ظاهرة التلاعب بتقارير الاستخبارات لتبرير سياسات البيت الابيض د.منذر سليمان
لماذا العودة
تجددت الاتهامات للادارة الاميركية بتلاعبها بالتقارير الاستخباراتية كي تتوافق وتتسق مع الرواية الرسمية بأنها تسدد ضربات موجعة لتنظيم الدولة الاسلامية اضحى بموجبها يترنح تحت وطأة تلك الغارات .
مرة اخرى، برزت نشرة ديلي بيست في الانفراد باثارة المسألة راهنا، بعد تقريرها الاصلي في شهر تشرين الثاني / اكتوبر عام 2015، استندت فيه الى تصريحات المدير السابق لوكالة الاستخبارات الدفاعية، مايكل فلين، واخرين كبارا حول “التلاعب” المستمر بتقارير العاملين في الاجهزة المختلفة لشؤون الارهاب بغية “تحسين صورة الجهود التي تقوم بها الادارة الاميركية” في محاربة داعش.
واوضحت النشرة الالكترونية ان المشهد هذه المرة يتضمن “اتهامات لم يتم الافصاح عنها سابقا، والتي قدمت لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية،” جيمس كلابر، تتضمن اقرارا من المسؤولين عن المعلومات الاستخباراتية لمعرفتهم المسبقة بما يعتري تلك البيانات من تحريف يطال مصداقيتها ووصحتها” وجدت طريقها لمكتب الرئيس اوباما.
وساندتها لاحقا صحيفتا نيويورك تايمز و نيويورك بوست. وقالت الاولى ان مضي “المفتش العام للبنتاغون اجراء تحقيق حول قيام مسؤولين عسكريين بتقديم تقارير مغلوطة عن تقدم العمليات ضد داعش .. جاءت بعدما توصل جهاز مخابرات (البنتاغون) الى الاتهام بتورط عدد من القيادات العسكرية العليا” في التلاعب بمضمون التقارير الاستخباراتية “وتزييفها بالجملة” فيما يتعلق بسير العمليات في العراق وسورية، وتسليمها للمسؤولين “وعلى رأسهم الرئيس اوباما، بعد مرورها وفحص صدقيتها وتدقيقها من قبل عدة مؤسات داخلية ذات الصلة.
واضاف تقرير المفتش العام ان القيادات العسكرية العليا اصدرت اوامر بالتوبيخ للمحللين الذين أصروا على التجرد والمهنية بحجة انهم “ذهبوا لمنحى رسم صورة سوداوية” للاوضاع الميدانية ضد داعش.
نيويورك بوست افادت ان “هناك ثورة مفتوحة تجري داخل المؤسسة الاستخباراتية الأميركية مع قيام أكثر من 50 من المحللين المخضرمين باتهام البيت الأبيض بالتلاعب بتقاريرهم حول تنظيم “داعش” بطريقة منهجية لتعكس وجهة نظر الإدارة الحالية.”
اذن، الكشف عن نفوذ السلطة التنفيذية لتطويع التقارير المصنفة سرية لاغراضها لم يأتِ بجديد، لا في الكم ولا في الحجم، والتي لا يستبعد بعض القادة السياسيون تسخير مضامينها في خدمة “مخطط ما تحيكه واشنطن،” ضد دول معينة تجمعها خصومة، بل يعتقد انه محطة من محطات الصراع السياسي بين البيت الابيض والقادة الجمهوريين لاستغلال المشهد الانتخابي.
يشار في هذا الصدد الى اتهام اركان ادارة الرئيس السابق جورج بوش الابن “بالانتقائية وتزييف المعلومات الاستخباراتية” لتبرير غزوها واحتلالها للعراق؛ ومطالبة عدد من اعضاء الكونغرس بمحاكمة بوش وكافة المتورطين معه.
من شأن المعلومات المتداولة اعلاه ان تشكل ساحة صدام جديدة بين الكونغرس ومدير مكتب الاستخبارات الوطنية، الذي تعرضت مصداقيته للشك والتساؤل سابقا ابان مثوله امام احدى لجان الكونغرس، في ايلول / سبتمبر الماضي، والتي نفى فيها علمه بأي جهود تلاعب.
