مقالات مختارة

من كواليس ترتيبات الهدنة السورية في جنيف: التورط السعودي كان مستبعداً.. الخوف من تركيا! بروكسل – وسيم ابراهيم

 

المطلوب من الهدنة السورية يجعلها أبعد ما تكون عن إجراء متعلق بمعالجة احتراب أهلي. كان ذلك شديد الوضوح في كيفية الاتفاق حولها، ليمتدّ إلى ما استوجبه، وحسابات انجازه. معطيات وتصريحات مسؤولين ومصادر أوروبية تصل إلى أن الهدنة باتت حاجة للاعبين الكبار، لأهداف عديدة ومتدرجة: بدءاً من تجنّب مزيد من التوتر، يمكنه إشعال حرب بين روسيا وتركيا، مروراً بالحاجة لدفع المسار السياسي كي لا تبدأ الحرب في استنزاف كبارها، وصولاً إلى تكوين تحالف دولي واحد للحرب على الارهاب، وإن كان برأسين لا تتفقان حول كل مخرجات الحل السوري.

ما خرج للعلن، عبر الاعلانات الروسية والأميركية، ليس إلا عناوين عريضة تختزل تداولاً مستفيضاً جال على أدق التفاصيل في ميدان الاحتراب السوري. بعد إعلان اتفاق ميونخ، مباشرة، تم انشاء خلية عمل لانجاز خريطة عسكرية للهدنة، كما سبق وأشارت «السفير» في حينه، لم يطبخ «ميونخ» بسهولة كي يتبخر باستشاطات غيظ سعودية وتركية.

مسؤولون عسكريون روس وأميركيون قادوا عمل المجموعة في جنيف، بحرص شديد على عدم تسريب أي معطيات، ليجتمع على الطاولة خبراء عسكريون من «مجموعة الاتصال الدولية» حول سوريا، بمن فيهم عسكريون أوروبيون، بين ممثلين عن دول وعن الاتحاد الأوروبي. عشرة أيام من مداولات خلية جنيف العسكرية أخرجت عناوين اتفاق «الهدنة» السياسي، لتبقى مهمة موسكو وواشنطن إعلانه وإلزام حلفائهما بطرق تطبيقه التفصيلية.

الاتفاق يعني الاتفاق، لا يوجد شيء بينهما، خصوصاً لجهة كيفية آليات التطبيق. هذا ما أكدته وزيرة خارجية الاتحاد فيدريكا موغيريني، بعدما كانت تصلها ملخصات يومية عن عمل الخلية العسكرية.

قالت خلال نقاش مع البرلمان الأوروبي إن حل الخلافات «نماذج (أو كيفيات) التطبيق» كان مهمة صعبة للغاية من الناحية العسكرية «خصوصاً في شمال غربي سوريا، حيث تعمل مجموعات مختلفة بشكل متزاحم، هذا معقد للغاية، لذلك احتجنا تداولاً بين العسكريين»، قبل أن تؤكد أن إعلان اتفاق الهدنة السياسي جاء تتويجاً للتفاهم على الخريطة العسكرية للتطبيق والتي تجب ترجمتها على الأرض: «عملنا (الآن) هو دفع الأطراف لقبول هذه النماذج».

أكدت على وعيهم التام لصعوبات إنجاز الهدنة، وأنها لهذا السبب تتحدث بلهجة «حذرة ومحترسة» عنها، لكنها شددت أيضاً على أن الاتفاق يجب أن يصمد لأنه الوجهة الصحيحة المجمع عليها. قالت في إشارة لتوقعهم نشاط واضعي العصي في العجلات: «الأمور تسير بالاتجاه الصحيح حتى لو رأينا انتكاسات على الأرض، فتماماً لأنك تتحرك في الاتجاه الصحيح ستجد الفاعلين الذين لا يريدون تحقيق هذه الأجندة يحاولون زعزعتها أكثر»، قبل ان تعقب «هذا لا يجب أن يجعلنا نغير نمط سياستنا، بل العكس، علينا الاصرار عليها».

