«أسبوع الفشل العظيم» .. لتركيا محمد نور الدين
انتهت التحذيرات والتهديدات التركية ضد سوريا و «قوات حماية الشعب» الكردية إلى طريق مسدود. كان ذلك متوقعاً، إلا في حالة واحدة هي أن يرتكب قادة «حزب العدالة والتنمية» حماقة تأخذ تركيا إلى المجهول، بل إلى المعلوم من تداعيات سلبية على الأمن القومي التركي.
واجهت تركيا سداً غير مسبوق من التحفظات والاعتراضات، سواء من الأعداء أو من الأصدقاء، بل الحلفاء في أسبوع موصوف من «الفشل العظيم».
في التطورات الميدانية تلقت تركيا صدمة كبيرة من خلال عدم قدرتها حتى على حماية بعض خطوطها الحمر، وصولا إلى التفجير الخطير غير المسبوق، والذي استهدف حافلات تقل عسكريين أتراك في قلب المجمع الأمني والسياسي في أنقرة، وانتهى إلى 28 قتيلا و61 جريحا على الأقل. واستكملت دائرة النار بعبوة تزن طناً تم تفجيرها بقافلة عسكرية قرب ديار بكر، أسفرت عن مقتل سبعة جنود أتراك.
فقد رفعت تركيا سابقاً، ولا تزال، شعار أن دخول «قوات الحماية» الكردية إلى المنطقة الممتدة من جرابلس إلى عفرين هو خط احمر. وكما كانت تعلن أن إنشاء كيان كردي في العراق خط احمر، وما لبث أكراد العراق أن داسوه بأقدامهم، وصولا إلى فدرالية أقرب إلى دولة مستقلة، فإن أنقرة قد واجهت خيبة أمل كبيرة عندما رفضت «قوات الحماية» الكردية، بفصيلها الرئيسي «حزب الاتحاد الديموقراطي» الخطوط الحمر التركية، بل كسروها في تحد يشبه تحدي النملة للفيل وانتهى إلى انتصار النملة.
قالت تركيا إن على الأكراد أن ينسحبوا من منغ ومطارها، وحذرت من السيطرة على تل رفعت كما على إعزاز. لكن «قوات الحماية» كسرت الخطوط الحمر التركية، وبقيت في منغ، وسيطرت على تل رفعت وتقدمت إلى إعزاز.
حتى لو بقيت الخريطة الميدانية على ما هي عليها الآن، فإن خط الإمداد التركي إلى حلب عبر بوابة باب السلامة الشمالية قد قطع نهائيا. ولم يعد أمام تركيا سوى المنطقة الممتدة حدودها مع سوريا في لواء الاسكندرون قبالة جسر الشغور عبر ادلب ومنها إلى حلب. وهي طريق إمداد صعبة بطبيعتها الجغرافية.
أما تلك المنطقة المتبقية من إعزاز الى جرابلس فهي تحت سيطرة «داعش»، وتركيا أمام امتحان حرج جداً إذا أرادت استخدامها، اذ إنها ترفع لواء محاربة «داعش».
في إطار هذه اللوحة القاتمة فإن تركيا تجد نفسها في بئر لا قاع له، وأمام خريطة لا تسر قادتها. تحذر وتهدد بأنه لن يحدث أي تطور لا نوافق عليه. لكن حدث الكثير مما لم تكن توافق عليه.
على صعيد الاشتباك السياسي بين أنقرة وواشنطن حول تصنيف «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيما إرهابيا، فقد أكدت التصريحات النارية المتبادلة أن الخلاف عميق بهذا الشأن. وجاء البيان الرئاسي من مجلس الأمن الدولي الذي دعا تركيا إلى وقف قصف الأراضي السورية، والذي عبر عن قلقه من هذا القصف ليشكل هزيمة للديبلوماسية التركية في ذروة الحاجة لعون خارجي، ويكشف عزلتها الدولية.
والبيان معبر في تفاصيله «الصغيرة». فقد جاء بالإجماع. أي أن واشنطن أيدته، وكذلك دول صديقة لتركيا، مثل ماليزيا ودول تدعم المعارضة السورية مثل الأردن.
كذلك جاءت العزلة التركية من فرنسا، في بيان رسمي لوزارة الخارجية، بعد رحيل وزير الخارجية لوران فابيوس، يدعو تركيا لوقف قصفها للأراضي السورية. فإذا كان هؤلاء يعارضون مجرد قصف مدفعي للأراضي السورية، وهم أصدقاء لتركيا، فهل تأمل أنقرة منهم أن يدعموها في عملية عسكرية برية في سوريا؟
وتلقت تركيا ضربة إضافية هذه المرة، ليس من صديق بل من عدو لدود هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي رفض التدخل العسكري في سوريا، بما يشمل ضمنا أيضا انتقادا للسعودية الداعية بدورها لمثل هذا التدخل، وبما يعكس فشل الوساطة السعودية لترطيب الأجواء بين القاهرة وأنقرة.
