العربدة لا تغير المعادلات
غالب قنديل
بلغت موجة الصراخ والتهويل السعودية ضد لبنان أقصى مداها خلال الأسبوعين الماضيين وحفلت بالتهويل والتهديد ولكن الحصيلة التي تظهر اليوم في المشهد الواقعي تشير إلى أن المملكة وبعض أتباعها في لبنان ارتكبوا حماقة كبيرة ولم يحسبوا لمغامرتهم ونتائجها ولا هم تبصروا في حقيقة التوازنات اللبنانية والإقليمية.
أولا جرت محاولة صرف التصعيد الكلامي الغاضب بخطوة في الحكومة من خلال الاستقالة وتبين بعد الحسابات ان ذلك سيكون عملا اخرق لا طائل منه في ظل الشغور الرئاسي الذي لا تسمح معه الاستقالة بتحقيق أي نتيجة سياسية عملية فالحكومة ستواصل تصريف الأعمال العادية الذي تقف عمليا تحت حدها الأدنى في أدائها الحالي ووسط عجزها المشين امام ملف النفايات لوحده وبعد خطب السقوف العالية كانت النتيجة توريط الوزير أشرف ريفي بالاستقالة للتخلص من معارضته داخل المستقبل.
برهنت التجربة لتيار المستقبل حقيقة ان المغامرة بالحكومة الحالية ستكون أقرب إلى من يطلق النار على يده نكاية بخصمه كما تبين له أن الغرب والسيد الأميركي بالذات لا يجاري التصعيد السعودي بل هو يطالب الحريري بالحفاظ على حكومة المساكنة الممكنة مع حزب الله والتي جاءت بنتيجة مبادرة أميركية قادها السفير ديفيد هيل انتهت بإسقاط الفيتو السعودي والحريري على تشكيل حكومة يشارك فيها حزب الله وينبغي التذكير كذلك بان عبارة المقاومة التي وردت في البيان الوزاري لحكومة الرئيس تمام سلام جرى تمريرها بطلب أميركي ومصدر هذه الرعاية هو إدراك الولايات المتحدة أن أي اختبار جديد للقوة سيهدد مواقع النفوذ الغربي السعودي في لبنان دفعة واحدة وأن ما تحقق من توازن سياسي في هذه الحكومة هو أفضل الممكن للغرب وللسعودية ولتيار المستقبل وتبين من الحاصل العملي للعربدة السعودية الحريرية ان هذه القاعدة ما تزال سارية في التقدير الأميركي على الرغم من دور واشنطن الراعي لجميع الضغوط والعقوبات التي تستهدف حزب الله وجمهوره خصوصا في بلدان الخليج.
ثانيا فشلت محاولة افتعال صدام في الشارع رغم حشد أدوات كثيرة في خدمة الفتنة الداخلية من التصريحات والحملات الإعلامية المستمرة بلغة شوارعية تسخر الشتائم والتحريض المذهبي والتطاول على الرموز الذي بلغ ذروة خطرة مع شريط تهكمي بثته قناة mbcالتي تملكها العائلة السعودية عن السيد نصرالله وكما فعلت قيادة حركة امل وحزب الله المشتركة خلال السنوات الخمس الماضية تمكنت من إجهاض خطط الفتنة وضبطت الشارع وحجزت جمهورها عن مواجهة الاستفزاز بخطوات مشابهة قد تتدحرج إلى اشتباكات .
والواقع ان بعض الحسابات الميدانية التي ألقيت في التداول لتحفيز التحركات الحريرية المنظمة والاستفزازية كانت تنطوي على تهويل عسكري وامني متخطية دور الجيش والمؤسسات الأمنية وكذلك عدم قابلية الشارع السني للتجاوب مع التحريض وتجاهلت بصورة خاصة المناخ الأميركي والغربي الذي لا يحبذ في التوقيت الحاضر أي عبث امني ربما يولد حالة من الفوضى الأمنية في لبنان ستطرح مخاطر كبرى لارتداد خلايا تكفيرية نحو الغرب انطلاقا من لبنان بحكم القرب الجغرافي وهذا سر التشديد الأميركي على دعوة السعودية لمواصلة دعم الجيش اللبناني ولو تم خفض السقف المالي للمعونة إلى ثمن طائرات اميركية تم الاتفاق على توريدها للجيش … مصلحة اميركية تعاكس ” فشة الخلق السعودية ” وإلزام من المرجع الأعلى الذي يجب ان يمتثل له قادة السعودية ومن خلفهم بالتبعية تيار المستقبل الذي حاول استرضاءهم بتفجير الحكومة والبلد .
ثالثا العودة إلى التواصل مع الرئيس نبيه بري وإلى منصتي الحوار الثنائي بين المستقبل وحزب الله والحوار الأوسع للكتل النيابية إضافة للمساكنة داخل حكومة التفاهم الممكن والشراكة الممكنة هي عناوين الخيار الذي أملته الضرورة في ظل العجز عن تغيير المعادلات القاهرة وفي ظروف المسار السوري الذي وضعته التفاهمات الروسية الأميركية ضمن اتجاه لا يناسب الأوهام التي حملها المتورطون في العدوان على سورية منذ خمس سنوات .
العربدة غير قابلة للصرف بإجراءات عملية والتنازلات التي يسعى الحريري عبرها لتحاشي بروز حجم الخسائر اللاحقة بزعامته من خلال التفاهمات البلدية الممكنة مع المنافسين الجديين من حلفاء المقاومة كالوزيرين عبد الرحيم مراد وعمر كرامي هي محاولة لاستباق الاضطرار للتكيف مع خسائر ستفرض نفسها في أي انتخابات نيابية مقبلة .
تصرفت قيادة المقاومة بعقلانية وهدوء لأنها تعتبر ان الصراع الفعلي يدور إقليميا بينها وبين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وشركائهما الإقليميين بقيادة السعودية وهي عرضت على المستقبل منذ البداية ان يحيد نفسه عن المعارك الكبرى حول مستقبل المنطقة التي يخوضها حزب الله ويوفر على نفسه وعلى لبنان كلفة ليس ملزما بدفعها فالصراع بين المقاومة والمملكة يدور في ساحات الاشتباك الإقليمي ولا لزوم لإقحام لبنان في مجرياته لكن المستقبل تورط وهاهو يبحث عن المخارج في عين التينة.