الاصرار على خطوات تبريد الصراع، على رأسها الهدنة، برأي موغيريني، مسألةٌ ضرورية لتجنب الانزلاق إلى حرب أكبر. لم تعد فرص اشتعال تلك الحرب مجرد تكهنات وتحاليل، بل محصلة لتقييم صناع القرار الغربي، فكما قالت: «دورنا هو احتواء التوتر لتجنب أن تصير سوريا المسرح لنوع مختلف من حرب الوكالة، فدائماً نشير لسوريا كحرب وكالة بين الفاعلين الإقليميين. هذا سيصبح شيئاً أكبر من ذلك»، قبل أن تضيف «لا أفكر بحرب باردة، لا، نحن نخاطر بحرب ساخنة بين فاعلين مختلفين، ليس بالضرورة بين روسيا وأميركا، لكن حرباً بين روسيا وتركيا يمكن أن تحدث، ونحن الأوروبيين لدينا مصلحة واضحة لاحتواء وتخفيض التوتر بين الاثنين».

سيناريو التصعيد بما يقود لاشعال تلك الحرب لم يعد خارج احتمالات الميدان. مسؤول أوروبي رفيع أكد ذلك لـ «السفير»، موضحاً أن «الأمر لم يعد مرهوناً بالافتراضات، سيكون الانجرار إلى حرب أكبر نتيجة ممكنة إذا تم تزويد المعارضة بأسلحة متطورة قادرة على اسقاط الطائرات الروسية» قبل أن يتساءل «هل سيكفي روسيا حينها قصف مجموعات المعارضة، طالما أنها تفعل ذلك سلفاً؟».

حربٌ من هذا النوع يمكنها أن تجر إليها الأوروبيين والأميركيين، رغماً عنهم، فالصدام العسكري سيجعل أنقرة تحت مظلة الدفاع المشترك لدى حلف شمال الأطلسي.

المسؤول الاوروبي كان في عداد وفد زار المنطقة مؤخراً، اجتمع بالقيادة السعودية وكذلك القطرية. حينها كان الاعلام يضجّ بالاعلانات السعودية عن تدخل بري ممكن. لكن المصدر أكد أن أحاديث المسؤولين السعوديين بينت أن هذا التصعيد «له أهداف سياسية، وليس هناك لا قدرة ولا خطة لكي يصير تحركاً عملياً»، موضحاً أن «السعودية تبدو مندفعة لكنهم ليسوا حمقى، لقد تجاهلوا نصائح بعدم الذهاب إلى اليمن، والآن هم عالقون هناك، في سوريا الأمر أعقد بكثير».

مع ذلك، ينقل المصدر أن عدم التهور في تدخل بري لا يعني انعدام المبادرة: «يمارسون سياسة إن لم تستطع هزيمته مباشرة اتركه ينزف، لذلك هم مستعدون لفعل الكثير لتقوية المعارضة بما يجعل روسيا تغرق كما حصل في أفغانستان».

تلك التعويلات ليست خارج حسابات موسكو. سياسي أوروبي، يعمل على العلاقات مع روسيا، قال لـ «السفير» إن موسكو «تعرف أنه لا يمكنها الاستمرار هكذا وقتاً طويلاً». موضحاً وجهة نظره، يعتبر أن «روسيا بالطبع استطاعت انقاذ (الرئيس السوري) بشار الأسد، لكن ليسوا قادرين على جعله يحكم سوريا ما بعد الحرب»، لافتاً إلى أن «موسكو تحتاج ربط تلك المكاسب العسكرية بعملية سياسية، غير ذلك لا يمكنهم الاستمرار، لديهم أوكرانيا والتوتر مع تركيا وتراجع تمويل الدولة بسبب اسعار النفط والعقوبات».

مرجع رسمي أوروبي، مواكب عن قرب لمداولات الملف السوري، أيد تلك التقديرات. قال في حديث لـ «السفير» إن «روسيا كان لديها طوال الوقت مصالح مهمة للغاية في سوريا، لكن في الوقت ذاته، هي تفهم أنه لا يمكنها اللعب وحدها هناك».

