معركة الرقة بين استعدادات الجيش وهواجس «داعش»: عبد الله سليمان علي
معركة الرقة بقياس المسافات لا تزال بعيدة نسبياً، لكنها بقياس طموحات الجيش السوري ومخاوف تنظيم «داعش» تزداد اقتراباً. وبالرغم من أنه ليس في المدينة، التي تعيش على وقع الأزمة المالية، لتنظيم «داعش» أي مؤشرات تدلّ على قرب اندلاع معركة فيها ؛ إلا أن عملية الجيش السوري على طريق أثريا ـ الرقة، وما يتخللها من قضم للتلال الحاكمة على امتداد الطريق، تؤكد أن تصريح المصدر العسكري حول «نية الجيش التقدم إلى الرقة» كان دقيقاً ومقصوداً من حيث المضمون ومن حيث التوقيت.
ويعمل الجيش السوري في معركته باتجاه الرقة على مسارين: الأول الاستمرار في عملية قضم الأراضي في المنطقة الصحراوية الفاصلة بين أثريا وحدود محافظة الرقة، مع التركيز على فرض سيطرته على التلال والمرتفعات التي تمنحه تغطية نارية واسعة. والثاني: حشد المزيد من المقاتلين والعتاد في المنطقة، تحضيراً لهجمات أكثر اتساعاً وقوةً من المتوقع أن يعطي الجيش إشارة البدء بها خلال فترة لا تتعدّى الشهر، كما قال «للسفير» مصدر ميداني.
وقد وصل إلى المنطقة بالفعل آلاف الجنود، بصحبة أرتال من العربات وناقلات الجند ودبابات «تي 90» المزوّدة بنظام الحماية الكهروبصري «شتورا» المُعَدّ لحماية الدبابات وإرباك الصواريخ الموجّهة سلكياً. وثمة توقعات بأن يتراوح تعداد القوة الضاربة، التي يفترض أن تقوم بهذه العمليات، ما بين 13 إلى 17 ألف مقاتل، وهو عدد ضخمٌ يدل على أهمية المعركة ونوعية النتائج المتوخاة منها.
وساد اعتقاد لدى قادة التنظيم في الرقة بأن مسارعة الجيش السوري الأسبوع الماضي للسيطرة على رسم أمون وجبّ السعدي جنوب الشيخ هلال في ريف حماه الشرقي، كانت بهدف توسيع نطاق سيطرته في تلك المنطقة الحساسة، تخوفاً من أي عملية هجومية قد يقوم بها «داعش» لإغلاق طريق أثريا ـ خناصر الاستراتيجي رداً على فك الحصار عن نُبُّل والزهراء، وهي عملية كانت متوقعة بشدة، خصوصاً في ظل مساعي «داعش» لاكتساب المزيد من «المبايعين» الذين كانوا سينظرون إلى إغلاق الطريق الاستراتيجي على أنه بمثابة إجهاض لكل عملية الجيش في ريف حلب الشمالي، وبالتالي سيحثّهم ذلك على القتال تحت راية التنظيم.
لكن هذا الاعتقاد تغيّر مع استمرار عملية الجيش، وتمددها على جانبي طريق أثريا ـ الرقة، مع التركيز على فرض سيطرته على التلال والمرتفعات وتأمينها، ما يمنحه تغطية نارية واسعة، بالإضافة لتأمينه أجزاء من الطريق الواصل إلى الرقة، مستهدفاً بسلسلة من الغارات الجوية حواجز تنظيم «داعش» على الطريق ما دفعهم لإخلائها. ولوحظ هنا أن الجيش ما زال يتحاشى السيطرة على طريق أثريا ـ الرقة، مفضلاً العمل بعيداً عنه مسافة تقارب 7 كيلومترات تحسباً من عمليات القنص.
وقد افتتح الجيش معركة باتجاه قرية زكية، التي يفترض أن تكون نهاية المرحلة الأولى من العمليات، حيث سيتخذها الجيش قاعدة للتحشيد والانطلاق. وسيطر على تلة المسبح ومجموعة من التلال الأخرى، ما أتاح له توسيع منطقة الأمان في محيط أثريا، وبالتالي تأمين التعزيزات والإمدادات التي تصل تباعاً. كما تقدم الجيش على محور سلسلة جبال مارينا، وهي امتداد طبيعي لحسو العلباوي وسيطر على 3 تلال منها. ومن شأن استكمال السيطرة على السلسلة أن يمنح الجيش تفوقاً بالرصد والتغطية النارية على كامل المحور المحاذي لها، ما سيؤدي إلى إسقاطه نارياً.
وتعتبر قرية زكية ذات موقع استراتيجي مهم، حيث تتوسط محافظات عدة، وهي حماه، الرقة، دير الزور، حلب، حمص، الأمر الذي يجعلها عقدة مواصلات مهمة للغاية. وتبعد زكية عن مطار الطبقة حوالي 40 كيلومتراً، هي عبارة عن مساحات صحراوية خالية، إلا من بعض التجمّعات السكنية الصغيرة. وعلى مسافة أقل من 10 كيلومترات عن زكية يوجد حقل صفيان الذي يقع على مفرق طرق بين الطبقة والرصافة، وقد وضع عليه «داعش» حاجزاً عسكرياً نظراً لأهمية موقعه.
