للشهادة طعمٌ ولونٌ ورائحة
ناصر قنديل
– للشهادة دائماً طعم خاص ومذاق مختلف، ولون ورائحة، نحسّها جميعها ونتنفّسها ونشربها ونسمع وقع أقدامها من حولنا، وبحجم الخسارة يرتفع في ميزان الشهادة مؤشر مختلف، فتترصّد في حساب قيم محدّدة أرقام هائلة تغيّر أحياناً وجهة حرب أو اتجاهاً في الرأي العام، وفي مرات تستنهض الشهادة همماً وتُحرج نفوساً وتُطلق ألسنة وتفكّ أيدٍ مغلولة، لأنّ الدم عندما يسقط يتحوّل إلى قيمة، لا يفهم وقعها ومعناها الذين لا يعرفون أنّ حركة الشعوب دائماً هي تدافع موجات من الناس تكتب تاريخ أوطانها وأممها، وأنّ الدماء ذات سحر خاص في صناعة هذه الموجات وتحفيزها ورسم خطاها، وسهل القياس على مَن يشتبه عليه الأمر، بالتوقف أمام رموز خالدة في الذاكرة الإنسانية، ليكتشف أنّ الدماء كانت ذات لون وطعم ورائحة في رسم معنى هذا الخلود .
– في أبعاد ومعاني الحرب على سورية، وموقعها في استهداف الجغرافيا السياسية للمنطقة لحساب مفهوم الأمن «الإسرائيلي» بوجه مشروع المقاومة، وحساب مشروع التقسيم والتفتيت بوجه نموذج الدولة المدنية العلمانية، تشهد الدماء على المعاني، وترسم في الوعي الجمعي منظومة القيم، فشهداء الجيش السوري وتشكيلات الدفاع الوطني، يرسمون معنى تماسك الشعب السوري حول دولته وتمسكه بها كفكرة ومشروع، وتماسك الدولة وتمسكها بموقعها في الصراع بين مفاهيم الأمن الاستراتيجي في المنطقة انحيازاً نهائياً لا رجعة عنه لحساب مشروع المقاومة، وتجذراً لا انفكاك فيه لحساب مشروع الدولة المدنية العلمانية بوجه مشاريع التفتيت والتقسيم، وإذا كان ثابتاً أنّ هذين المفهومين والبعدين الجوهرين لاستهدافات الحرب من جهة، ودور الدماء في ترسيخ القيم التي ترسم عبرها مكانة سورية وموقعها، من جهة أخرى، هما ثنائية العلاقة بين الحرب والدم، فإنّ دماء شهداء المقاومة الإسلامية، وما لها من مكانة في عميق الوجدان السوري والعربي والعالمي، كانت الشهادة الصارخة من أعمق مكان في الوجدان يمثله سيّد المقاومة لصدقية الوقوف عند خط الدفاع عن المقاومة وفلسطين في هذه الحرب، وبعدها تشهد دماء المتطوّعين الآتين من العراق القريب ومن غيره البعيد علامة العالمية التي يستشعرها مناضلون ضدّ الإرهاب في بلادهم، يقولون للسوريين كما هم جاؤوكم من بلاد العالم لستُم وحدكم، وها نحن قد جئنا.
– لكن فوق كلّ ذلك وبعد كلّ ذلك، كانت سورية تنادي دماء القوميّين، لتأتي دماء شهداء الحزب السوري القومي الاجتماعي، على أرض سورية من أبنائها ومن أشقائهم ورفاقهم اللبنانيين، والحزب من قلب وروح المقاومة لتضيف على الصدقية صدقية في تثبيت مكانة الحرب من خيار المقاومة، ومن الحرب على الإرهاب، لكن لشهادة القوميين ودمائهم طعم ولون ورائحة ونكهة مضافة، فهذه الشهادة هي المصداق المضاف على خيار الدولة العلمانية المدنية بوجه مشاريع التفتيت والتقسيم. والحزب السوري القومي الاجتماعي هو، بلا منازع، الحركة الأثبت والأعرق والأوسع انتشاراً في القاعدة الاجتماعية لكيانات المنطقة، المعبّرة عن روح العلمانية والمدنية والعابرة للطوائف والمتجاوزة لترسّبات العصبيات، بشهادة أعدائها قبل الأصدقاء. التيار المدني العلماني الأعرق والأعمق في المنطقة، يشهد بدماء قادته ومناضليه، أنّ حرب سورية هي حرب التفتيت والتقسيم، وأنهم هناك بدمائهم يتربّصون، لحماية وحدة النسيج الاجتماعي لسورية، وخيار الدولة المدنية العلمانية التي تشكل وحدها جسر عبور من التخلف إلى الحداثة، ومن الإرهاب والتكفير إلى العيش الواحد بفرح بين كلّ مكوناتها وأعراقها وأبناء دياناتها.