وقال كلابر للجنة القوات المسلحة بثبات “من مقدسات مهنة العمل الاستخباراتي عدم تسييس البيانات. لم اوافق يوما ولن اتغاضى عنها حين بروزها.” وسعى لتبريد الأمر بأنه ثمة “مبالغة وغلو اعلامي .. ومن الافضل انتظار نتائج تقرير المفتش العام للتوقف عند مدى التسييس الذي قد تعرضت له بيانات القيادة المركزية” للقوات الاميركية.
نمطية التزييف
عودة سريعة الى تقرير نيويورك تايمز، 26 آب 2015، الاصلي وردت فقرة لافتة في سياق تفسيرها لمدى نفوذ وسطوة وكالة الاستخبارات الدفاعية على مضمون التقرير الاستخباري الدوري المعروف بـ “تقويم الاستخبارات الوطنية،” ابان الحرب الاميركية على فييتنام، جاء فيه ان معدي التقرير، حزيران / يوليو 1967، توصلوا لنتائج مفادها انه “من المستبعد الحاق الولايات المتحدة الهزيمة بقوات فييتنام الشمالية ابدا؛” والذين وفق رواية الصحيفة تم “تخطيهم باستمرار من قبل مرؤوسيهم .. لاعتقادهم بأن الانتصار على الابواب شريطة نشر مزيد من القوات العسكرية.”
التضليل الذي قام به كلابر لاعضاء الكونغرس، حسب تقرير ديلي بيست سالف الذكر “لم يكن اول مرة، بل اضحى يشبه نموذجا معتمدا،” لا سيما في اصراره السابق على عدم انخراط وكالة الأمن القومي في التجسس على الاتصالات الداخلية للاميركيين، وما لبث ان فنده تقرير ادوارد سنودن بالوثائق. زعم كلابر لاحقا ان “ذاكرته خانته” في هذا الصدد، مستنكرا “الضجة الاعلامية” المرافقة.
ضابط الاستخبارات المركزية السابق، بول بيللر، الذي اضحى من اشد معارضي سياسة الرئيس جورج بوش الابن في العراق، اوضح في مقال نشره في دورية فورين افيرز، الاول من آذار 2006، مخاطر تزييف التقارير الاستخباراتية قائلا “في الحقيقة تتم عملية تسييس البيانات الاستخباراتية بطريقة بارعة وقد تتمظهر في عدة تشكيلات. المضمون هو الركيزة الهامة.” قبل بدء العدوان الاميركي على العراق بزمن طويل، آذار 2003، قال “اتضح ان ادارة (الرئيس) بوش .. ستتجاهل التحليلات التي تشكك بقرار الذهاب للحرب وسترحب بتلك التي تؤيد قرارا بهذا الخصوص ..”
واوضح بيللر ما يدور بخلد معدي التقارير الاستخباراتية “التواقون للفت انتباه مرؤوسيهم لجهودهم، خاصة انتباه يرافقه الرضى، من قبل صناع القرار السياسي الذي يعد مقياس للنجاح.” واضاف ان بعض محللي المعلومات ىالاستخباراتية قد يميلون لصياغة ما يرغب مسؤوليهم الكبار قراءته لنيل رضاهم على حساب التضحية بالموضوعية والتجرد.”
يشار الى ان بيللر، بعد تقاعده من منصبه، اعرب عن اسفه للدور الذي قام به، او اضطر اليه، في صياغة بعض اجزاء تقرير “تقويم الاستخبارات الوطنية،” الذي تم تسخيره في خدمة التبريرات لشن العدوان. وفي معرض شرحه لوطأة الضغوط التي تعرض لها وزملاؤه آنذاك، يعيد بيللر الى الاذهان نمطية تلاعب القيادة المركزية بالتقارير الواردة المشار اليها في تقريري نيويورك تايمز و ديلي بيست، في انتهاك صارخ للقوانين الرسمية السارية التي تحظر ادخال تعديلات على التقارير الاستخباراتية بغية تحقيق اهداف سياسية.
اشار بعض ضباط الاستخبارات “المتقاعدين” الى شكوكهم بنزاهة التحقيق الجاري لحصر مداه في القيادة المركزية فحسب، التي ليست سوى احد المكونات للتقارير الاستخباراتية المختصة بشؤون الارهاب وداعش بكافة تصنيفاتها السرية. ويضيف هؤلاء في تقرير لمعهد كاتو للابحاث والدراسات ، 31 آب 2015، انه لو قدر لمجريات التحقيق المضي الى مدياتها الابعد، فانها ستشمل “كافة مكونات الاجهزة الاستخباراتية المكلفة باصدار تحاليل دورية وتقارير تقييم لأي مجموعة .. ومن شأنها ايضا تضمين تقارير تنزع عنها صفة السرية وتضعها في دائرة التداول العام.”