هذه المناخات الديبلوماسية كانت تترافق مع مواقف حادة ومتشددة للمحور السوري ـ الإيراني ـ الروسي، وتحذير أنقرة من أي تدخل في سوريا.
لم يبق أحد مع تركيا سوى السعودية. لكن في العمق قد لا نجد الرياض منزعجة كثيراً من الفشل التركي. هي لا تسعى إليه، بل تمد تركيا بالعون. لكن إذا وقعت الواقعة فإن أنقرة، لا الرياض، ستكون الخاسر الأكبر. ففي النهاية فإن الجوار الجغرافي التركي مع سوريا، وفتح حدودها مشرعة للتدخل في سوريا منذ بدء الأزمة، يرمي كرة الفشل في الملعب التركي. بل إن الإعلام السعودي والخليجي، المرئي والمكتوب، استمر في توجيه انتقادات لرجب طيب أردوغان واظهر شماتة في «تقهقر المعارضة السورية أمام الأكراد في ريف حلب»، وهو المانشيت الحرفي لصحيفة «الحياة» يوم الثلاثاء الماضي.
وما دام الأمر كذلك وليس من مفر فقد توالت التصريحات التركية التراجعية عن التهديد بالحرب ودخول سوريا. التصريح الأقوى كان لنائب رئيس الحكومة التركية المتحدث باسمها والقيادي في «حزب العدالة والتنمية» نعمان قورتولموش، بعد اجتماع الحكومة يوم الثلاثاء الماضي، بالقول إن الحكومة لن تقحم تركيا في مغامرات في سوريا. وربما كان الأهم هنا انه أعقب ذلك بجملة «نريد ان نطمئن الرأي العام التركي بهذا الخصوص». أي إن الخوف من تدخل عسكري تركي ليس لدى سوريا ومحورها، بل لدى المجتمع التركي. وكان هذا انعكاسا للتحذيرات المتوالية في الداخل التركي من مغبة تورط أنقرة في مغامرة عسكرية في سوريا.
في هذا الإطار برز كلام منسوب في صحيفة «زمان» التركية لمصادر عسكرية تركية من أن المؤسسة العسكرية تعارض تدخلا عسكريا بريا تركيا في سوريا، من دون غطاء شرعي دولي، مثل صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي. وفي تقدير المؤسسة العسكرية أن دخول سوريا سهل، لكن الخروج منها صعب جدا. وفي التقييم العسكري أن هناك قلقا من عدم وجود إستراتيجية بعيدة المدى لدى الحكومة التركية وأردوغان بالنسبة لموضوعات مثل «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سوريا، وسوريا، والوجود الروسي هناك.
كما أن زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض كمال كيليتشدار أوغلو شن هجوماً عنيفا على سياسة رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو في سوريا، مكررا تشبيه تركيا بأنها تحولت إلى طفل لقيط في الشرق الأوسط، ومتسائلا عما كانت تفعله الحكومة حين كان «حزب العمال الكردستاني» يدخل الأسلحة إلى تركيا، ويكدس آلاف الأطنان منها ليبدأ معركته الحالية في المناطق الكردية.
وأشار كيليتشدار أوغلو، في لمحة ذكية، إلى أن مصطفى كمال أتاتورك وقف ضد سياسة الأحلاف الإسلامية التي كانت تطرح في العشرينيات، ناسباً إلى أتاتورك قوله إن العالم الإسلامي لا يمكن أن يدار من مركز واحد. وذلك في إشارة إلى المشروع العثماني لأردوغان، الساعي إلى الهيمنة على العالم العربي والإسلامي. بل أكثر من ذلك، قال كيليتشدار اوغلو إن أتاتورك، الذي رفض الرابطة الإسلامية، كان ضابطاً في الجيش العثماني، كذلك كان عصمت اينونو ضابطاً في الجيش العثماني ورافضا، كما أتاتورك، الرابطة الإسلامية. أي أن «العثمانيين الأصليين» كانوا رافضين لتجديد المشروع العثماني، فكيف للعثماني الجديد بعد مئة سنة أن يخوض غمار حرب شاملة من اجل خرافة اسمها «العثمانية الجديدة»؟.
جاء تفجير أنقرة بالحافلات العسكرية مساء الخميس الماضي ليضع تركيا أمام تحد جديد. كان اختراقا كبيرا لقلب الدولة الأمني والعسكري. الاستخبارات لا شك مسؤولة عن هذا الاختراق. لكن التداعيات السياسية والعسكرية لن تكون قليلة ولا سهلة. بمعزل عن المنفذين الفعليين فالاتهام، وفقا للمحللين العسكريين الأتراك، يوجه إلى «حزب العمال الكردستاني» وإلى «داعش». لكن البوصلة الحكومية التركية توجه دائما إلى ما وراء الحدود، في محاولة للاستفادة من الحدث إلى أكبر حد، عندما اتهم رئيس الحكومة شخصا من التابعية السورية اسمه صالح نجار، وينتمي إلى «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بتنفيذ العملية الانتحارية بسيارة مفخخة. والمفارقة أن رفض الاتهام التركي لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي جاء من واشنطن، التي قال متحدث باسم البيت الأبيض إن الفاعل ليس معروفا بعد.