– جاءت شهادة العشرات من القوميين، بصمت وهدوء وبلا ضجيج، فهكذا هم القوميون، لا يتحدّثون حتى تحرجهم الدماء وتتحدّث عن نفسها، لأنهم وهم يفاخرون بشهدائهم يخشون أن يظهروا باستعراضية يمقتونها، ويعرف السوريون أنّ الآلاف من الشباب القوميين يحملون السلاح ويقاتلون من السويداء حيث كانوا خط دفاعها الأول، إلى القنيطرة وريف دمشق، وأحيائها، في الميدان كما في باب توما وصولاً إلى معلولا وصيدنايا والقريتين وصدد وسائر أرياف حمص وحماة من محردة حتى الغاب وريف اللاذقية في سلمى وربيعة وتل النبي يونس، حتى يتصلون بحلب وأريافها والحسكة ودير الزور، ويعرفهم أبناء بلداتهم وقراهم ويرون الزوبعة علماً يرفرف في جبهات القتال كلّها، وهم لا يثيرون ضجيجاً إعلامياً لأنهم يرون غزارة وكثافة شهادة دماء الحليف الحميم بقوة شراكة الدم، ويخشون أن يستخدم كلّ إعلام لتضحياتهم كتنافس استعراضي لا يشبههم، ويصير أداة للتشويش على هذه الشهادة ودورها، والشريك هنا هو الجيش السوري وهو حزب الله معاً.
– فجأة، سقط شهيداً القيادي القومي العسكري والأمني والشخصية الثقافية والإعلامية الحزبية أدونيس نصر، وما له من امتداد في وسط القوميين كبيئة وناس وشرائح ممتدّة من الناقورة إلى عكار، وما له من رصيد أخلاقي ومعنوي على مستوى أوسع من بيئة الحزب، لتحدث دوياً مزلزلاً وتقول، إنهم القوميون، هنا الشهادة لها أيضاً طعم ولون ورائحة، وقيمة مضافة، فقد فجّرت شهادة أدونيس ينابيع النهضة القومية مجدّداً، ومنحت هذا الحزب المقاوم والضامن للوحدة والعلمانية، مكانة وموقعاً يليقان به وبتضحياته، ومنصة وأضواء يستحقهما للإدلاء بنصه الفكري والسياسي كفريق حاسم في صناعة النصر في سورية، لينتبه لبنانيون كثر أنّ المشروع الطائفي الذي نهش سورية من خاصرتيها اللبنانية والعراقية، قبل أن يخرج بصيغة وحش دموي، سيسقط بالضربة القاضية في سورية، بدماء للقوميين منها نصيب كبير، ليعود مشروع الدولة المدنية والعلمانية بكلّ قيافته وقوته مندفعاً كخيار لا بديل عنه لإعادة بناء لبنان والعراق، ولسان حال القوميين في شهادة أدونيس، أنّ ما قبلها ليس كما بعدها، فتلك عظمة الدماء التي تطلق ألسنة وتشعل أفئدة وتفك أغلال أيدٍ وأقدام.
– شهيد… زفير، شهيد… زفير، شهيد… زفير، المهمّ الوطن يتنفّس… كم أنت عظيم ورائع يا أدونيس.
(البناء)