السؤال المركزي والجوهري في آن يتعلق بالهدف النهائي “للمعلومات الاستخباراتية المنقحة،” هل تصب في خدمة رواية السلطة التنفيذية واغراضها بشكل خاص ومحدد، ام ترمي لتضليل الجمهور والرأي العام بالدرجة الاولى وبطرق ملتوية وتضليلة كما تثبت تجارب الحروب الاميركية في عدوانها على فييتنام والعراق وليبيا وسوريا، للحظة.
تسخير التقارير الاستخباراتية في خدمة التقارير العسكرية ليس مهمة شاقة ويلجأ اليها معظم الرؤساء الاميركيون لحشد الرأي العام وراء سردية حيكت بدقة. استطاع الرئيس الاسبق ليندون جونسون الاستمرار في شن حربه الداخلية والترويج لنجاح “استراتيجية الاستنزاف” في فييتنام، بالاستناد الى المعلومات “المنقحة” والهادفة، متصادما بذلك مع تنامي الرفض الشعبي وفي اروقة الكونغرس لاستمرار الحرب.
اما سجل الرؤساء اللاحقين والمنتظرين فحدث ولا حرج: نيكسون، كارتر، ريغان، بوش الاب، كلينتون، بوش الابن، واوباما. “الاخفاقات” الاستخباراتية المنسوبة للاجهزة الأمنية المختلفة، جورج تينيت على رأس هرم السي آي ايه ابان 11 ايلول 2001، وما تلاه من “قصور” في معلومات موثقة عن العراق، ولاحقا فضائح ديفيد بيترايوس، وما سيتبعها من انقسامات ومهازل لا ولن تؤدي بمرتكبيها الى المساءلة، على اقل تعديل. فالمؤسسة الحاكمة تسخر كل الموارد والمؤسسات المتاحة في خدمة اهدافها الآنية والبعيدة، بصرف النظر عن صاحب القرار السياسي في البيت الابيض.
للتذكير، ارتبط اسم بيترايوس ليس بفضيحة التصاقه بعشيقة شاركها اسرارا عسكرية فحسب، بل تطويعه للمعلومات الاستخباراتية حول افغانستان ابان خدمته في قيادة القوات الاميركية هناك عام 2011، ومفاضلته رؤى القوات وقيادات القوات البرية على تقارير وكالة الاستخبارات المركزية التي “تخفق في رصد منسوب التطور” الميداني مقارنة بالقوات والقيادات العسكرية المنخرطة بالقتال – وفق منطقه.
يذكر ان بيترايوس كان من اشد المناصرين لخطة الرئيس جورج بوش الابن بارسال مزيد من القوات العسكرية الاميركية، خطة الطفرة، لافغانستان التي اسفرت في النهاية عن احراز “انجازات هشة” امام خصمها في حركة طالبان. اما رؤية وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك فكانت “اخف تفاؤلا،” وخشية قياداتها من استغلال خطة “الطفرة” للالتفاف على معارضتهم واضطرارهم لدعم الخطة المعتمدة من خارج صفوفها.
في مسألة تطويع الرؤساء الاميركيين للمعلومات الاستخباراتية يحضرنا اقدام الرئيسين الاسبقين نيكسون وريغان على “التغاضي عن حيازة باكستان لاسلحة استراتيجية،” في عقدي السبعينيات والثمانينيات. الاول كان بدافع حماية باكستان كقناة اتصال سرية مع الصين، والثاني رمى لحماية باكستان من الانتقادات الداخلية للحفاظ عليها كممر لعبور شحنات الاسلحة المرسلة “للمجاهدين الافغان” آنذاك.
يتكشف بين الفينة والاخرى مدى الصراع الداخلي بين البيت الابيض، كمركز السلطة التنفيذية، والمؤسسات الاستخباراتية بمجموعها على خلفية سعي الطرف الاول “تسييس” وتطويع المعلومات والتقارير المقدمة خدمة اجندات تيارات سياسية معينة.
