن يستطرد «إنه الاعتراف الأول من المجلس الأوروبي بما كان مجرد مقترح تركي متكرر، هذا يشكل التزاماً سياسياً، فهو يعترف أن الاقتراح التركي يتمتع بمصداقية وليس بلا أساس».
مصادر ديبلوماسية ألمانية دافعت سابقاً عن «فوائد» المنطقة الآمنة، في حين اكدت مصادر أوروبية إن برلين عرضت فكرة أن يجري إعادة توطين السوريين في أوروبا انطلاقاً من «المنطقة الآمنة».
اللافت أنها المرة الأولى، ربما، التي لا تجد فيها أنقرة نفسها مضطرة لتكرر علناً الحاجة لمنطقة «آمنة»، بعدما كانت تعلن ذلك بمناسبة ومن دونها. لكن داود أوغلو لم يستطع إلا التلميح للقضية. قال في مؤتمر صحافي مع رؤساء المؤسسات الأوروبية مهاجماً دمشق وموسكو والأكراد السوريين: «لا نريد رؤية ضحايا أكثر وأكثر يأتون من تركيا ومنها إلى أوروبا».
بعض الديبلوماسيين ربطوا هذا التطور بحديث أردوغان عن عزمه بناء مدينة للاجئين السوريين. يجري أيضاً التداول أن موقع تلك المدينة «العازلة» يحدده الحديث التركي عن أن مدينة إعزاز السورية «خط أحمر» على الجيش السوري أو «قوات سوريا الديموقراطية» بقيادة الاكراد السوريين.
انتشال رصيد «المنطقة الآمنة» من الافلاس بعد القمة الأوروبية جاء على لسان زعماء عارضوا الصفقة، لجهة إعادة التوطين من تركيا. ذلك العنصر جعل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يهدد بأنه سيستخدم «الفيتو». مع ذلك، حينما سألته «السفير» عن إن كانت المنطقة الآمنة «قابلة للتطبيق»، رد بالقول «نحن لا نعرف، لكني أنتمي لمعسكر المتفائلين، لذلك آمل أنه (الاجابة) نعم».
حينما سألناه إن كان الطرح واقعياً، رد بالقول «أعتقد أن هناك حسن نية خلفها ولا فكرة من الناحية النظرية جيدة، لكنها ليست مفصلة لأنها تواجه اعتراضات صعبة جدا»، قبل أن يضيف «من الأفضل الفهم أننا حريصون على القيام بشيء لصالح هذه المناطق (الآمنة) لكن الحذر ضروروي».
ربما يتصل مع ذلك حدث حصل خلال القمة. داود أوغلو زار مقر الحلف الأطلسي. من هناك طالب بوجود «أكثر وضوحا» للحلف على الحدود التركية مع سوريا، معتبراً أن ذلك يصب في صالح «الردع»، مشيرا إلى محاولات روسيا فرض منطقة نفوذ بحكم «الأمر الواقع».
تركيا ستحصل أيضا، في حال اتمام الصفقة، على ثلاثة مليارات يورو إضافية، فوق مبلغ مماثل تعهد به الأوروبيون سابقاً. ستنتزع أيضاً مكاسب استراتيجية في علاقتها مع التكتل الأوروبي. هناك تسريع اتمام اتفاقية تمنح مواطنيها إمكانية السفر إلى دول الاتحاد من دون «فيزا»، إضافة إلى فتح خمسة فصول جديدة في مفاوضات انضمامها المتعثرة للتكتل.
هاتان الخطوتان، في الاحوال العادية، تحتاجان الى ماراثونات من المفاوضات والضمانات باحترام المعايير الأوروبية، بما فيها الحقوق الاساسية وحرية التعبير. اتمام الصفقة سيعني أن نجاحاً مهماً لأنقرة، يبدو أنها تحتاجه أيضاً بدلالة عرضها «الجريء» لإغلاق بوابة اللجوء. أحد الديبلوماسيين علق بأن أردوغان يريد أن يعوض في «بازار» بيع ورقة اللاجئين بعض خسائره في ميدان الحرب السورية.
(السفير)