وجراء هذه التطورات تكونت لدى قادة التنظيم قناعة تامة بأن المعركة التي تنتظرهم أوسع مما اعتقدوا للوهلة الأولى. وما زاد الطين بلّة بالنسبة لهم مراقبتهم لـ «قوات سوريا الديموقراطية»، وهي تكسر خطوط أنقرة الحمراء في ريف حلب الشمالي، ما يعني احتمال قيامهم بخطوة مماثلة غرب نهر الفرات في محيط جرابلس ومنبج، وكذلك احتمال تحركهم على محور عين عيسى، الأمر الذي يعني وقوع التنظيم بين فكَّي كماشة، بالإضافة إلى تشتيت مقاتليه بين جبهات قتال متعددة.
وفي مساعٍ منه لجس النبض والعرقلة، قام «داعش»، فجر أمس الأول، بتفجير سيارة على أحد الحواجز العسكرية في وادي العذيب جنوب شرق أثريا، وهو من الحواجز المهمة في المنطقة. وسقط جراء التفجير شهيد واحد من القوات الحليفة للجيش السوري وعدد من الجرحى. وكان «داعش» قد استهدف، الأسبوع الماضي، وادي العذيب ببعض قذائف الهاون انطلاقاً من تلة التناهج التي يسيطر عليها.
كذلك، أُعلن أمس الأول عن تمكّن قوات الجيش السوري في محيط منطقة الشيخ هلال توقيف ثلاث سيارات من نوع «انتر» محملة بالأسلحة، من بينها صواريخ «كورنيت» المضادة للدروع، بالإضافة إلى سيارة محملة بالسماد الذي يستخدم في تجهيز المتفجرات. وهو ما يثبت أن «داعش» بدأ بالفعل يتلمّس جدية مساعي الجيش لفتح ثغرة، نحو أول محافظة خرجت عن سيطرته قبل ثلاثة أعوام تقريباً.
لكن هذا لا يعني أن التنظيم بدأ يشعر بخطورة مباشرة، خاصة أن المسافات التي يجب أن يتجاوزها الجيش، قبل أن يطرق باب الرقة، ما تزال طويلة نسبياً، فالمسافة التي تفصل بين آخر نقطة سيطر عليها الجيش، وهي مخفر الطرق، وبين الطبقة تبلغ حوالي 41 كيلومتراً، وربما لولا درس مطار كويرس كان التنظيم نظر إلى تحركات الجيش البعيدة هذه بعدم اكتراث.
مع ذلك بدأت خطب صلاة الجمعة التي يلقيها أئمة المساجد المعيّنون من قبل «داعش» تعكس حقيقة الهواجس التي أصبح التنظيم يعيش تحت وطأتها في مدينة الرقة. فغالبية الخطب تتحدث عن مرحلة جديدة وصعبة مقبلة على المدينة. ويركز الخطباء على أن الجهاد في هذه المرحلة هو «الجهاد الحقيقي» مع حثّهم لأبناء الرقة للانضمام إلى صفوف مقاتلي التنظيم والدفاع عن «دولة الخلافة».
هذا الهاجس الجديد ليس الوحيد الذي يشغل بال «داعش» في الرقة، فهناك ظاهرة باتت لافتة للانتباه في المدينة، التي يفترض أن تكون نموذج «داعش» لتطبيق ما يعتقد أنه «الشريعة الإسلامية». وتتمثل هذه الظاهرة في قيام التنظيم بإلغاء العديد من «الحدود» (عقوبات الجلد والقطع والرجم) مقابل فرض غرامات مالية على المخالفين للأحكام التي يطبقها. فعوضاً عن قطع يد السارق، على سبيل المثال، أصبح التنظيم يفرض غرامة مالية كبيرة. ويشترط أن يتم دفع بعض هذه الغرامات بالدولار حصراً.
وحسب بعض المراقبين فإن هذه الظاهرة تشير إلى تفاقم الأزمة المالية التي تعرّض لها التنظيم منذ بدء الطائرات الروسية قصف أرتال تهريب النفط إلى الدول المجاورة. علاوة على ذلك، يعيش مقاتلو «داعش» في حالة أمنية صعبة، بسبب الغارات الجوية التي تستهدف معاقلهم وأرتالهم، وربما هذا ما دفع التنظيم إلى الإيعاز لهؤلاء بالامتناع عن تسيير أرتال أو مواكب ضمن المدينة، والاستعاضة عن ذلك بركوب سيارات الأجرة ذات اللون الأصفر للتمويه على تحركاتهم، مع التشديد على عدم رفع الراية السوداء، لا على المباني ولا على السيارات لأنها تسهّل استهدافهم.
(السفير)