في هذا الصدد، كشف الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، تايلر درم هيللر، في كتابه على شفير الهاوية، 2008، عن بعض الصراعات الخفية ابان ولاية الرئيس بوش الابن وتسييسه للتقارير الاستخباراتية، ولجوء بعض مسؤوليها “للتغاضي عن العديد من الاخطاء التي ارتكبتها عمدا (ادارة بوش) واغراقها البلاد في مستنقع العراق الدموي.”
ويمضي درم هيللر في كشفه عن عجز “العديد من مسؤولي اجهزة الاستخبارات الوقوف بوجه اشرس صقور الادارة الاميركية،” ديك تشيني ودونالد رامسفيلد ورهطهما، بل اشار الى “اندلاع صراع مكشوف بين الطرفين (الاجهزة والبيت الابيض) وصلت الى حد اصدار التهديدات بالتصفية او القتل .. لقد كان الأمر جنونيا.”
اهمية رواية درم هيللر لا تكمن في رصده الحدث من الداخل، وان لم يأتِ بجديد يذكر، بل لكونه مسؤولا رفيع المستوى عن العمليات في مناطق متعددة من العالم، منها ترؤسه القسم الاوروبي في وكالة الاستخبارات المركزية، امتدت خدمته على مدى 30 عاما، قبل ان يتقاعد عام 2003.
نهج التسييس
تطويع المعلومات لخدمة اهداف معينة يضرب جذوره عميقا في التاريخ، ومن غير المستبعد ان نشهد قيودا عليه او نهاية له، ويفضل النظر في اعماق الرؤى والاستنتاجات المنحازة وما يمكن ان تؤدي اليه من نتائج.
لجوء القيادات السياسية للتلاعب بالمعلومات يبررها اقدامها على اتخاذ مواقف سياسية حادة عادة ما يرافقها معارضة شعبية قوية؛ كما يدلنا التاريخ على الحروب العدوانية في فييتنام والعراق ويوغسلافيا .. الخ.
امام هذا المشهد في المعلومات الاستخباراتية الاميركية ينبغي طرح تساؤلات جريئة، ابرزها: هل هناك فائدة ما ترتجى من ورائها على السياسة الخارجية الاميركية؛ هل فات اوان التاثير على وجهة المعلومات المعدلة والدخول في نقاش حولها، وهل تؤدي بنا الى التوقف عند عتبة اليأس التي وصل اليها صانع القرار؛ ما هي التداعيات التي ستتركها على مجمل العلاقات مع جمهور الناخبين والكونغرس ومنظومة الاجهزة الاستخباراتية.
نعود لنذكر بالابعاد الداخلية لاهداف الادارات المتعاقبة من وراء المعلومات “المنتقاه،” التي حيكت للاستهلاك المحلي واعيدت صياغتها لتخفيف حدة المعارضة السياسية الداخلية.
كما ينبغي التنويه الى أهمية توقيت الافراج عن المعلومات المنقحة، في ظل ما واجهه الرئيس ليندون جونسون من معارضة شعبية واسعة للحرب الفييتنامية؛ والرئيس اوباما في الاستخفاف بقدرات داعش القتالية، بداية الأمر.
لجان التحقيق السابقة في تجاوزات وكالة الاستخبارات المركزية، اشهرها لجنة “فرانك تشيرتش،” في بداية عقد السبعينيات، اطاحت بهيبة الوكالة واضرت بها في نظر الجمهور، واستمر بها الأمر خلال عهد الحرب الباردة. ادلاء جيمس كلابر بشهادة كاذبة امام الكونغرس، لم تبرز تداعياتها الى الواجهة، بيد ان عددا من اعضاء الكونغرس يتربصون به في الجلسات المقبلة لمساءلته مرة اخرى، طمعا في الحفاظ على سمعة المؤسسة ليس الا، خاصة للاهانة الضمنية الموجهة للمؤسسة الرئاسية بالدرجة الاولى.
ضباط الاستخبارات المهنيون يستحضرون بعض القيم والمباديء التي ينبغي الحرص على التمسك بها، لا سيما وان مسائل السرية يجب ان تبقى حبيسة ادراج مهنة التجسس، وتطويعها بمهارة وبراعة في تحقيق اهداف محددة تأخذ بعين الاعتبار التداعيات السلبية الناجمة والاعداد لها. ويضيف هؤلاء ان دروس التاريخ المستخلصة تدل على ضرورة شد الانظار الى عدم صلاحية قاعدة التحكم بتداعيات قضايا سياسية غير مريحة خلال فترة زمنية قصيرة لأن الحقيقة ستظهر في نهاية المطاف.