لكن ليست المرة الأولى التي يعلن أردوغان عن نفاد صبره. والجيش، رغم انه كان المستهدف الرئيسي، لن يكون في موقع المندفع لردة فعل انفعالية. بل بالعكس ربما يرفع البطاقة الحمراء هذه المرة بوجه أردوغان ويقول له «كفى»، مدركاً انه ليس سوى فخ تستدرج إليه أنقرة بشبه إجماع المحللين الأتراك، ويدعوه إلى التخلي عن سياسات التدخل المذهبي والعرقي في سوريا والمنطقة. إذ إن هذه السياسات وحدها هي التي جلبت لتركيا المخاطر وعدم الاستقرار، والتي حولتها إلى باكستان أخرى تجاه سوريا الأفغانية. وكم كان القيادي السابق في «العدالة والتنمية» أرطغرل غوناي محقاً عندما قال، وكان وزيرا للثقافة والسياحة، إنه حذّر أردوغان في بداية الأزمة، ولما تكن بعد قد كبرت، من مغبة التدخل في الأزمة السورية، فما كان من أردوغان إلا أن أجابه «لا تقلق، ستة أشهر وتنتهي القضية». ويقول غوناي، في حوار مع إحدى الصحف، «لقد مرت الستة أشهر. وها تكاد تمر ست سنوات، وأخشى ألا نتخلص من تأثيرات سياساتنا في سوريا علينا قبل مرور ست عشرة سنة». وأضاف إنه «كما انتهت سياسات الاتحاد والترقي المغامرة إلى انهيار الدولة العثمانية، وانتهت سياسات صدام حسين إلى انهيار العراق وسلوبودان ميلوسوفيتش إلى انهيار يوغوسلافيا، فإن سياساتنا الحالية قد تنتهي إلى النتائج نفسها. لذا علينا أن ننسحب من الأزمة السورية في أسرع وقت».
وبعد خمس سنوات كاملة من محاولات إخضاع سوريا والهيمنة عليها وعلى المنطقة، وبعد عشر سنوات من إطلاق مشروع «العمق الاستراتيجي» الذي يريد الهيمنة على الجغرافيا الإسلامية الشاسعة في قارتين ومن سوريا إلى العراق ومن السعودية والخليج إلى مصر، مروراً بليبيا وتونس والمغرب، لم يتبق لدون كيشوت تركيا العظيمة من هدف يواجهه سوى تنظيم صغير، بالكاد ظهر حديثاً على مسرح الأحداث، هو «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي. ولم يتبق من هذا المشروع الإمبراطوري العثماني، الممتد من الصين إلى الأدرياتيك، ومن موريتانيا إلى جيبوتي، في تراجيديا إغريقية موصوفة، سوى محاولة وضع اليد على «ضيعة» اسمها إعزاز!
بعين جنرال سابق
فتح الجنرال السابق خريطة سوريا وبدأ يشرح…
عند حدونا توجد تل أبيض وإعزاز والطريق منهما إلى حلب تم قطعها من قبل «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي. حلب محاصرة من قبل الجيش السوري، بدعم جوي روسي. أي أن طريق حلب – إعزاز هي تماماً تحت سيطرة النظام.
القصف المدفعي التركي لن يفتح الطريق إلى حلب. لكن إذا دخل الجيش التركي برياً يمكن تحصيل نتائج. غير أن مثل هذه العملية غير ممكنة، إذ تفتقد الشـرعية الدوليــة. كما انها من دون دعم جوي ستفشل، حيث أغلق الروس المجال الجوي السوري أمام الطائرات التركية. أما القصف المدفعي فيهدف إلى منع تدفق اللاجئين، وحماية إعزاز من الأكراد، هي الواقعة على بعد سبعة كيلومترات من حدودنا.
«ميللييت»
سيناريوهات الفرات
بدأت روسيا تدخلها العسكري في نهاية أيلول 2015، وكان هدفها الأول دعم النظام. تصريحات احمد داود أوغلو قبل أيام كانت تعكس انقطاعا عن الواقع. قال إن الأداة الأهم لروسيا في سوريا هي «قوات الحماية» الكردية. لكن غاب عن باله أن هذا غير صحيح، بل إن الأداة الأولى لروسيا في سوريا هي روسيا نفسها.
هل تعتمد روسيا في عملياتها العسكرية في محيط حلب وفي سوريا، والتي غيرت المعادلات، على الأكراد؟ بالتأكيد لا. بل تعتمد على الجيش السوري.
في مواجهة فشل سياساته في سوريا لم يكن أمام داود اوغلو سوى تحريك الغرائز القومية، واتخاذ الأكراد هدفا له. فهل يورط تركيا في مغامرة لحماية نفسه؟. صعب جدا. فأمام ذلك صعوبات كثيرة، لكن كل شيء ممكن في حال الحماقة واللامسؤولية، لا سيما في ما يتعلق بما بعد سيناريوهات الفرات.
«راديكال»
(السفير)