الحديث عن دور الأسد، مع كل تحول واتفاق دولي، ليس بلا معنى طبعاً. تأجيل هذا الخلاف مهّد لولادة مسار فيينا، لكن كل طرف بقي مصراً على استنتاجاته وترجماته للتفاهمات والقرارات الدولية. لم تعد القصة تدور حول الشخصية بذاتها: كل قضية خلافية يمكنها أن توصل لمحطة «وماذا عن الأسد؟»، كما أن هذا السؤال يقود بدوره إلى مجمل تفرعات الخلافات.

يقول المرجع الأوروبي معلقاً على ذلك «هناك لاعبون مهمون تبنوا موقفاً صارماً حول ما اعتبروه جرائم ارتكبها نظام الأسد ضد شعبه، حينما تؤسس لهكذا موقف وتقول: تلك جرائم، والأسد يجب أن يغادر، لا يمكن التراجع ببساطة لتقول لا بأس أن يبقى، الأمر حساس جداً، روسيا يمكن أن تعارض لكنها تفهم ذلك».

في ذات السياق، لم يأخذ الأوروبيون على محمل الجد إعلان دمشق عن انتخابات نيسان التشريعية. شددت موغيريني على أن عملية الانتقال السياسي جاءت بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهي تنص على أن «الانتخابات تجري في غضون 18 شهراً، وليس خلال شهر».

أما بالنسبة للسجال المستمر حول دور الأسد، إذ أثاره برلمانيون أوروبيون أيضاً، أيدت سياسة تأجيل التداول في القضية. قالت إن دور «مجموعة الاتصال» الدولية «ليس خلق أو دعم شروط مسبقة، لأي من الأطراف، بل خلق الشروط لبدء الانتقال ودعمه»، قبل أن تضيف «موقف الاتحاد الأوروبي واضح بالاجماع، كما كان منذ خمس سنوات، الأسد لا يمكنه أن يكون جزءاً من الحكم المستقبلي لبلاده، لأسباب واضحة، وليس لأن الاتحاد الأوروبي لا يحبه، لأنه لدينا في سوريا حرب أهلية استمرت خمس سنوات، لكننا بعد الاعلان عن هذا الموقف لا يزال الأسد هناك. دورنا ليس إعلان موقف، بل خلق الشروط لبدء عملية يمكنها الوصول للنقطة التي تحقق الهدف الذي لدينا».

تلك القضية، بوضوح كلمات موغيريني وغيرها من المسؤولين الأوروبيين، ليست الأولوية الآن: على رأس الأولويات توحيد حملتي واشنطن وموسكو لحرب «داعش»، واحتواء الحرب السورية بما يقلل تدفقات اللاجئين.

هنا تأتي الهدنة لتخدم تلك الأهداف. الاتفاق مع موسكو على من يجب التوقف عن قصفه يمكنه التمهيد لعمل مشترك ضد من يجب استهدافه. وزير الخارجية الالماني فرانك فالتر شتاينماير قال إن «أي طرف في الصراع السوري» لا يتلزم بالهدنة حال سريانها «ليس له بوضوح مصلحة في تسوية سياسية، وعليه توقّع رد فعل موحدا وحازما من المجتمع الدولي».

رد «موحد»؟ هل يمكن الذهاب لتحالف واحد «لمحاربة الارهاب»؟ الرئيس فلاديمير بوتين، بنفسه، قال إن «الاتفاق يمكن أن يغير وضع الأزمة في سوريا بشكل جذري». كل الحسابات والرهانات تبقى الآن منوطة بآفاق هدنة عنوانها الأوروبي: هدنة الضرورة والممكن. لا يتوقعون منها نتائج كبيرة ومباشرة، بل تقدماً تدريجياً وتراكمياً بموازاة بناء الحل السياسي. هذا المأمول الآن. بأسوأ الأحوال، يمكنها أن تجمّد الصراع، تقريباً كما حدث في اتفاق «مينسك» الأوكراني: الخروقات لم تتوقف، لكن الجميع ينادي بالتمسك به.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى