المملكة والغروب النفطي
غالب قنديل
شكل النفط كسلعة استراتيجية محور تشكل وقيام المملكة السعودية في شبه الجزيرة العربية تحت الرعاية البريطانية ومن ثم الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية بحيث آثر بعض المؤرخين احيانا التنويه عن هذه الحقيقة بالإشارة إلى إمبراطورية آرامكو النفطية بوصفها التعبير المجسد لأهمية المملكة في حسابات الغرب الصناعي وهي مسألة تضاعفت قيمتها السياسية والاقتصادية في استراتيجيات الغرب منذ سبعينيات القرن الماضي عندما أظهرت حرب تشرين 1973 قابلية البيئة العربية القومية المستقطبة حول الصراع العربي الصهيوني لفرض اهتزاز خطير في سوق النفط عندما تولد تلك البيئة ضغوطا سياسية جاذبة ويصعب التغلب عليها رغم الارتباط الوثيق بين القيادة السعودية والولايات المتحدة .
اولا هز الحظر النفطي خلال حرب تشرين أسواق العالم وقاد إلى تفاعلات وتحولات عديدة اقتصادية وسياسية كان اهمها تشديد القبضة الأميركية على القرار السعودي في التعامل مع السلعة الاستراتيجية الأهم في العالم للتحكم بحركة العرض والطلب وحيث شكل تفويض المملكة بقيادة المعسكر العربي المحافظ من خلال ما سمي بعملية السلام الأميركية أداة محكمة لتعطيل مفاعيل نزعة المقاومة والاستقلال والعداء لإسرائيل في البيئة العربية وتأثيرها على القرار السياسي السعودي وحيث شكل اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز امثولة للعائلة المالكة حول العقاب الأميركي الذي يتربص بمن يختار مسايرة نزعة العداء لإسرائيل وليس من الفراغ ان ولديه سعود الفيصل وتركي الفيصل كانا طيلة العقود الأربعة التالية لقتل والدهما بمثابة رأس الحربة في العلاقات المباشرة الخفية والعلنية كذلك مع إسرائيل وفي العداء لمحور المقاومة والاستقلال في المنطقة.
ثانيا حركة انخفاض أسعار النفط المستمرة في أسواق العالم تبدو اليوم حصيلة موضوعية لتغييرات هيكلية في أسواق الطاقة العالمية أكثر من كونها وفق الرواية السياسية الشائعة نتيجة الإغراق السعودي للأسواق بهدف الضغط على روسيا وفنزويلا وإيران وغيرها من البلدان المنتجة المتمردة على مشيئة الإمبراطورية الأميركية والمتصادمة مع حروب التدخل الأميركية التي تلعب فيها المملكة السعودية دورا محوريا ضمن الأحلاف التي تقودها الولايات المتحدة لمنع صعود القوى المنافسة وحيث يتمحور الاستقطاب الدولي في الحرب على سورية التي تشكل ميدان انبثاق المعادلات الدولية الجديدة.
ينظر معظم الخبراء النفطيين إلى انخفاض أسعار النفط كنتيجة لتحولات موضوعية في السوق العالمي اكثر من كونها حاصل تعويم مقصود لحجم كميات النفط المطروحة في السوق العالمي بفعل القرار السعودي الأميركي الإغراقي الذي اتخذ قبل سنتين وجرى الإيحاء إعلاميا بانه تدبير عقابي ضد الموقفين الروسي والإيراني من العدوان على سورية .
ثالثا من العوامل التي يعرضها الخبراء في تفسير انخفاض الأسعار دوام الركود الاقتصادي الذي تعيشه دول الغرب الصناعي منذ انهيار البورصات العالمية عام 2008 وبالتالي انخفاض الطلب الأوروبي والأميركي على الطاقة وبلوغ الانتعاش الصيني ذروة من النمو استقرت عندها المؤشرات المتعلقة بالطلب الصيني المرتفع على النفط خلال السنوات الماضية خصوصا مع توجه الصين لتأمين حاجاتها من الطاقة عبر اتفاقات تبادل مباشرة مع روسيا وإيران وفنزويلا ناهيك عن سعيها لمباشرة الاستثمار في استخراج كميات هائلة من النفط والغاز في الباسيفيك ومن عوامل الوفرة في العرض تحرر إيران من العقوبات والحصار وتوجهها لمضاعفة إنتاجها .
اما على المقلب الأميركي فمن الواضح ان الولايات المتحدة مصابة بخسائر كبيرة في قطاع النفط الصخري الذي اعتبر من قبل كارتلات النفط الأميركية بديلا يتيح الاستغناء عن نفط المنطقة العربية عند الضرورة وحيث بوشر بتصدير كميات اختبارية من الغاز والنفط إلى اوروبا تحت يافطة الاستغناء عن النفط والغاز الروسي قبل موجة انخفاض الأسعار التي خلفت خسائر كبيرة لحقت بشركات استخراج النفط الصخري وقطاع الخدمات الملحق بها في الولايات المتحدة والمكسيك.
رابعا يستنتج معظم الخبراء ان العالم دخل مرحلة يمكن تسميتها غروب الطفرة النفطية لأن مرحلة هبوط الأسعار المرتبطة بتلك التغييرات الهيكلية مرشحة للاستمرار لسنوات قادمة يذهب مايكل كلير للقول إنها قد تمتد إلى ما بعد العام 2030 مما سيعني متاعب اقتصادية ومالية ضخمة وبالتالي غروبا سياسيا للمملكة السعودية بنهاية عهد طويل من الوفرة المالية والبحبوحة لنظام اقتصادي أحادي تشكل عائدات النفط اكثر من 85 بالمئة من دخله الإجمالي وساعة الحقيقة الصعبة ستعصف بالعائلة المالكة التي بددت موارد المملكة في بذخها الاستهلاكي وفي تدعيم القطاع البنكي الأميركي وتمويل عجز الخزائن الحكومية الغربية من خلال سياسة توظيف عائدات النفط الخيالية والعجز عن تنويع موارد الثروة وكذلك بفعل ما اهدرته من ثروات في تمويل مخططات وحروب اميركية طيلة الأربعين عاما الماضية فالمال السعودي صرف دون حساب في صفقات سلاح عملاقة لتشغيل آلة الصناعة الحربية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وأغدقت منه المليارات في حروب أميركية كثيرة مباشرة وبالواسطة : الحرب العراقية ضد إيران لثماني سنوات ثم حرب احتلال وتدمير العراق والحرب بالوكالة على سورية في الثمانينات والحرب ضد الاتحاد السوفياتي انطلاقا من أفغانستان بواسطة الجماعات الوهابية التكفيرية والأخوانية والحروب اللاحقة المتنقلة بواسطة شبكة القاعدة وأخواتها من مصر إلى الجزائر والصومال ونيجيريا والشيشان والبوسنة واليمن وغيرها وفي السنوات الأخيرة حرب عالمية بالواسطة ضد سورية وحرب خفية متواصلة في لبنان وحرب معلنة في اليمن وحروب ممتدة بواسطة التكفيريين في ليبيا والسودان ومالي ونيجيريا ومصر وتونس ولعل اخطرها مباشرة على المملكة هي حرب تدمير اليمن بهدف إخضاعه كحديقة خلفية يمنع عليها الاستقلال واستثمار الموارد الضخمة التي قد تحول هذه الدولة الجاري سحقها بوحشية لا ترحم إلى قوة صاعدة في الخليج وحاضنة جديدة لقضية فلسطين .
خامسا هذه العوامل وغيرها دفعت الخبير الأميركي في شؤون الطاقة مايكل كلير والكاتب توماس إيغلهاردت للاستنتاج : “لا شيء يستحق المشاهدة أكثر من المملكة العربية السعودية الدولة المصدرة للمتطرفين والتي تنشر علامتها التجارية المتطرفة للإسلام من أفغانستان إلى سوريا، وقادت عبرها لعقود طويلة زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط الكبير، بينماكانت المملكة نفسها نموذجا للاستقرار. لكن لا شيء يدوم إلى الأبد، ولذلك فإبقاء العين على السعودية أمر لا بد منه. فلأول مرة أغرقت العائلة المالكة الجيش السعودي مباشرة في حرب وحشية عادة لا يمكن الفوز بها في اليمن المجاور.
المملكة واقعة بين خطر زعزعة الاستقرار الداخلي والنكسة في الحروب التي لن تنتهي، بما في ذلك الحرب على سورية بينما أسعار النفط ترفض أن ترتفع بشكل كبير، وعلى الرغم من احتياطيات مالية وفيرة في فقد باتت الاضطرابات الداخلية في المملكة السعودية احتمالا قائما وبقوة بعدما اضطرت العائلة المالكة إلى تخفيض دعم سلع الوقود المحلية لسكان المملكة وسحب مليارات الدولارات من المساعدات للخروج من لبنان، والسعي لاقتراض عشر مليارات من المصارف” وهذا التعليق ورد في تقديم وإيجاز نشره موقع “توم ديسبيش” لمقالة جديدة كتبها مايكل كلير حول الموضوع يوم الثامن من آذار.